"زفّة وزغرودة يا بنات" ... أغانٍ تراثيّة بمزاجٍ مقدسيّ!!
بقلم : رشا حرز الله* ... 31.10.2020 كانت البداية مع اتّصال هاتفيّ، ورد من إحدى فتيات قرية بيت صفافا جنوب القدس قبل خمسة أعوام، للكاتبة المقدسيّة ماجدة صبحي، تطلب منها أهزوجة وأغنية شعبيّة تشارك بها في مهرجان نُظِّمَ في القرية.
لبّت ماجدة طلب الفتاة، لكنّ الأمر لم ينته بانتهاء الاتّصال، بل امتدّ إلى أن أبصر «زفّة وزغرودة يا بنات» النور، فما الّذي حدث؟
في قرية بيت صفافا بدأت المقدسيّة ماجدة صبحي مسيرتها واعظةً دينيّة ومدرّسة في «دار القرآن»، وتوسّع نشاطها بعد ذلك، ويشمل الانتساب إلى الجمعيّات الخيريّة والإنسانيّة، إلى أن أسّست برفقة عدد من نساء القرية «جمعيّة نماء»، الّتي أغلقتها سلطات الاستعمار الإسرائيليّ عقب مقتل الشهيد محمّد أبو خضير، الّذي أحرقه مستوطنون في 2 تمّوز (يوليو) من عام 2014، إلى جانب 22 مؤسّسة وجمعيّة أخرى.
منذ صغرها أحبّت الحكاية الفلسطينيّة، وكانت تجالس جدّتيها وتستمتع بما تقولانه، وبقيت كذلك حتّى كبرت، وصارت تروي ما تسمعه لأولادها وأولاد العائلة والجيران، لكنّها لم تكن معروفة على مستوى المؤسّسات، إلى أن أصبحت بعدها تشارك سنويًّا في «مهرجان الحكاية»...
كانت ماجدة، وهي أمّ لأربعة أبناء في تلك الفترة، تنشط في الأعمال الخيريّة الّتي تنظّمها «نماء»، وبينما كانت تُحَضّر لفعاليّات شهر رمضان الخيريّة وجمع التبرّعات للمحتاجين، أغلق الاستعمار الجمعيّة، لكنّ النساء القائمات عليها واصلن نشاطهنّ بعمل الفعاليّات والأنشطة داخل بيت صفافا، ومساعدة الأشخاص القادمين من مختلف أنحاء فلسطين للعلاج في مستشفيات القدس، حيث تُعَدّ وجبات الطعام لهم، وتُشْتَرى هدايا للأطفال للتخفيف عنهم.
تقول ماجدة: "إلى جانب ذلك، كان لي نشاط آخر في الفعاليّات التراثيّة، وأنا في الأصل حكواتيّة، وصرت كذلك بعد أن انتشر لي مقطع فيديو عام 2016 على نطاق واسع، كنت أروي فيه قصّة من مغامرات الطفولة بعفويّة، بعد ذلك اسْتُضِفْت في ‘مهرجان الحكاية‘ بمدينة رام الله، وطلب منّي القائمون عليه أن أروي قصصًا وحكايات عن فلسطين، ومن هناك أصبحت حكواتيّة في القدس".
ما ساعدها على ذلك أنّها كانت واعظة، ولديها اطّلاع وثقافة، وهي منذ صغرها أحبّت الحكاية الفلسطينيّة، وكانت تجالس جدّتيها وتستمتع بما تقولانه، وبقيت كذلك حتّى كبرت، وصارت تروي ما تسمعه لأولادها وأولاد العائلة والجيران، لكنّها لم تكن معروفة على مستوى المؤسّسات، إلى أن أصبحت بعدها تشارك سنويًّا في «مهرجان الحكاية» في محافظتَي القدس ورام الله، وفي قريتها بيت صفافا.
*رحلة التدوين
تُشير إلى أنّ لديها العديد من الكتب الّتي توثّق التراث الشعبيّ والحكاية، واحد من هذه الكتب يحوي أكثر من 500 حكاية تراثيّة، تختار ماجدة منها ما يناسب الفئة السنّيّة الّتي سترويها لهم، فتقول إنّ الحكايات الّتي تُرْوى للشباب، تختلف عن تلك الّتي تُرْوى للأطفال أو الشيوخ.
تضطرّ ماجدة إلى التجديد على الحكايات الّتي تحفظها، لتناسب عصرنا الحاليّ، مع الحفاظ على طابعها وهويّتها، وفي ذلك تقول: "أضطرّ إلى حذف بعض الكلمات أو الفقرات والتجديد عليها؛ لأنّها أحيانًا تحتوي على ألفاظ جريئة لا يصلح أن نقولها، وأخرى تمسّ بحقوق المرأة أو تتطرّق إلى مواضيع كالعبوديّة أو ما شابه ذلك؛ لذلك أضطرّ إلى تغيير كلمات أو إضافتها لتناسب واقعنا".
اتّجهت ماجدة عام 2015 إلى كتابة سيرتها الذاتيّة، الممتدّة منذ ولادتها عام 1967، وما عاشته من تفاصيل بعد نكسة حزيران (يونيو) 1967، كلّ ذلك جعل لديها رصيدًا من الحكايات الّتي يجب أن تُوَثَّق وتُروى للأجيال الجديدة. وما شجّعها أنّ حكاياتها وقصصها كانت تلاقي استحسانًا من الناس، خاصّةً خلال المؤتمرات أو الجلسات الجماعيّة، فينصحها الحاضرون بضرورة توثيقها في كتاب.
لكن في اللحظة الأخيرة، عدلت عن الفكرة، بعد أن هاتفتها إحدى الفتيات المشاركات في مهرجان «زورونا» السنويّ التراثيّ، الّذي يُقام في قرية بيت صفافا، وتنظّمه مجموعة من الشبّان والفتيات، يطلقون على أنفسهم «ولاد حارتنا»، عن أغانٍ وأهازيج شعبيّة للمهرجان، الّذي يُسْتَضاف فيه فنّانون فلسطينيّون، وتُنَظَّم فيه الزفّات التراثيّة الفلسطينيّة، ويُحْكى خلاله عن العادات والتقاليد الفلسطينيّة.
تقول ماجدة: "سألت نفسي: لماذا لا أبادر إلى تدوين الأغنية الفلسطينيّة وجمعها في كتاب، حتّى يعرفها الجيل الجديد؟ وفي حينها أخذت زمام المبادرة، وكان القرار بأن أغيّر موضوع الكتاب من سيرتي الذاتيّة، للحديث عن العرس الفلسطينيّ بمختلف تفاصيله".
"قبل التفكير في مشروع الكتاب الّذي عنونته بـ ‘زفّة وزغرودة يا بنات‘، وهو مقطع من أغنية فلسطينيّة، كنت دائمًا أجلس مع أمّي ووالدة زوجي، الّتي كانت تجمع نساء القرية في بيتها، هذه المرأة موسوعة في ‘المهاهاة‘ الفلسطينيّة والأغاني التراثيّة. كنت أسجّل ما تقوله وأرسله إلى الشباب ليستخدموه في المهرجانات...
وتضيف: "قبل التفكير في مشروع الكتاب الّذي عنونته بـ ‘زفّة وزغرودة يا بنات‘، وهو مقطع من أغنية فلسطينيّة، كنت دائمًا أجلس مع أمّي ووالدة زوجي، الّتي كانت تجمع نساء القرية في بيتها، هذه المرأة موسوعة في ‘المهاهاة‘ الفلسطينيّة والأغاني التراثيّة. كنت أسجّل ما تقوله وأرسله إلى الشباب ليستخدموه في المهرجانات".
دفع هذا ماجدة إلى أخذ الموضوع بجدّيّة أكبر، وبدأت بزيارة «ختياريّات» القرية اللواتي تعرّفت عليهنّ في جلسات الدروس الدينيّة الّتي كانت تقيمها في المساجد، وصارت تطلب منهنّ زيارتهنّ والتواصل معهنّ، وانتهزت علاقاتها القويّة في القرية، حيث تعاون أهلها معها بشكل كبير، في ما كانت حريصة على جمع الأغاني من عائلات مختلفة من القرية، ولا يقتصر على عائلة دون أخرى.
تشير ماجدة إلى أنّ جمع الأغاني لم يقتصر على النساء أيضًا، بل توجّهت للبدّاعين الّذين يقودون الزفّة، والزجّالين في القرية، وتعاونت معهم، وقد أمدّوها بالأغاني الّتي تتعلّق بالعرس الفلسطينيّ، بدءًا من حلاقة العريس فالحمّام والزفّة.
ما ساعد ماجدة على التوسّع في كتابها المكوّن من 260 صفحة، وصدر في أيلول (سبتمبر) الماضي، أنّه خلال جلسات الجمع الشفويّ للأغاني الفلسطينيّة، كان «ختياريّة» القرية يتوسّعون في السرد، ولا يقف الحدّ عند كلمات الأغاني فقط، بل كانوا يعودون بالذاكرة إلى الزمن القديم، ليتحدّثوا عن التفاصيل الدقيقة والمناسبات الّتي قيلت فيها تلك الأغاني، كيف ولماذا قيلت، إلى جانب الأغاني المتعلّقة بتحضير ولائم العرس والمشروبات الّتي تُقَدَّم، وما تفعله أمّ العريس يوم الحنّة، ومن أين تشتريها، وكيف كانت النساء يذهبن لتعبئة المياه من البئر أو النبعة، وغيرها من التفاصيل الّتي لا يعرفها الجيل الجديد، والّتي حتمًا ستضيع إن لم تجد مَنْ يحفظها ويدوّنها، وبذلك أصبح لديها مادّة جديدة.
تقول ماجدة إنّها سمعت قصصًا صدمتها، وأخرى أدهشتها، كما أنّ فيها المفرح والمبكي، وحرصت على توثيق كلّ ذلك في كتابها. وفي واحدة من القصص الّتي وثّقتها، والّتي تُظْهِر تأثير النكبة في حياة الناس ببيت صفافا، الّتي قُسِّمَت بالسياج إلى قسمين: قسم في الأراضي المحتلّة عام 1948، وقسم خارجه كان تحت الحكم الأردنيّ، إذ كانت إحدى الفتيات مخطوبة لابن خالها، وكان ممنوعًا على الطرفين الالتقاء بسبب هذه التقسيمات؛ فاضطرّت عائلتها إلى رميها من خلف السياج، حيث تلقّفها عريسها وعائلته من الجهة المقابلة، وتزوّجت دون وجود عائلتها.
*أثر التاريخ السياسيّ
توضح ماجدة أنّه بعد مرحلة التسجيل الشفويّ مع الناس، "رحت أُعيد سماع التسجيلات، وأكتبها وأحوّلها إلى لغة فصيحة، وأصنّفها ضمن المراحل الزمنيّة الّتي مرّ به العرس الفلسطينيّ، بدءًا من الحكم العثمانيّ إلى الانتداب البريطانيّ ومنه إلى زمن النكبة والنكسة، مرورًا بانتفاضة الحجارة الّتي اندلعت عام 1987، ووصولًا إلى انتفاضة القدس والأقصى عام 2000".
في هذا التنوّع التاريخيّ واختلافه، تتحدّث ماجدة: "كانت أغانٍ جديدة تدخل على العرس الفلسطينيّ، تناسب الواقع السياسيّ الّذي تمرّ به البلاد، فمثلًا في زمن النكبة دخلت بكائيّات على العرس والزفّة، وكانت النساء يغنّين ‘يحرم عليّ لبس الحرير الزينِ... عاللّي جرالك يا فلسطينِ‘، كما كنّ يرتدين أثوابهنّ بالمقلوب، دلالة على الفرح المنقوص والحزن على ضياع فلسطين، إلى جانب الأغاني الّتي رُدِّدَت إبّان استشهاد القائدَين عزّ الدين القسّام، وعبد القادر الحسيني، فصار الناس يتغنّون بسيرتهما في زفّة العريس".
وألقت الأحداث السياسيّة خلال النكسة وما بعدها بظلالها على العرس الفلسطينيّ، كذلك الحال في انتفاضة الحجارة، إذ كانت غالبيّة الأعراس تجري بصمت، احترامًا لدماء الشهداء، وإن كان لا بدّ من زفّة، فإنّها كانت تجري على أغاني «فرقة العاشقين»، والأغاني الوطنيّة، وبذلك يتحوّل إلى عرس وطنيّ.
وتؤكّد ماجدة أنّ التحوّلات والتغييرات الّتي طرأت على العرس الفلسطينيّ، لم تقتصر على الأغاني فقط، بل حتّى على اختيار العروس، صفاتها وحسبها ونسبها، وهو ما فصّلته في كتابها، حيث تطرّقت إلى أنّ الناس قديمًا كان لديهم اعتقاد بأنّ الفتاة السمينة والقصيرة هي الأنسب للزواج؛ لأنّ جسدها قويّ وتنجب أطفالًا أقوياء، وكانوا يردّدون الأمثال الّتي تتغنّى بذلك، فيقولون ‘خذ القصيرة وضمّها... والطويلة خلّيها تمسح السقف لإمّها‘، وكانوا يركّزون أيضًا على الحسب والنسب، ويفضّلون ابنة العمّ أو الخال أو بنت القرية، على البنت «الغريبة».
*تحوّلات وتغييرات
ثمّ تطرّقت في «زفّة وزغرودة يا بنات» إلى «المهاهاة» الفلسطينيّة، وما كانت تقوله النساء لأمّ العريس عند الذهاب لتهنئتها، ومن بينها "هي يا ريتو مبارك... هي يا ريتو سبع بركات... هي يا كما بارك محمّد... هي يا على جبل عرفات"، وتردّ أمّ العريس: "هي يا افتحوا باب الدار... هي يا وخلّي المهنّي يهنّي... هي يا وانا طلبت من ربّي... هي يا ما خيّبلي ظنّي".
تقول ماجدة إنّ ثمّة تشابهًا في العادات والتقاليد بين المدن والبلدات والقرى الفلسطينيّة، مع تغييرات بسيطة، سببها المصاهرة، إذ أصبح ابن القرية يتزوّج ابنة المدينة، الّتي تجلب معها ثوبها وعاداتها وتقاليدها؛ وهذا ما أحدث اندماجًا بينهم، ودخلت تعديلات على الأثواب من ناحية التطريز والنقوش.
ثمّة تشابهًا في العادات والتقاليد بين المدن والبلدات والقرى الفلسطينيّة، مع تغييرات بسيطة، سببها المصاهرة، إذ أصبح ابن القرية يتزوّج ابنة المدينة، الّتي تجلب معها ثوبها وعاداتها وتقاليدها؛ وهذا ما أحدث اندماجًا بينهم، ودخلت تعديلات على الأثواب من ناحية التطريز والنقوش...
لكن ما يميّز قرية بيت صفافا من غيرها، وقوعها بين مدينتين هما بيت لحم والقدس، وقربها للأحياء المقدسيّة مثل «حيّ القطمون» و«البقعة» الّتي تسكنها عائلات مقدسيّة، وأخذت طابعها وتأثّرت بمحيطها، وأدّى هذا الاندماج إلى تنوّع العادات والتراثيّات فيها.
تعكف ماجدة حاليًّا على مشروع آخر، يقوم على تسجيل الأغاني التراثيّة الّتي تضمّنها الكتاب، وتلحينها وتوزيعها على الناس ليردّدوها في المناسبات، سواء للعرس كانت أو للزفّة أو للحنّة.
ترى ماجدة أنّ الحداثة أثّرت في الأغنية الفلسطينيّة، حيث دخلت ثقافات وأغانٍ على أعراسنا أدّت إلى تراجعها، وليس هذا فحسب، بل إنّ العديد من النسوة بتن ينسين كلمات الأغاني التراثيّة لقلّة ترديدها، ومن هذا الباب اختارت توثيق الأغاني صوتيًّا، حتّى لا تبقى حبيسة الكتاب فقط، وتتّجه للتعاون مع فنّانين فلسطينيّين لغناء الأغاني الفلسطينيّة، خاصّة لمَنْ لهم جمهور. المصدر: عرب48.... *صحافيّة فلسطينيّة، تعمل مع وكالة الأنباء الفلسطينيّة - وفا.
www.deyaralnagab.com
|