أحدث الأخبار
الأربعاء 04 كانون أول/ديسمبر 2024
المجتمع العربي النقباوي ... نُقطة فصل بين الاصيل والهجين !!
بقلم :  د.شكري الهزَّيل  ... 08.05.2014

دائماً ومهما ابتعدنا عن تاريخنا وحضارتنا وأوطاننا، تظل رائحة وعبق الأرض والتاريخ عالقة بنا ومختلطة بوجدان الماضي والحاضر. وقد ترتفع العمارات ويغيب البشر في عالم ما بين الحيطان وعالم الذاتية بكل همومها ومركّباتها, إلا أنّه من المؤكد أنه لا يمكن محو رواسب وآثار ما في أعماق الناس والمجتمع من عادات وقيم يشتاق لها الكثيرون ممن عاصروا طبيعة المجتمع البدوي في النقب ولا يعرفها بعض من الجيل الناشئ الذي ترعرع في ظروف أخرى وزمن آخر غير هذا الذي عاشه آباؤهم وأجدادهُم, وبالتالي ما يراهُ البعض صائباً وجميلاً وجذابا قد لا يراهُ الآخرون هكذا وعلى هذه الشاكلة حين تزحف المدينة باتجاه ما تبقى من أرض وسهل ووادٍ لتبتلع تاريخاً جُغرافياً وإنسانياً بالكامل, وتحوله إلى مجرد بنايات وشوارع واسعة لا تتسع فيها قلوب الناس بقدر ما تضيق، وكأنها عصافير حبيسة القلوب والمكان تصبو إلى التحليق في طبيعتها وفضائها الشاسع تحت أشعة شمسها السجينة.. ولكن ما يحدث أحياناً هو أن يغرق الناس بين الحيطان ويُسقطون من حساباتهم حلم حياة بسيطة وجميلة أو أن تغرق الأحلام تلقائياً في مُستنقع التناقضات والهُموم الإنسانية!!. في هذه المرة سنُحاول أن نكتب لكم خواطر يجيش بها العقل والوجدان وفي أولها كل عام وكل زمان وانتم في افضل واحسن حال !. والحقيقة أنه مهما تبدو الأشياء والأمور مُعلَّبة والهواء مُغلَّف ومُعلَّب, والبشر يُطلون ويختفون من عُلب عالمهم ودُنياهم, إلا أن الخير يكمن في النفوس الواسعة بوسع الآفاق والهواء الطلق بمعناه الموضوعي والإنساني الذي لا ينضب ولا يتوَقَّف عن العطاء حتى في زمن التعليب والتغليف والتزييف الواضِع ثقله ورحاله على نفوس ومسلكية الناس نحو ذاتهم والآخرين!.. وقد تمتد الطُرقات والشوارع وتصل الأماكن بالأماكن والبيوت بالبيوت, ولكن المسافات أحياناً تتسع بين الإنسان وواقعه وتاريخه ومحيطه إلى درجة أن يغترب الوعاء عَمَّا بداخله وغُربة الناس عما يرتدونه من قُمصان تتقمص عاداتهم وحياتهم الأصيلة التي نشأت عليها الأجيال تلو الأجيال. دائماً وأبداً كانت الديار عامرة بأهلها وقيمهم وأخلاقهم الدينية والروحية والحضارية وسعيهم الدؤوب نحو الأفضل، ومن المؤكد أن الديار لا تَعمُر بالعمار المادي والآنِي والمناظر والأشكال الظاهرة للعين, وكم من أشكال تُضلل البشر عن فحواها ومعناها, وكم من عادات ومسلكيات مُستوردة تتناقض حتى مع أدنى قيم المجتمع الذي يحتضن البشر بإيجابياتهم وسلبياتهم، ومردّ ذلك هو أصداء وأحلام النفس البشرية في جهرها وسرها وبمقدار مساحة وعيها وجهلها في آنٍ واحد، وبالتالي ما يحدث في العادة أن البشر في المجتمع تعبر عن ذاتها من ثنايا الآراء الداخلية والقيم الاجتماعية وتأثيرات مُستوردات خارجية تبدو باهية وزاهِية ومُزخرفة!, ولكن أخطر ما في الأمر أن يحل المُستورَد مكان المحليّ والأصيل تحت حجة وغطاء التطور والعصري, وأن يبقى الجهل هو سيد الموقف!!. يبدو لي بعد هذه المُقدمة أن حياة عرب النقب الأصيلة قد تعرضت وتتعرض إلى ما يمكن تسميته بنظرية التفكيك والتركيب, بمعنى تفكيك ما هو قديم وأصيل من قيم وعادات سائدة في المجتمع ومن ثم تركيب عادات ومسلكيات تنسجم مع ثقافة الاستهلاك والتغرِيب والتهجين الهادفة إلى خلق مُجتمع ما بين الكراسي لا هُنا ولا هُناك, تُجرَى عليه تعدِيلاتٌ جذرية مُكحلَّة أو مُزخرفة بالبداوة, ولكنها في الحقيقة تعديلات لا توجد لها علاقة لا من بعيد ولا قريب بجوهر القيم العربية البدوية في النقب ولا حتى بتطور طبيعي وحضاري يوازن بين القيم الاجتماعية والتطور التقني والعلمي الجاري بمجرى الزمن والتطور الإنساني والاجتماعي للحياة البشرية, بمعنى أن ما يجري للمجتمع العربي النقباوي وخاصة في مدن التوطين هو عبارة عن فوضى "تطوُّر" وبدون نظام أو حتى نُقاط أو نُقطة نِظام، وهاكم بعض الاستنتاجات والأمثلة:
1. تَحوّل المجتمع البدوي من مجتمع مُنتج وَفَعَّال في أموره الحياتية والاجتماعية إلى مُجتمع مُستهلك تنخر كيانه وداخله ظاهرة البطالة والفقر وكثير من الظواهر الاجتماعية السلبية, وفي نفس الوقت هنالك عجز فكري وثقافي داخلي وإهمال خارجي (من الدولة) يحول دون ترتيب البيت العربي النقباوي اجتماعياً واقتصادياً أو حتى على الأقل توفير الحد الأدنى لتطور أفضل من الجاري على أرض الواقع المر الذي يمر فيه المجتمع العربي النقباوي! وبالمُناسبة هنالك أيضاً فساد إداري واتجاه المُجتمع نحو الأنانية وعدم التضامن الداخلي!.
2. هنالك ظواهر مثل الالكترونيات وحصراً الهواتف الجوَّالة وغيرها التي قد تكون حيوِية ومفيدة كوسيلة اتصال, ولكنها أثّرت سلبياً على أسلوب الحياة الاجتماعية لعرب النقب, وبدلا من أن يستفيد المجتمع من ظاهرة التطور التقني ويوظفها في صالح التطور الحضاري والاجتماعي والحاجة الإنسانية, إلا أن ما حدث هو العكس حيث استعبدت التقنية المجتمع وفرضت نفسها كبديل قام بِتَغيير نمط الحياه دون أن يتغيَّر أو يتطور المُجتمع فكرياً وحضارياً!...هنا تبدو نقطة النظام ضرورية حول سؤال: من يجب عليه السيطرة على تطور الآخر وتوظيفه في صالحه؟ التقنِية العِلمِية والالكترونية أم المجتمع؟!.
3. لقد تغيَّر العرس البدوي التقليدي وتحوّل في أكثريته إلى عَرض وعُروض مُستوردَة واستهلاكِية لا علاقة لها بالتراث البدوي الأصيل من حيث الشكل والمضمون إلى حدّ أن "الكولا" حَلَّت مكان مشروب الشاي التقليدي، ناهيك عن ظاهرة الألعاب والمفرقعات النارية الدخيلة على الأعراس كجُزء "عادي" وهي في الحقيقة عادة أجنبية يستعملها الأوروبيون فقط بمناسبة رأس السنة الميلادية، والسؤال المطروح هُنا نِظامي أيضاً: من قال أنَّ استعمال فرق الألعاب النارية في الأعراس "عادة" بدوية أصيلة؟؟ وهل إطلاق الرصاص الحي في مدينة مثل رهط مُكتظة بالسكان أمر حضاري وطبيعي؟؟.
4. هُنالك فوضى فكرية واجتماعية وسياسية تعكس نفسها على المسلكية العامة بسبب ظاهرة استيراد "عادات" دخيلة وفكر تجهيلي يؤدي إلى ظاهرة تقمص المجتمع لمسلكيات يجلبها بعض الجاهلين والأميين ثقافياً ومن بينهم كثير من المتعلمين "مهنياً". والسؤال المطروح هُنا: أين هُو دور المُثقفين في عملية تنظيم المجتمع فكرياً وحضاريا من خلال مُحاربة التغريب الجاري والحاصل؟؟.
5. بالرغم من تَغيُّر نمط حياة عرب النقب وبالرغم من زيادة التمسُّك بالدين وزيادة عدد المساجد وروادها من مؤمنين, إلا أنّه في المُقابل يُلاحَظ زيادة التعصب والعنف القبلي وأخذه أشكالاً أكثر عنفاً وهمجيةً، وذلك بالرغم من أن الدين الإسلامي يدعو إلى العدالة الاجتماعية والتسامح والحكمة والمُساواة بين البشر. والسؤال المطروح هُنا وبغض النظر عن الأحوال الاقتصادية وغيرها من المُسببات: ألا يحتاج الجميع هُنا وقفة مع الذات ونُقطة نظام بدلا من حمل الدبوس والانخراط في سرب الجهل والعُنف؟!.
6. هنالك أيضاً ظلم حاصل بما يتعلَّق بموقع المرأة وحقوقها في المجتمع العربي النقباوي, وهي حقوق مهضومة بسبب الجهل والعادات البالية التي لا علاقة لها بقضايا أُخرى يجترحها مجتمع يحافظ على مقوّمات ظُلم المرأة التي تتحمل أعباءً اجتماعية وإنسانية كبيرة في مجتمع لا يحترم دورها ومكانتها ولا يسعى إلى تفعيل دور المرأة ورفع مستوى وعيِها ضمن تطوير مستوى المجتمع بشكلٍ عام. والسؤال المطروح: إذا كانت المرأة تُشكِّل نصف المجتمع وركيزته الرئيسة تتعرض إلى الظلم والتجهيل؟؟ فكيف للمجتمع أن يبني أجيالاً واعية وعادلة في مسلكيتها نحو ذاتها والآخرين؟؟. وأخيراً وليس آخراً هُنالك ظواهر كثيرة حاصلة بين عرب النقب تحتاج إلى نُقاط نظام ووقفة مع الذات, وهي ظواهر تحتاج في كثير من الأحيان أيضاً إلى قلب صحن الجهل وبما داخله على عقب وإفراغه من محتويات بالية وسلبية!!

1