التلوث الزراعي... تكلفة هائلة جراء التدهور البيئي في المغرب!!
بقلم : ياسر المختوم ... 04.10.2024 **ينمو القطاع الزراعي المغربي ومعه حجم مخلفاته، وعلى رأسها البلاستيك المستخدم في البيوت المحمية، والذي يشكل خطراً على الأهالي الموجودين بالقرب من مناطق التخلص العشوائي، كما يفاقم التدهور البيئي بسبب تلوثه بالمبيدات.
- فجعت والدة الطفلة المغربية إيمان التادلي أول أيام العام الدراسي، بوفاة ابنتها إثر استنشاق بقايا مبيد زراعي كان في غطاء بلاستيكي يستخدم في البيوت الفلاحية المحمية، وانتقلت المادة السامة إلى جسدها بعد اللعب بالبقايا التي جرى التخلص منها بشكل غير آمن وتنتشر في جهة سوس ماسة (500 كيلومتر جنوب غرب الرباط).
ظل السم يجري في عروق الطفلة ببطء، وفجأة انهارت ليسارع المعلمون بنقلها إلى المشفى وإبلاغ الأم التي ركضت، "لكنها توفيت فور وصولي" في الخامس من سبتمبر/أيلول 2022، وحدد التقرير الطبي سبب الوفاة بـ"استنشاق مادة سامة"، وهو ما تكرر مع سبع ضحايا قضوا في العام ذاته، جراء المخلفات البلاستيكية الفلاحية بحسب إفادة رئيسة قسم مراقبة التسمم بمركز محاربة التسمم واليقظة الدوائية الحكومية في الرباط، الدكتورة حنان الشاوي، والتي أكدت لـ"العربي الجديد" تزايد مظاهر التلوث الناتج من الأنشطة الفلاحية، وتابعت: "تم رصد 462 حالة تسمم في عموم المغرب، 10.9% منها يقف وراءها بقايا المبيدات الموجودة في النفايات البلاستيكية الزراعية والتي تسبب أمراضاً مزمنة يظهر أثرها مع مرور الوقت".
ويلوث البلاستيك المستعمل في البيوت الفلاحية، البيئة ببقايا المبيدات المتطايرة والمتفاعلة مع الماء والهواء والتربة، ويسبب ضرراً يتجلى أثره على المدى الطويل، وقد يؤدي إلى الإصابة بأمراض مزمنة مثل السرطان أو خلل الأعصاب، "لكن الربط بين هذه الأمراض وسببها، يتطلب المزيد من الأبحاث العلمية الدقيقة على ساكنة تعيش في بيئة البيوت الفلاحية البلاستيكية"، كما تذكر الشاوي وتحيل الأمر إلى مراكز الأبحاث الجامعية والتي من واجبها: "أن تقوم بهذه الدراسات".
%52 من المخلفات البلاستيكية في جهة واحدة
يعد القطاع الزراعي مصدر دخل رئيسيا لـ 40% من عمالة البلاد، و80% من سكان القرى تحديداً، ما يمثل 14% من الناتج المحلي الإجمالي، غير أنه وبحسب دراسة تقييمية أعدتها جمعية التكنولوجيا الزراعية (أنشئت في سوس ماسة عام 2006) ونشرت في يونيو/حزيران 2024 بالتعاون مع وزارة الانتقال الطاقي والتنمية المستدامة المكلفة بالبيئة، يفرز النشاط الزراعي سنوياً 100 ألف طن من المخلفات البلاستيكية 52% من بينها في سوس ماسة وحدها، والتي تعيش فيها أسرة إيمان، بينما لا تتجاوز نسبة تحويل النفايات إلى منتجات ثانوية (إعادة التدوير) 4%، بحسب معطيات حكومية وردت في تقرير موازنة عام 2024، وبالتالي تقدر تكلفة التدهور البيئي سنوياً بـ 32.5 مليار درهم (نحو 3.2 مليارات دولار)، ما يمثل 3.52% من الناتج المحلي الإجمالي، بحسب ما ذكرته وزيرة الانتقال الطاقي والتنمية المستدامة ليلى بنعلي، في اجتماع للجنة "البنيات الأساسية والطاقة والمعادن" النيابية، في السابع من يونيو 2023 ضمن الكشف عن استراتيجيتها "لتدبير النفايات البلاستيكية الفلاحية، القائمة على مراجعة الإطار القانوني وإدراج مبدأ المسؤولية الموسعة"، لكنها لم تعلن عن مدى زمني من أجل إتمام المراجعة (ما يعني عدم وجود التزام زمني بمراجعة تحقيق الخطة).
القطاع الزراعي مصدر دخل رئيسي لـ 40% من عمالة البلاد
وتؤدي إعادة استعمال البلاستيك الملوث بالمبيدات والأسمدة إلى حالات تسمم خطرة بلغت نسبتها 13.4% من مجموع حالات التسمم في 2016، بينما بلغ معدل الوفاة 3.3% بحسب تقرير "مؤسسة القرض الفلاحي" (حكومية) الصادر مطلع عام 2024 نقلاً عن إحصائيات المركز المغربي لمحاربة التسمم واليقظة الدوائية، التابع لوزارة الصحة، ويعترف التقرير بأن التخلص من مخلفات التقنيات الفلاحية الجديدة، "اتخذ أشكالا تسيء إلى المجال البيئي والإنسان على السواء، لما يحدثه ضرر حرقها أو طمرها أو رميها في مطارح عشوائية، أو حتى بيعها لإعادة استعمالها دون اتخاذ الاحتياطات اللازمة"، "بينما كان بالإمكان إعادة تدويرها والاستفادة منها".
وتوفر عملية معالجة طن واحد من البلاستيك 2025 لتر وقود، ما يعني أن إعادة تدوير 20 ألف طن من البلاستيك الفلاحي المستعمل، توفر 40.5 مليون لتر من الوقود، وتخفض 105 آلاف طن من الانبعاثات الكربونية سنوياً، بحسب تقرير مؤسسة القرض الفلاحي.
لذا تضيع على المغرب "فرص كبيرة نتيجة عدم تنفيذ مشروعات إعادة التدوير"، يقول رئيس جمعية "مغرب أصدقاء البيئة" (غير هادفة للربح) الخبير البيئي محمد بن عبو، موضحاً أن مشروعات إعادة التدوير يمكنها المساهمة في توفير موارد مالية لخزينة الدولة وحماية المنظومة البيئية، وبالتالي وفاء البلاد بالتزاماتها الدولية المتعلقة بالحد من انبعاثات الغازات الدفيئة.
وتعرف الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ IPCC (تأسست عام 1988 في سويسرا) الغازات الدفيئة بأنها تتواجد في الغلاف الجوي وتمتص الأشعة تحت الحمراء المرتدة من سطح الأرض وتراكمها في الغلاف الجوي ما يؤدي إلى الاحترار المباشر للكوكب، ويُقدر عدد هذه الغازات بأربعين نوع أهمها ثاني أكسيد الكربون (CO2) وأكسيد النيتروز (N2O) والميثان (CH4).
خطر محلي وآخر قادم من وراء الحدود
"يستخدم الفلاحون نوعين من البلاستيك؛ الأسود لتغطية التربة والأبيض لحفظ الزراعات من الرياح، ويباعان محلياً لإعادة استعمالهما كما يستخدمان أيضاً في زراعات أخرى بالبوادي"، بحسب إفادة رئيس جمعية منتجي الفواكه الحمراء بالمغرب، أمين بناني، والذي نفى وجود مطارح مخصصة لاستقبال النفايات الفلاحية رغم إلزام الفلاحين قانوناً بوضع النفايات في أماكن يفترض أن تكون معدة لهذا الغرض.
ولا يعد خطر التلوث محلياً فحسب، ففي يونيو 2015 حذرت الفيدرالية المغربية للبلاستيك (تجمع لرجال الأعمال) من استعمال البلاستيك الفلاحي القادم من إسبانيا، لأنه غالباً ما يكون ملوثاً بالمبيدات ولا يتوافق مع المعايير المحلية والدولية ويهدد صحة المستهلك المغربي.
وبالفعل صادقت الحكومة في أكتوبر/تشرين الأول 2017، على قانون يمنع استيراد الشباك والبلاستيك المستعمل من قبل، وقالت وقتها إن استمرار استيراد البلاستيك الفلاحي، يشكل تهديداً فعلياً قد يضر الإنتاج النباتي المغربي من خلال نقل بعض الكائنات الضارة (البكتيريا والفطريات والحشرات الفتاكة والفيروسات والأعشاب الضارة) ونشرها، غير أن مرسوم منع استيراد البلاستيك الفلاحي، والذي وقعه وزير الفلاحة السابق عزيز أخنوش (رئيس الحكومة حالياً) لم يتضمن عقوبات بحق مستورديه.
وبالرغم من تجاوب الوزارة المكلفة بالبيئة مع أسئلة معد التحقيق وردها بإفادة مكتوبة إلا أنها تجاهلت الرد على السؤال الأخير حول استمرار استيراد البلاستك الفلاحي، وكمية ما يحجز سنوياً منه في المنافذ، بينما يؤكد الكاتب الجهوي للاتحاد العام لمهنيي النقل، الشرقي الهاشمي، لـ"العربي الجديد"، أنه "بين الفينة والأخرى تحجز الجمارك كميات من البلاستيك الفلاحي، يتم التخلص منها بحرقها، وقبل عامين فقط حجزت سلطات ميناء طنجة كمية من البيوت البلاستيكية الفلاحية المستوردة، لكن لا أحد يعرف حجم الكميات المصادرة ومجموع البلاستيك الفلاحي المستعمل الذي يتم تهريبه إلى الضيعات (القرى) المغربية دون أن تتمكن الجمارك من حجزه". بالمقابل، أكد بناني أن "بعض الفلاحين يدخلون البيوت البلاستيكية تهريباً من إسبانيا، لاستعمالها في ضيعات تتراوح مساحتها بين هكتارين وعشرة هكتارات".
مأزق المطارح العشوائية
رغم تكثيف الإنتاج الزراعي مع تنفيذ مخطط المغرب الأخضر (2008 - 2018) ثم استراتيجية الجيل الأخضر (2020 - 2030)، لا يزال قانون عام 2006 المتعلق بتدبير النفايات والتخلص منها، هو المعني بتنظيم مواجهة الزيادة في إنتاج النفايات الفلاحية، فيما تغيب عنه مواد تشدد العقوبة على ملوثي البيئة، ولا يضع إجراءات تلزم المستثمرين بالتخلص الآمن من المخلفات، فالمادة 24 من القانون رقم 28-00 توجب على منتجي النفايات الفلاحية "إيداعها في أماكن التخلص منها المعدة لهذا الغرض"، وتتراوح قيمة الغرامة للمخالفين لذلك بين 200 وعشرة آلاف درهم (بين 20 دولاراً و1000 دولار)، دون أن تكشف السلطات الحكومية عن أماكن هذه المطارح أو عددها.
وميدانياً، وثق معد التحقيق عمليات التخلص غير الآمن من النفايات، إذ يلقيها الفلاحون بمطارح عشوائية أو يحرقونها لتلوث الهواء والمجاري المائية، ما يهدد صحة المواطنين والبيئة، بينما اعترفت الوزارة المكلفة بالبيئة في ردّها على أسئلة "العربي الجديد" بأن جل هذه النفايات لا يعاد تدويره، وبالتالي يتخلص منه بهذه الطرق.
ويبدو الأثر الخطير في ما توصلت إليه دراسة ميدانية نشرتها في أكتوبر 2021 "المجلة الدولية للبحوث البيئية والصحة العامة" (دورية شهرية) بعنوان "معارف ومواقف وتصورات الفلاحين فيما يتعلق بالمبيدات المسرطنة بمنطقة فاس مكناس" وشارك فيها 526 مزارعاً أفادوا بتعرضهم لعرض مرضي أو اثنين عقب تعاملهم مع المبيدات كضعف الرؤية (46%)، والدوخة (44.3%)، والصداع (39.4%)، والتعرق المفرط (34.4%)، وحدد 30.2% من المشاركين مشاكل الجهاز التنفسي كأثر صحي مرتبط بالمبيدات، وأفاد حوالي 15% من المزارعين بمشكلة إفراز اللعاب المفرط، وكانت أقل الآثار الصحية تسجيلاً هي النوبات (8.9%) والقيء (6.1%).
ويؤكد الحسين بسموم عضو لجنة المجال العمراني والبيئي بالجماعة القروية إنشادن (المجلس المحلي) بمحافظة أشتوكة آيت بها، والتي تتبع جهة سوس ماسة الأكثر إنتاجاً للنفايات الفلاحية، ترسخ الظاهرة، مشيراً إلى تقديمه تقريراً عن الأمر منتصف العام الماضي خلال اجتماع رسمي للبلدية بحضور ممثلي القطاعات الحكومية (وزارتا الفلاحة والداخلية) رصد خلاله تفشي ظاهرة التخلص العشوائي من النفايات في الطرقات وبالقرب من التجمعات السكنية، بالإضافة إلى حرقها ما يؤدي إلى الإضرار بالساكنة والحيوانات والبيئة"، لكن بعد عام من تقديم التقرير يصف بسموم تجاوب السلطات بـ"المحدود".
عدم تقييم فعالية مشروعات إعادة التدوير
تعترف الوزارة المكلفة بالبيئة المغربية بأن النسبة الكبرى من النفايات البلاستيكية لا يعاد تدويرها ومن ثم يتخلص منها بطرق غير آمنة، لكنها تقول في ردها المكتوب أنها نجحت في معالجة 45% منها بجهة سوس ماسة عام 2023، مؤكدة أن هذه النسبة جاءت بعد نجاح شراكة وقعتها مع جمعية التكنولوجيا الزراعية لجمع ومعالجة وتدوير نفايات البلاستيك الفلاحي بمساهمة تقدر بـ7.9 ملايين درهم (790 ألف دولار) مشيرة إلى ارتفاع نسبة التدوير من 18% في 2020 إلى 45% سنة 2023. كما تعمل الوزارة على "تصميم منصة صناعية بيئية لجمع المهنيين المعتمدين في مجال إعادة تدوير النفايات البلاستيكية الزراعية بسوس ماسة، تستوعب 30 وحدة متخصصة في إعادة تدوير النفايات و12 ورشة ميكانيكية بميزانية نحو 20 مليون درهم (مليوني دولار)، مع إمكانية توفير 500 فرصة عمل مباشرة".
لكن ثوريا الصبيري، رئيسة فيدرالية مجمعي وتدوير النفايات (تجمع للمستثمرين في تدوير النفايات)، تؤكد لـ"العربي الجديد" أن معدل إعادة تدوير نفايات البلاستيك الفلاحي حالياً، لا يتجاوز 10% على الصعيد الوطني، مشيرة إلى محدودية مشروعات إعادة تدوير هذه النفايات، وتقول: "فعالية مشروعات إعادة تدوير وفرز النفايات البلاستيكية الزراعية في المغرب يجب أن تكون موضع تقييم، إذ لا تخضع معظمها لتقييم الأداء وتعاني سوء التنفيذ جراء ضعف المراقبة" ما يؤكد أهمية توعية المزارعين وتوفير البنية التحتية الملائمة للحفاظ على موارد وبيئة المغرب. *المصدر : العربي الجديد
www.deyaralnagab.com
|