logo
مأزق أطباء الأردن... بيئة عمل طاردة للكفاءات النادرة!!
بقلم :  شروق شحدة | معاذ زريقي ... 03.12.2025

- غادرت الأربعينية الأردنية راجية مكي مستشفى البشير الحكومي في عمّان، يكسو وجهها شحوب المرض الممتزج بخيبة الرجاء بعدما أبلغتها موظفة الاستقبال بإلغاء موعد إجراء أشعة طبقية محورية لعدم توفر المادة الملونة اللازمة. ,"لم تكن هذه المرة الأولى" تقول مكي لـ"العربي الجديد"، وتضيف: "ألغي موعدان سابقان بسبب غياب الطبيبة، ما دفعني إلى تسجيل شكوى لدى وزارة الصحة".
هكذا انضمت مكي إلى 6.836 مراجعاً/ة آخرين تقدموا بشكاوى عبر وحدة "صوت متلقي الخدمة" خلال عام 2024، وفقاً لبيانات كشفت عنها الوزارة في ردّها المكتوب على أسئلة "العربي الجديد". ويكشف الرقم السابق عن اتساع نطاق المشكلة، فبحسب منصة "بخدمتكم" الحكومية يتضح أن الأعداد شهدت تصاعداً ملحوظاً بعد أن كانت 3.479 شكوى في 2021، ثم 2.318 خلال عام 2022، ثم 1.955 في 2023، تنوعت بين فئة سوء الخدمة في مرافق الوزارة ونقص الكوادر أو جراء تأخر وإلغاء المواعيد.
نزيف الكوادر النادرة
يعترف محمود زريقات، المدير السابق لمستشفى البشير، بالقصور الذي تشهده المؤسسات الصحية الحكومية، مرجعاً أسبابه لنقص الكوادر الطبية وقلة الموارد المالية، قائلاً لـ"العربي الجديد"، إن ضغط العمل وضعف العائد المالي وغياب الحماية القانونية للأطباء تدفعهم للهجرة. وبحسب بيانات وزارة الصحة، استقال 202 طبيب من الوزارة خلال آخر خمس سنوات، بواقع 31 في عام 2020، و29 في عام 2021، و52 في عام 2022، و37 في عام 2023، ثم 53 طبيباً في عام 2024. أرقام تبدو ضئيلة مقارنة بعدد الأطباء المقيدين بسجلات نقابة الأطباء والبالغ نحو 33 ألف طبيب، غير أن رئيس اللجنة الإعلامية في النقابة حازم القرالة يشير إلى أن معظم المستقيلين من ذوي التخصصات النادرة، كالجراحة والأورام وأمراض القلب، محذراً من استمرار الظروف المحفزة لهجرة الأطباء وبالتالي تتفاقم المشكلة المؤثرة بشكل مباشر على الخدمات الصحية العامة.
1300% نسبة زيادة عدد الأطباء الأردنيين في بريطانيا
العديد من هؤلاء الأطباء يهاجرون إلى بريطانيا، إذ تشير دراسة صادرة عن الجمعية الملكية البريطانية للجراحين في فبراير/ شباط 2025، إلى أن الفترة بين أعوام 2017 و2023 شهدت ارتفاعاً مطرداً في أعداد الأطباء الأردنيين المسجلين لدى المجلس الطبي البريطاني العام ليزيد من 25 في عام 2017 إلى 217 طبيباً في 2021 وتصاعد وصولاً إلى 260 طبيباً في 2022، لكنه بلغ ذروته في عام 2023 الذي سجل فيه 325 طبيباً، وفق آخر بيانات للمجلس نقلتها الدراسة المعنونة بـ"من الأردن إلى هيئة الخدمات الصحية الوطنية: سد الفجوة".
ومن أجل الانضمام إلى هؤلاء، يعد أخصائي الجراحة الأردني فرسان الفرسان نفسه للهجرة بعدما "باتت مهنته تهدد حياته"، إذ كان قاب قوسين أو أدنى من الموت ونجا بمعجزة في مرتين؛ الأولى لدى إصابته بجلطة قلبية خلال العمل في 2023، والثانية بعد عام حين غفا أثناء قيادته السيارة عائداً لمنزله بعد مناوبة استمرت لـ 30 ساعة ليفيق على صوت ارتطام سيارته بحاجز خرساني، ولم تكن تلك المناوبة استثناء، مشيراً إلى أن زملاءه في العمل قد يعاينون نحو 80 حالة أثناء المناوبة الواحدة. ورغم غياب متوسط عالمي للعدد الأقصى للحالات التي يمكن للطبيب فحصها يومياً، إلا أن هيئات كالجمعية الطبية البريطانية (نقابة عمالية)، تشدد على أنه "حتى يتمكن الطبيب العام من تقديم رعاية آمنة عليه ألا يفحص أكثر من 25 حالة يومياً"، أي أقل من ثلث الحالات التي يفحصها الطبيب الأردني، وفقا للفرسان، الذي يرى أن الوضع في الأردن يتعارض مع أبسط قواعد التشخيص الطبي، المستند إلى معرفة الطبيب "سيرة مرضية دقيقة تفضي إلى تشخيص دقيق"، ويوضح أنه "حين تكون السيرة ناقصة، يزيد احتمال وقوع الأخطاء الطبية".
وغير الإرهاق والأخطاء الطبية المحتملة، يعرّض طول ساعات العمل الأطباء لمخاطر صحية، خاصة التي تزيد عن 80 ساعة أسبوعياً، إذ تتعارض مع تحذير أطلقته منظمتا الصحة العالمية والعمل الدولية في مايو/ أيار 2021 بعدما رصدتا وفاة 745 ألف شخص بسبب السكتة القلبية والقلب الإقفاري (أحد أعراض تصلب شرايين القلب) في عام 2016 جراء العمل أكثر من 55 ساعة أسبوعياً، وخلصت إلى أن تخطي ساعات العمل هذا الحد يرتبط بزيادة خطر الإصابة بالسكتة بما يُقدّر بنسبة 35% وبزيادة خطر الوفاة بسبب مرض القلب الإقفاري بنسبة 17%، مقارنةً بالعمل 35-40 ساعة أسبوعياً.
ما سبق يرسخ شعور طبيب التخدير المقيم في الإمارات محمد رضوان تجاه قراره بالسفر، قائلاً لـ"العربي الجديد"، إنه بات يعمل 48 ساعة أسبوعياً بعدما كانت 80 في مستشفى الزرقاء الحكومي القديم، ويتقاضى عشرة أضعاف راتبه في الأردن. ووفقاً للقرالة، يراوح متوسط راتب الطبيب العام ما بين 850 و900 دينار (بين 1199 دولاراً 1270 دولاراً) والأخصائي لا يقل عن 1200 دينار (1692 دولاراً) ليرتفع مع زيادة سنوات الخبرة.
من يحمي الطبيب؟
على عكس رضوان، لم تكن هجرة محمد جلال إلى ألمانيا نابعة من أسباب مالية أو جراء ضغط العمل، إنما لغياب الأمان الوظيفي وما يصفه بـ"البيئة الطاردة" بعد تطبيق قانون المسؤولية الطبية والصحية رقم 25 لسنة 2018، يستدرك موضحاً أن القانون لم يوفر للطبيب أي حماية، ويشرعن الملاحقة القانونية جراء أخطاء حدوثها وارد جداً في ظل بيئة عمل ضاغطة، كالمادة 20 التي تعاقب مقدمي الخدمات الطبية بغرامة بين ثلاثة وخمسة آلاف دينار (4231 دولاراً و7052 دولاراً) إذا ما خالف معايير مثل "استخدام الأدوات والأجهزة الطبية اللازمة لتشخيص متلقي الخدمة ومعالجته وفقاً للأصول العلمية المتعارف عليها"، وهو ما يراه ظلماً للأطباء، لأن "صيغة القانون لا تحدد ما هي الأصول العلمية، فهناك أكثر من بروتوكول متبع مع الحالات، خاصة الطارئة، ولا يمكن محاسبة الأطباء على أمور فنية تخصهم وحدهم"، مشيراً إلى وجوب "حماية الأطباء من بيئة عمل تسهل وقوعهم في الأخطاء الفنية، فكيف يُتوقع من طبيب لم يغفُ منذ يومين، اتخاذ قرار حاسم بغرف العمليات".
ولا توفر النقابة دعماً قانونياً للأطباء بل إنهم هم الذين يتكفلون، وفق جلال والفرسان، بأتعاب المحامي حتى في القضايا المتعلقة بأخطاء فنية، وهي بيئة قانونية دفعت بالدكتور زريقات لتوقع زيادة معدلات هجرة الأطباء، قائلاً: "القانون الحالي يجرّم الطبيب في حال حصول أي مضاعفات، ويحال للمحاكمة دون آليات حماية أو توفير نفقات التقاضي".
عجز حكومي
يستوعب القطاع الحكومي 20.1% فقط من الأطباء، بواقع 7360 طبيباً موزعين بين المستشفيات الحكومية والجامعية من أصل 36 ألفاً و437 طبيباً، بينما يعمل في القطاع الخاص 25 ألفاً و175 طبيباً، وفي الخدمات الطبية الملكية 2919 طبيباً، ويعمل 674 طبيباً في مستشفى الملك المؤسس، و95 في وكالة غوت وتشغيل اللاجئين "الأونروا"، فيما تضم المملكة 9722 طبيب أسنان، منهم 947 في وزارة الصحة، مقابل 8122 في القطاع الخاص، و469 في الخدمات الطبية، و154 في مستشفى الجامعة، و30 في وكالة الغوث.
وعلى الرغم من حاجة المشافي العامة الشديدة للكوادر فإن وتيرة التعيينات الحكومية ليست كافية لاستيعاب سواء الخريجين الجدد أو الأطباء خارج القطاع الحكومي، وفق محمود زريقات الذي يؤكد حاجة مشافي الأردن الحكومية لأربعة أضعاف العاملين لتحقيق حد أدنى من الاكتفاء، بينما تؤكد وزارة الصحة اتباعها مسارات لتحقيق اكتفاء الكوادر، وقالت إنه قبل يوليو/تموز 2024 كانت الوزارة تعين بين 600 و700 طبيب، مع تغطية جزئية للوظائف من خلال بند "بدل المجاز" (شواغر تتيحها الوزارة لسد العجز الناتج عن إجازات الأطباء) الذي أتاح سابقاً تعيين نحو 200 طبيب إضافي سنوياً. لكن، ووفقاً للوزارة، أغلق هذا البند في تعيينات 2024، وحُدد الأطباء المعينون سنوياً بـ 450 طبيباً، دون وجود شواغر لتغطية النقص أو استبدال المجازين.
وتبدو مفارقة جلية بطلاها نقص الأطباء في المستشفيات الحكومية ومنافسة شرسة بين الأطباء على فرص القطاع الخاص، فوفقاً للقرالة، يتخرج نحو 3500 طبيب سنوياً من الجامعات الأردنية، فيما لا تتجاوز فرص التوظيف في السوق المحلية 1100 إلى 1200 وظيفة، ما يدفع الخريجين للبحث عن فرص تدريب وعمل بالخارج فلا يمكنهم البقاء وفق توصيف "طبيب عام" طويلاً دون تطور وظيفي أو علمي، من بين هؤلاء علي خريسات خريج عام 2019 الذي استقر في روسيا ليعمل في مستشفى خاص براتب شهري 110 آلاف روبل (1332 دولاراً) بعدما فشل في إيجاد فرصة عمل مناسبة بالأردن لمدة عامين، مؤكداً ضعف المردود المالي لكل الوظائف التي عرضت عليه، وتراوحه بين 350 إلى 500 دينار (494 إلى 705 دولارات) ما دفعه للهجرة ويقول: "الرواتب صفرية مقارنة بالجهد"، وبالجودة أيضاً، إذ اجتاز خريسات الامتحان الروسي المخصص للأطباء الأجانب بنجاح، وحصل على منحة لاختصاص الجلدية والتناسلية، وأنهى درجة الماجستير ويكمل دراسة الدكتوراه هناك.
فشل الترغيب والترهيب
في ردها على "العربي الجديد"، لم تتحدث الوزارة عن خطة لاستبقاء الأطباء وإثنائهم عن الهجرة، لكنها ذكرت "وجود آليات عمل"، تشمل صرف الحوافز، وإلحاق الكوادر ببرامج التعليم والتدريب المستمر، إضافة للترقيات المهنية والإدارية، كما تسعى نقابة الأطباء لتحسين ظروف العاملين مالياً ووظيفياً. ويؤكد حازم القرالة نجاح مجلس النقابة السابق في رفع علاوة بدل التفرغ من 35% إلى 55%، لتصبح ما بين 97 ديناراً و150 ديناراً (من 136 دولاراً وحتى 211 دولاراً)، بينما بقيت مطالب أخرى قيد التفاوض مع الحكومة، مثل تدشين صندوق للادخار ورفع مكافأة نهاية الخدمة. وينقل القرالة عن الأطباء استياءهم من تأخر تنفيذها رغم أنها زهيدة، وخاصة أن مكافأة نهاية خدمة الطبيب في القطاع العام تراوح بين ثلاثة آلاف وخمسة آلاف دينار، معتبراً أنها ضئيلة إذا قورنت بقطاعات أخرى تراوح فيها المكافآت بين 30 ألف دينار و150 ألف دينار (نحو 42 ألف دولار و211 ألف دولار).
الأطباء المقيمون يعملون 4 سنوات دون أجر لنيل التخصص
هذه الحزم المالية الإضافية لم ترغِّب الأطباء بالبقاء، وفشل ترهيبهم أيضاً، فمعدلات الهجرة المتنامية تأتي في وقت يلزم فيه الأطباء المقيمون بدفع مبالغ مالية إذا ما رغبوا في السفر دون إتمام سنوات تفرضها عقود يوقعونها قبل الالتحاق ببرامج العمل والتدريب للحصول على شهادات التخصص، والمعروفة بـ"الإقامة غير مدفوع الأجر" في المستشفيات الحكومية، وهو مسار يلتحق به الأطباء العامون غير المعينين في القطاعات الصحية المختلفة، ليعملوا دون راتب أو تأمين صحي، من أجل الحصول على درجة الاختصاص التي تمكنهم من التطور المهني والمالي، إلا أن المفترض شيء وما يجري على أرض الواقع شيء آخر، إذ يحمل الأطباء مسؤوليات ثانوية تخص الممرضين والإداريين فتعيقهم عن التعلم وتحصيل الخبرات، يقول الفرسان الحاصل على اختصاص الجراحة بعد خمس سنوات تدريب، ووقع كفالة عدلية بقيمة 50 ألف دينار (70523 دولاراً)، بموجب شرط "كل سنة تدريب مقابلها سنتان من الخدمة في وزارة الصحة أو دفع 5 آلاف دينار عن كل سنة خدمة لم تستكمل"، مضيفاً أن هذا الشرط أجبره على البقاء في الأردن رغم رغبته في العمل بالخارج لتحسين وضعه المالي. وتؤكد الوزارة هذه الآلية نافية في الوقت نفسه "إلزام الأطباء بدفع تكاليف إضافية عند التحاقهم بالبرنامج"، مضيفة: "لكن في حال أخلّ بالشروط، تُفرض عليه التزامات مالية".
ما يشكو منه الفرسان أكده أربعة أطباء مقيمين لـ"العربي الجديد"، جميعهم يشتكون من استغلال مشغليهم وتكليفهم بمهام تتخطى أدوارهم وصعوبة الحصول على فرصة للتعلم وتلقي الخبرات المهمة في تخصصاتهم، ويذهب رضوان لوصف هذا البرنامج بـ"عبودية الأطباء"، قائلاً إن الاستغلال في هذا المسار ليس مالياً فحسب لكنه يمتد ليكون نفسياً وجسدياً طويل الأمد، فالطبيب المقيم يعمل أحياناً عدد ساعات الأخصائيين نفسها، ويتحمل مسؤولياتهم دون أي تعويض مادي.
كان رضوان قد خضع للمسار ذاته 4 سنوات، من أجل نيل درجة التخصص، إلا أن طلبه الحصول على إجازة بدون راتب والسفر لتحسين وضعه المادي جرى رفضه، ورغم هذا لم يكترث وغادر البلاد، إلا أنه جرى نشر اسمه في الجريدة الرسمية بعد شهرين واعتباره "فاقداً للوظيفة" ما يلزمه بدفع 32 ألف دينار، لا يزال يسددها حتى اليوم بالتقسيط، ولا يفكر أبداً في العودة لممارسة المهنة بالأردن.

**المصدر : العربي الجديد

www.deyaralnagab.com