أحدث الأخبار
الخميس 21 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
ألتوطين القسري وأثره على المجتمع البدوي في النقب!!
بقلم : زهير بن عياد* ... 30.09.2012

توطين البشر والفكر
كان التوطين بمسلكيته ونهجه وطريقة بعثه " ببساطة " خطأ تاريخيا فادحا متعمدا ، ما زلنا نعاني هزاته الارتدادية حتى الساعة ، لا غرو أن هناك مثل فاضلة أستهدفت بنيةوقويض مجتمع حي أساسه التقاليد والتراث والموروث لتسهل عملية ترويضه وتتطويعه ، وبالتالي تأطيره وتثبيته واحتواءه في حيز ضيق . وبتوجيهات سامية تمت مسايسة البدو بضروب ضبابية تفصلهم عن تاريخهم وواقعهم ووحي أسلافهم ، ومحصلة ذلك خروج جيل لم يرتقي الى مستوى الغير من معرفة وعلم وإدراك ، ولا ثَّبت بالمقابل على اصالته وطبيعته ، فآل حاله وماج إلى ما تراه اليوم من اضطراب وتلكأ وتفكك وضياع ذهني لم يستطع مواكبة عصره الذي يعايشه ، ببسيط العبارة الموجرة كان الفقر -كمثال- والعوز في أسلافنا يدفعهم للتكافل والتعاضد والتراحم ، والمثل الأسباني " إذا دخل الفقر من الباب خرج الود من الشباك " لم يكن فعالا بين البدو حينها إن لم ينبذوا من يقول بذلك أصلا حتى قال فيهم احد أباطرة المستشرقين انه من الغريب ان ترى البدوي ان نزل زادا أن يقاسمك لقمته حتى لو لم يعرفك ...
بإحتراف نزيه خلق أسلافنا ودا معين بينهم ألجأتهم اليه الظروف القاسية فجمعهم مزيج فريد من الصفات التي لا يمكن نكران فعاليتها في أستمرار الأجيال جيلا إثر جيل ، فشكل بدو النقب في سنين خلت لوحات عمل جماعية استثنائية عظيمة ما زالت تلهج بها ألسنة شيباننا ، فكانوا مجتمعا فعال ذا هوية حضارية ثقافية أدبية بزخم قوي وثقة نفس مستشرية ، ليتم كسر طوق ذلك وفي ظرف سنوات قليلة بشكل دراماتيكي فتاك ، فحواه تعطيل كل ذرة من كينونة البدوي ثقافيا اجتماعيا وحضاريا واقتصاديا ، لتهيء نفسيته ويضبط ايقاعها ويتم تهجينه بما ويتلائم مع العصر الجديد - فصار ذلك أو كاد - حتى تمخض عن ذلك هذا الإغتراب الزمني لدى البدو والإحباط المبهم المصاحب بتصدع فكري ثقافي وتشتيت في الرؤية الحضارية ...
في كواليس المسألة يظهر تعمد واستقصاد طمس التراث البدوي بأسره وما يحمله من مفاهيم ورؤى ، لأنه بيقين من أرادوا التوطين إستقر ان ذلك التراث إن إكتملت ملامحه يشكل عقبه في وجههم للسيطرة على الأرض ، فمفاهيم هذا التراث وايدولوجيته تبعث على التكاثر والنمو الديموغرافي ، الحياة الزراعية ، التكافل ، التفنن الابداع والمثابرة ، التعطش للحياة والجد بها ، روح التضحية والايثار والفزعة ، التأقلم مع الصعاب بل وقهرها وغير ذلك مما نلحظه في قرى البر التي ما زالت بها شذرات من هذا التراث تدفعهم لقهر الظروف ومعايشة الواقع رغم عدم توفر اساسيات الحياة العصريه فيها ، فهي إذا قواعد مستمدة من الاسلاف الذين ثبتوا في الأرض وتحكموا بمفاصلها ...
لهذا كله وطبقا لهذه التأويلات بدئ برسم بمنهاج ونمط روتيني خاص بالبدوي عليه ألا يتجاوزه فتم تطويقه وقضقضة الظروف التي تؤتي له بالرفاهية والعيش الكريم ، فحرم من ثقافته الأصلية (( وبسبب هذا الحرمان نرى اليوم تلك الطفرة النوعية والصحوة العاطفية في علوم البدو من أنساب وشعر ولهجة وأيام من خلال الانترنت بنوافذه المتعددة فيسبوك منتديات قبلية مواقع شعر شعبي وكلها تتغنى وتمجد وتمدح البدو والقبيلة - بتطرف - إن أجيزت العبارة )) ...
بتلقائيه بحته أقول ان تراث القوم - باسلامه وعروبته وبداوته - الذي يمدهم بالانحاء ويؤصل بينهم رابط الانتماء استهدف لكي لا تلازمهم صفة الوحدة والانتماء ، وبدوي النقب أغمط حقه بفعل ماكينة الفصل الفكري عن ماضيه والتي تعمل على رأسه ليل نهار ، بيد أن ويستحسن ذكر ذلك ، أن قلة منهم استطاعت الاحتفاظ بلماما من مدخراتهم الثقافية والاجتماعية التي استلهموها من سماحة الاسلام واصالة الحضارة والشيم القبلية الاصيلة ، لماما لا ينكر دورها في ثبات القرى الغير معترف بها كما أسلفت ... بعودة خطوات أقول أن الغالب على الساحة هو معول أو ادعاء العصرنة ، فلا مرية أن هناك مثل عليا تتصل وتدعم سيرورة البقاء للمجتمع البدوي ، أزلفت لمنيتها .
فبناءا على الآنف ، الآن والأزمة في نفقها الضيق ،وقد احاطت بنا احاطة السوار بمعصمه ، علينا البحث عن صمام الامان وتوجيه البوصلة لإعادة تقييم سلوكنا ، ونقد الذات ، بنظرة ثاقبة الى الأمام تستشرق متطلبات المرحلة وظروفها ، علينا الخروج من التقوقع والتموضع الآني المتميز بانعدام الثقة في النفس ، التي ركنت الى دعة الرفاه الاجتماعي والتأمين الوطني ، وذلك بخطوات لا بد من إتباعها ليكون نضالنا شامل راقي باتجاهه لعدة اصعدة ، بقصد كما كما ذكر تعمد المغرضون بإذابة تراثنا وإرثنا الحضاري سواء كان ذلك ثقافة وادبا او إجتماعيا أو تاريخا وحتى اقتصاديا واصبحنا نعجز عن اقلمة انفسنا للظروف الراهنة ، وتجارب من سبقنا نستسيغ منها الكثير في هذه الناحية ، جهدوا على إذابة تراثنا وزرع تصورات مفادها ان التوطين أنقذنا ولو بقينا على ما نحن عليه من ربع الترحال لمتنا جوعا ... لا أخفيكم سرا بأن الندم يعتصر البعض لتخليه عن إرثه فلم ينعم بالرونق الصحراوي المؤسس على الفطرة والبساطة الكريمة .. يجب ان نعيد صهر تراثنا ودمجة في حياتنا اليومية بكل تفاصيله القديمة البناءة ، يجب ان نتخطى حواجز الوهم والتذبذب هنا وهناك ، وان نتجاوز دائرة "الميثولوجيات العصرية " باستنباط واستقراء واستحضار كل ما هو مقنع واقعي من تراثنا الأزلي واستنساخه كتجربة آنيه قد تفيد وتساهم في نضالنا ،ولا اعتقد بالمناسبة أن العمل تجاه شرائح معينه فئوية قد يعود بالنفع ،إن لم يستنزف الجهود وينسفها فانه يخلق حالات من البلبلة والفوضى الخلاقة ، ولا يتعدى كونه مضيعة للوقت لا جدوى منها ، اقصد الجمعيات والمؤسسات والهيئات التي خرجت علينا أخير في النقب ، على كثرتها فاني اراها تطل برأسها وكأنها خجولة من تراثها وتاريخها البدوي ، وتعمل على استحياء ومكابرة ، دون تطرق للمفاهيم " الاعرابية " بشيء ، وظهورها في هذه الظروف لا يعدوا كونه تسجيل حضور جماهيري لا غير ، يدرك الجميع ان البدو مجتمع محافظ له تقاليده وعاداته التي لا يحيد عنها وأية محاولة لفرض أجنده خاصة بالقفز من فوق هذه الهوية ، لا بدو ان تهوي لطرق الفشل ، علاوة على اننا امام مفترق طرق صعب يجب ان نتحد ونتعاضض فيها جميعا ، لا أن نجر وراء كل ناعق ، ونزعم بذلك تطورا وتقدما ، امرين لنا فيهما المجال والمآل ، الحفاظ على الارض ، وتأكيد الهوية العروبية الاسلامية المحافظة ، مع ابراز جذورنا واعتزازنا ببداوتنا لا مواربة وتغاضي عن ذلك ..
علينا تخطي مرحلة العجز والوهن الفكري في خضم ثورة اعلامية ثقافية نهضوية ترافق هذا الحراك النشط في وسطنا ، لا ان نجعل الامور تتفاقم ونصر بدون أي تبرير على ايدلوجيات لا توازي انماطنا البتة ، بواقعية وموضوعية يجب ان نساهم باسهامات جادة وجديدة باتتاج فكري معاصر يوازي أو يستمد من التراث ، وذلك بدراسة نواميسه وبتأني ولا ضير في فهمه وادراكه وبالتالي الاجتهاد والابداع بمعطيات جديدة تنطلق من ثقافتنا وتربيتنا ، لا مندوحة عن سقوط الحتميات لتشكيل ألحظة الآنية كإنجاز ، لحظة تواجه كل خلل ينخر في ابداننا التي غدا ديدنها على تكريس الاتكالية والتسليم بالواقع منوطا بالظرف الراهن والرضى بالقليل وقتل الطموح ، يجب ان نقوم اعوجاج الياتنا بمراجعات فكرية تهتدي الى القيم والثوابت لا ضربها بعرض الحائط وكانها اتت من فراغ ، والمتتبع للساحة اليومية في نقبنا يشاهد تطور نوعي وبتسرع لقيام هيئات وجمعيات ونحل عديدة جلها تنبذ تراثنا للعراء ، وتزعم انها تعالج وتداوي الداء ... صراحة انهم يسبحون في الوهم والفوقية ، ويساهمون في تغييب ذاتنا ، وعن غير قصد ونية يقوضون كياننا كأصلانين من منبع تاريخي عريق ، فلا لاستحقار واستصغار واستخفاف بتراثنا وهويتنا وهذه توصيات تنهض بالتراث :
- أن ندرك بأن لنا حقا تاريخيا هنا واجب علينا صيانته والذود عنه .
- أن نستلهم روح الأجداد ، الذين لا ينكر دورهم في الثبات . وعلينا مواصلة المسيرة .
- ان لا نحيد عن تراثنا عرضا ومفاهيمنا البدوية المستمدة من ديننا الحنيف ، ونعيد صياغة وبعث هذا التراث وإحياء نبضه ..
- تأصيل هويتنا العروبية الاسلامية ، في ظل التشرذم الحاصل .
- التشبث بالأرض ، حتى لو الجأتنا الظروف ان نقاسي قر البرد وحر القيظ ..
- عدم نسيان الذات والذوبان البطيء وسط مجتمع اخر والتورط في متاهات الهوية ..
- المساهمه في اعادة صياغة الأدب والثقافة البدوية شعرا ونثرا ..
- التواصل مع العرب طالما نحن امتداد عرقي وفكري لهم ، نستشعر معهم كل ضائقة ونفرح لفرحهم ...
- تشكيل مجمع أدبي ثقافي علمي فكري يتابع كل جديد وتأطيره كهيئة علمية بدوية هادفه ...
- انتهاج الوسطية الحضارية في مدارسنا ، ولو اننا نستسيغ ما يجري فيها على مضض
- ان نملك المرونه الواقعية العقلانية لنوازن بين ما اجبرنا عليه وثقافتنا ،وليس التذبذب والتنكيس ..
حاصلة القول اختصارا لما كثر ، ليدل بأننا في خضم مؤامرة قديمة جديدة تكيد النقب وكيانه ، وعلى ضوء الاحداث الاخيرة المتسارعة ، نشأت اوضاع اشبه بمراتع للفتنة غدا الكل فيها يغني على ليلاه ، وذلك بمهاجمة الروح البدوية المحافظة الملتزمة دينيا ، ونعتها بالتخلف والتقهقر ، يجب طرح طروح تلفت النظر الى الواقع البدوي الاصيل ، عربي النبل ، كريم المحتد ...
الاصالة دونها لا تقدم ، وأي إنقاذ ثقافي لا بد ان يبدأ من الهوية الحضارية الاصلية للشخص ، وان يهاجم وبهذا الشكل ميراثنا القبلي البدوي السمح ، هذا الميراث الذي اصبح من يبتغي الشهرة ينعق ضدة ، وكأنه لم يولد من رحم البداوة او تلفحه هبائب عصرها ، لماذا هذه الانسلاخة والانقطاعة المخزية عن تراثنا من قبل مدعي الثقافة والعلم ، في حين ان صروح تبنى في الغرب لاجل تدريس ولملمة هذا التراث ...أهلونا ومن سبق سطروا في الصحراء وبيوتاتها مرواءت ونجدات قلما تجد مثيلاتها ، عاشوا وثبتوا وتأقلموا مع ظروف جبارة ، قهروها بعزم وعزيمة ، ليناولونا تراثا ابيا عصيا ... غدا البعض يهاجمه دون وعي فاستنكروا العادات ، وسخروا من حشمة البدوية وتسترها ، وعدوا الشعر والادب وللحكايات البدوية ضربا من الخرافة ، فاستهانوا بمقولة من ماضي له لا حاضر ومستقبل ينتظره ...
وعليه يجب اعادة تكوين وصياغة تاريخ بدو النقب ، كواجهة حية تضرب بأطنابها في عمق التاريخ ، حكاية وادبا وثقافة وتاريخ ، واجب وطني خلقي على كلا من موقعه ان يضع اسهامته في هذه الناحية ..
لن نسمح بضياع تاريخنا هنا بتلك السلاسة والسهولة ، ونتغاضى عن امتدادنا العروبي التاريخي حتى حقب الكنعانيين واليبوسيين ، لن نقنع بوصمة - غزاة - ولن نستكين لترانسفير جديد قديم ، نحاول جاهدين توثيق وتدوين كل شاردة واختها الواردة في تاريخ النقب حفاظا على زخم هويتنا العروبي الاسلامي في هذا البلد ، ان نوثق مناطقنا وجغرافياتنا باسماءها العربية الموروثة عن الاجداد .. ان نعيد الحكاية العربية البدوية التي تحيي المروءة وتذهب الجفاء وتنشأ الرجولة ، وتربي على الصدق وبذل المعروف والاحسان هنا من الصحراء المعطاء ستكون البداية ومن تاريخنا نقتات...

1