أحدث الأخبار
الجمعة 01 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
كثيرة البكاء !!
بقلم : غدير أبو سنينة  ... 18.10.2013

اليوم، في قرننا الحادي والعشرين، تتحوّل أساطيرنا إلى أهازيج ومواويل وفراقيات تطفح بشجن حزين.
موشَّحة بالبياض، وبِشَعرٍ منسدلٍ على الكتفين، كانت تجوب أطراف أنهار المكسيك ليلاً، باكيةً فَقْد أبنائها. لم يكن في شكلها ما يثير الخوف، بل فيما يذهب إليه نحيبها.
خمسة قرون مضت على الأسطورة، وما زال هناك من قد يصل بيته في المناطق التي عاشت فيها "كثيرة البكاء"، بوجه مكفهرٍّ قائلاَ: لقد سمعت صوت البكّاءة.
ولئن كانت المكسيك البلد الأصلي لمنشأ الأسطورة، إلّا أنّنا نجد المرأة كثيرة البكاء في مناطق أخرى منها بأسماء مختلفة.
في كتابه، "رؤية المغلوبين"، يتحدث الكاتب أنخل ماريا غارياي عن بعض الطوالع التي أنبأت بأفول الحضارة الأزتيكية، ومن بينها المرأة الأفعى أو زيهواكواتل، أو كثيرة البكاء، التي كانت تجوب الشوارع الواسعة لمدينة تينوتشتيتلان (عاصمة المكسيك حاليا) لاهثة وباكية.
فحسب رواية الأزتيكيين، فقد نبَّأتهم الآلهة باقتراب زوال إمبراطوريتهم بعد مدة قصيرة من ظهور امرأة بمواصفات البكَّاءة، فهي امرأة لا يمكـن تحديـد شكلها أو عمرها، ليست مجنونة، كانت أقـرب لآلهـة تنـذر بشـؤم.
كانت تجوب البلاد مُطلِقةَ لحنها البُكائي قائلة. "حان وقت الرحيل يا أبنائي"، "أين سأذهب بكم؟".
لكن عويلها يتبدد بمجرد غزو الأسبان لبلادها، وتختفي تماماً، لينتهي وقت البكاء الذي استمر عشرة أعوام قبل الغزو، متحوّلاً لمعاناة استمرت قروناً طويلةً، كُتبت خلالها الأغنية الشعبية الأشهر في المكسيك والتي حملت اسمها، ونسمع فيها الأبناء باكين وهم يَشكون ما حلّ بهم لأمهم "البكَّاءة".
أما النسخة الأسبانية المكتوبة بيد المستعمر كما أوردت الكاتبة المكسيكية كارمن توسكانو في كتابها "كثيرة البكاء" فتقول، إنها امرأة اضطهدها الرجل الذي أحبته، فخنقت أطفالها وانتحرت. وعند وصولها أبواب السماء، سألها الله عن أبنائها، فقالت إنها لا تعرف مكانهم، فأعادها من جديد إلى الأرض كي تبحث عنهم.
ثم إنها بقيت تنوح وتبكي خلال سنوات الغزو، والاستقلال، ثم الثورة، في أماكن كثيرة، بين الأشجار وفي محطات القطارات وتحت الأنفاق، حتى إنها وصلت إلى بلاسا مايور في مدريد، فكانت تجثو على ركبتيها، تبكي الرجل الذي هجرها وأبناءها الذين فقدتهم، وكان الناس يرتعدون لمجرد سماع نحيبها المخيف الذي يرجع صداه إلى بلادها.
إذاً، فالأمر يتغير عندما تصل الرواية إلى فم المُنتصر، الذي يسرقها بكل بساطة، ويستخدمها في تحسين صورته.
نسختان للأسطورة، إحداهما خطَّها الغالب والأخرى خطَّها المغلوب، لكن كلا منهما لا تبتعد عن المحور الرئيس، بكاء المرأة، عويلها ونحيبها، إحساسها العالي بقومها، شعورها بالخطر واتخاذ دورها في تحذير أبناء شعبها، الذين يواجهونها بموقف سلبي لا يبالي بحدسها، ألم تُهزم جديس عندما أهملت تحذيـر زرقـاء اليمامـة؟
واليوم، في قرننا الحادي والعشرين، تتحوّل أساطيرنا إلى أهازيج ومواويل وفراقيات تطفح بشجن حزين.
الأسطورة تتحول فلوكلوراً شعبيّا يحكي قصة ضيـاع البـلاد، ومـن منا لم يسمع "جفرا ويـا هالربـع"، التي بضيـاعها تضيع فلسطين؟
وتبقى الأسطورة الحقيقيَّة، تلك التي تستكملها أمهات فقدن أبناءهن في سوريا والعراق وفلسطين، ومناطق كثيرة منكوبة، فيما يتابع المنتصرتحوير الأسطورة دوماً لصالحه.

* كاتبة من فلسطين مقيمة في ماناغوا/نيكاراغوا...المصدر : العرب
1