لبنانُنا الفقيرُ يحتفل بمئوية «لبنان الكبير»… جمهوريةٌ ومراسمٌ وعلمٌ ووهمٌ بمذاقِ وطن!!
بقلم : ندى حطيط ... 04.09.2020 بينما يغرق تقاطع الطّرق المسكين المسمى لبنان في وهدة أزمته متعددة الطوابق، وتلملم العاصمة بالكاد ركامها وزجاج منازلها، التي زلزلها انفجار ربع نووي أنتجه تعفن إداري لم يُسمع به في البلاد، ويتدنى مستوى عيش ملايين الفقراء، الذين غدر بهم تحالف التاريخ الخاطىء والجغرافيا غير الرّحيمة فسمّاهم لبنانيين، لتفتك بهم الأمراض المستعصية والجهل والفقر والمخدرات، وتتسابق أمم الأرض الكبرى والصغرى في الإقليم والعالم على مدّ النفوذ عبر شراء الذمم والولاءات بالنقد الأجنبي وخلافه، ويتمسك أمراء الطوائف وحواشيهم الفاسدة ويتسابقون في إلقاء الحرب الأهليّة في وجه الناس وكأنها ورقة (كوتشينة) في لعبة بوكر في ناد للأثرياء المترفين، ويتربّص العدوّ القابع جنوباً بالبلد لحظيّاً مهدداً باجتياحه، فيما سماء قطعة السما – كما يغنيها الصافي الراحل – ملعب فضاء حرّ للطائرات والصواريخ الإسرائيليّة، ويهمّ وحش كورونا بكسر حدود الخطر الحمراء ليبدأ بنهش الضحايا دون توفر حتى أسرّة علاج لهم، وغيره وغيره وغيره. ليطلع علينا سدنة الهيكل أمراء الحرب الذين صاروا بحكم «اتفاق الطائف» قادة ونخبة حاكمة بمزحة سمجة تصيب العاقل بالصدّاع، اسمها الاحتفال بمئويّة «لبنان الكبير» خصصت لها ساعات هواء تلفزيونيّة وإذاعيّة بلا نهاية، واستدعي لها ذات الجهابذة من علاكي الكلام المتنقلين بين الشاشات اللبنانيّة الكثيرة للتعليق على تحولات جذريّة – يقودها للأمّة العمناويل ماكرون الرّئيس الفاقد للشرعيّة الشعبيّة في بلاده ذاتها، والمقاول المعتمد لدى الدّول الكبرى لغايات ترقيع الوضع القائم لبنانياً – لحظة إطلاق المئوية الثانية لهذا «الكبير الذي مساحته لا تزيد عن 0.005 من مساحة الجزائر».
*ألا يقرأون التاريخ أم على قلوبهم أقفالها؟
قراءة خاطفة للتاريخ – بغض النظر في حالة «لبنان الكبير» إن كتبه عنه المنتصرون أو المنهزمون – تشير إلى أن هذا الكيّان لم يكن سوى تركة استعماريّة كولونياليّة محضة، أتت في سياق مرحلة انقضت منذ عقود لتقاسم المنطقة بين الفرنسيين والبريطانيين، حسب اتفاقية سايكس – بيكو، تم تأييدها لاحقًا من عصبة الأمم – الفاجرة – التي أجازت نظام الانتداب الفرنسي والبريطاني على مناطق تبخّر الوجود التركيّ منها، بحجة مساعدة السكان المحليين على الرشاد في وقت ما والتمكّن كما السادة الأوروبيين من حكم أنفسهم. وقتها قرر الفرنسيّون المصابون بكل عقد الاستعلاء والعنصريّة والشوفينيّة والاستشراق معاً تقسيم حصتهم من بلاد الشام إلى كانتونات طائفيّة – سنيّة وعلويّة ودرزيّة ومسيحيّة، لا يمتلك أي منها مقومات العيش المستقل، وولّت عليها أمراء وزعماء – ممن بذلوا الغالي والنفيس لإظهار الولاء للمستعمر.
متصرفيّة جبل لبنان، كما وقت الاحتلال العثماني، كانت أصغر من أن ينشأ فيها أكثر من مخفر جندرمة واحد، فتقرر لأجل عين وجهاء المنطقة من أصدقاء فرنسا التاريخيين ضم المدن السّاحلية، ومنطقة جبل عامل، وسهل البقاع والسهول الشمالية إليها، لتصبح ما أطلق عليه الجنرال غورو، في الأول من شهر أيلول/سبتمبر عام 1920 دولة «لبنان الكبير». وبغض النظر عن استقلال مزيّف مراسيميّ فقد بقي «الكبير» في عهدة الجيش الفرنسي لغاية 17 نيسان/ابريل 1946.
الأب الروحي للكيان اللبناني ابتكر صيغة تصالحيّة لإرضاء وجهاء الطوائف، التي حشرت معاً في دولة فرانكشتاين اللبنانيّة الملفقة تقوم على مأسسة الطائفية والمذهبيّة السياسية، وإتْباع الرّعايا، كما القطعان لعوائل قليلة من البكوات والإقطاعيين والأفنديّة والباشوات، الذين – برفقة بكوات جدد أنتجتهم الحرب الأهليّة الأخيرة – ما زال أبناؤهم وأحفادهم يتوارثون تركة المستعمر الفاسدة وينهشون من لحم ناسهم إلى وقتنا الراهن وغداً وبعد غد.
*الجمهوريّة الدوّامة: معارك في حروب كثيرة
فرنسا المنهكة من كارثة الحرب العالميّة الثانية، تركت محاسيبها زعماء الطوائف في الجمهوريّة المزعومة – البريطانيون كانوا يتركون لأتباعهم في بلادنا العربيّة ممالك، والفرنسيون جمهوريّات فلكل حسب نظرية الحكم عند سادته – ليتدبروا أمورهم في عالم شرع بالأمركة الشاملة سياسة وثقافة واقتصاداً، وتحولت فيه العلاقات الكولونياليّة المحضة إلى نسق جديد ما بعد كولونيالي يمنح الشعوب دولاً كرتونيّة ومراسيم وأعلاماً، دون أي سيادة حقيقيّة، وأصبح فيه الكيان العبري – تركة الاستعمار الأكثر سميّة – جاثماً على قلب جغرافيّة المنطقة ومدعاة لكل الكوارث.
وهكذا وجد «لبنان الكبير» نفسه ملعباً للصراعات بين أمراء الطوائف بالأصالة، والرّعاة الأجانب بالوكالة، كما لو كان دوّامة لا تكفّ عن الدوران: تارة للتصفيات وأخرى للمعارك العسكريّة أو قصف البروباغندا، أو مقراً للتآمر والجاسوسيّة، كانت ذروتها الحرب المسلسل 1975 – 1990 التي سقط فيها أكثر من 100 ألف قتيل، غير مئات آلاف الجرحى والمفقودين والمشردين والمفقرين.
ثم يأتيك من يريد الاحتفال بمئويّة «لبنان الكبير».
*وهم على وهم على وهم
في موجز وضعه الفيلسوف السلوفيني الشهير سلافوي جيجيك تعليقاً على حادثة الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001 سمّاه «مرحباً بكم إلى صحراء الواقع» اعتبر أن الأمريكيين – والغرب عموماً – كانوا يعيشون قبلها في أجواء صورة موهومة مفلترة عن العالم، حيث العنف الهائل المجاني مقتصر على شاشات هوليود، فيما المذابح والقنابل النووية والقسوة تُرى على مسافة آمنة من وراء التليفزيون وأوراق الصحف.
ذلك الوهم انكسر، لحظة انفجرت الطائرات المخطوفة في برجي التجارة العالمي في نيويورك، ليرى الناس الخراب الهائل فوق رؤوسهم مباشرة، بعد أن سقطت تلك المسافة الآمنة شظايا أمام أعينهم وفي عقر دارهم. لقد وجدوا أنفسهم دون تمهيد في قلب صحراء الواقع القاحل الصادم.
على عكس الأمريكيين المصدومين، فإن الانفجار الهائل الذي ضرب العاصمة بيروت مساء الرابع من آب/أغسطس لم يكن كافياً في ما يبدو ليوقظ اللبنانيين على صحراء واقع الوهم المتراكب الذي يعيشون: وهم أنّهم «لبنان» ووهم أنّهم جمهوريّة ودولة، ووهم مئويّتهم ليجاهروا بها – ويباركها لهم حفيد المستعمر ذاته – ووهم أنهم بعد كل شيء مستمرون كأن شيئاً لم يكن. فالزعماء ما زالوا زعماء، والطوائف طوائف، واللصوص آمنون ومستمرون في النهب، وتجرى استشارات نيابية، وتتشكل حكومات وراء حكومات، ويداوم السفراء إلى سفاراتهم في العالم، وتصدر المحاكم أحكاماً، وتستضيف الشاشات موالين ومعارضين، وتصدر الأحزاب بيانات ويتوسط الفقراء لأبنائهم كي يلتحقوا بوظائف رسميّة ويسافر من يستطيع إلى الهروب سبيلا حاملاً أوراقاً ملونة مزينة بشجرة أرز يقبلها العالم ضاحكاً كجواز سفر لجمهوريّة يقال لها «لبنان الكبير».
*الإعلام سوق للوهم
صناعة الوهم اللبنانيّ المركب هذه تشترك بها جهات عديدة تربطها تداخلات بنيوية وتشابك مصالح. لكن السوق الذي يتبضع منه اللبنانيوّن جرعات يوميّة لتجديد اشتراكهم في هذا العرض المستمر ليس إلا الإعلام، وعلى رأسه التليفزيونات، التي تعود إليها أكثريّة اللبنانيين المتعبين بعد شقائهم اليومي الطويل، فيستلقون لا حول لهم ولا قوّة أمام الشّاشات، ويتجرعون كأس الوهم، كما حقيقة مزيّفة، ما تلبث تتكرر مثل موج بحر، فتملأ عقولهم وقلوبهم قبل النّوم.
بلى هناك جمهوريّة وعلم ومراسم وشخصيات سياسيّة وسفراء دول كبرى ومعارضة وموالاة وجوع وعوز ومرض وكورونا أيضاً، واسمنا «لبنان الكبير». *المصدر : القدس العربي
www.deyaralnagab.com
|