القاعدة القائلة بمهن للرجال وأخرى للنساء تم تجاوزها باقتحام المرأة العربية للمهن الشاقة التي كانت حصرا على الرجال، وهي ظاهرة انتشرت في الدول العربية، ولعلها تضاعفت خلال السنوات الأخيرة. وبين الاختيار والاضطرار تجد المرأة نفسها في صراع بين الذاتي والاجتماعي، وبين حفظ كرامتها من جهة ونظرة المجتمعات الذكورية التي ترفض خروجها عن القواعد من جهة أخرى.
صورة النساء العاملات في المهن اليدوية الشاقة كالبناء أو الميكانيك، وفي المهن الصعبة كقيادة الطائرات، وفي المجالات العلمية الدقيقة باتت شبه مألوفة في المجتمعات العربية، ورغم أن هذه المهن تعتبر حكرا على الرجال في الوعي الجماعي إلا أن انخراط المرأة فيها -ولو بنسب محتشمة- يمثل ظاهرة لافتة للانتباه تستدعي البحث والتحليل.
وفي بعض الحالات تمتهن المرأة أعمالا “رجالية” من باب الاختيار إما شغفا بتلك المهنة أو رغبة في إثبات قدراتها وكفاءتها أو لأنها موهوبة في مجال ما أو لأنها ترفض النظرة الدونية لها التي تنتقص من إمكانيتها مقارنة بالرجل. وقد نجحت عديد السيدات في هذه الأنواع من الأعمال، بل إن بعضهن حققن أكثر من النجاح وتميزن في تلك المجالات، وحققن ما لم يحققه الرجال، وبلغن حدود التميز العالمي مثل سيدات الأعمال مثيلات السعودية لبنى العليان التي تدير كوكبة من كبريات الشركات الاقتصادية.
كما نذكر في مجال العلوم وخاصة الرياضيات التي عدت أيضا من بين المجالات التي يبدع فيها الرجال لا غير، عالمة الرياضيات اليمنية الحائزة على عديد الجوائز الدولية العبقرية مناهل ثابت رئيسة منظمة مجتمع الذكاء النادر، وكذلك عديد النساء الناجحات في مجال السياسة في عدد من الدول العربية، حيث تقلدن مناصب برلمانية ووزارية ونجحن في قيادة أكثر المجالات تعقيدا ومن بينهن وزيرة الإعلام البحرينية السابقة سميرة رجب.
في السابق لم نكن نشاهد نساء تحملن السلاح في صفوف الأمن أو الجيش وتتقاسمن مع الرجال مهام الدفاع عن الوطن والقتال ومحاربة الجريمة، لكن اليوم أصبح لأغلب الدول العربية فرق أمنية وعسكرية نسائية وفرق تدخل وحماية مدنية. ولم يعد مستغربا لدى المواطن العربي أن تعترضه امرأة بزي عسكري، وأن يتعامل مع شرطيات في الشوارع والمطارات وغيرها، بل إنه تجاوز مشاعر الدهشة ليتعامل مع هؤلاء النساء مثل تعامله مع زملائهن.
أمثلة النساء الناجحات في مهن رجالية كثيرة خاصة في المجالات التي تحظى بإشعاع إعلامي، حيث تبرزن وتعرفن لدى الرأي العام مثل عضوات البرلمانات أو الحكومات أو المكلفات بمهام إدارية في مراكز حساسة ومرموقة أو الصحفيات وغيرهن.
أما النساء العاملات في المهن الرجالية البسيطة فهن لا يحظين بذات الصيت والشهرة كسابقاتهن رغم أن نسبهن تفوق الفئة الأولى لكنهن تعرفن في مجالات عملهن ولدى المقربين منهن، فنجد نساء يعملن في ورش إصلاح السيارات، وأخريات يعملن في الحقول، وغيرهن يقمن بمهن شاقة مثل البناء، وصناعة الآجر، والميكانيك، وسائقات سيارات الأجرة، وسائقات والقطارات.
في أغلب الحالات تنجح المرأة في مهن الرجال، لأنها في نهاية الأمر ترتبط لديها بشكل مباشر أو غير مباشر بالتحدي وبإثبات الذات، ورغم ما يعترضها من صعوبات تتعلق بطبيعة المهنة في حد ذاتها وأخرى تتعلق بظروفها الخاصة التي دفعتها لهذه الأعمال تزداد متاعبها بسبب النظرة الاجتماعية المنتقدة لعملها وأحيانا الرافضة لوجود أنثى في هذا المجال أو ذاك.
وفيما عدا الرغبة في ممارسة المهن الرجالية ارتفعت في السنوات الأخيرة نسبة النساء المشتغلات في المهن الصعبة، ولكن الملاحظ أنه في أغلب الأحيان تكون المرأة مضطرة للعمل بهكذا مهن من أجل حفظ كرامتها وتأمين لقمة العيش وذلك في أغلب البلدان العربية التي تعاني من ظروف معيشية سيئة أو لفقدان المعيل سواء كان الأب أو الزوج بسبب الحروب والتقاتل، حيث تجد المرأة نفسها أمام مسؤولية تأمين مورد رزق وتقتحم سوق العمل حتى لا تمد يدها للغير وحتى لا تتسول وحتى لا تسلك طرق الكسب السهل عن طريق الانحراف أو ممارسة الدعارة وغيرها من الأنشطة المحظورة.
فالظروف الاقتصادية المتردية لبعض الدول التي تشهد نزاعات مسلحة وحروبا مثل العراق وسوريا واليمن وغيرها، وانتشار البطالة والفقر في هذه الدول، وفقدان السند العائلي تدفع المرأة إلى العمل اضطرارا ولا تترك لها فرصة الاختيار بين مهنة وأخرى، بل إنها تحاول الاشتغال بالمتاح في محيطها حتى في المهن الصعبة حسب إمكانياتها وظروفها الخاصة والظرف العام الذي تعيشه بلادها. بعض السيدات تعوضن الزوج أو الأب في تأمين الدخل المادي لتعيل أسرتها وترث عنه مهنته كما ورثت مسؤولياته الأسرية وأمامها طريق واحد لتسلكه.
ورغم ما يمكن أن تلقاه المرأة العاملة في هذه المهن من انتقادات ومن استهجان من قبل المجتمع، وخاصة من ذوي العقليات المحافظة إلى درجة التحجر، إلا أن هذا لم يؤثر على أدائها في عملها سواء كانت قد اختارت ذلك أو اضطرت له.
فالفتاة التي تدخل المدرسة وتتفوق في كثير من الحالات على زملائها في الدراسة والتي تنفق سنوات من طفولتها وشبابها في التعلم لتتحصل على شهادة علمية تخول لها العمل في وظيفة تحلم بها لا تتقبل التخلي عن مسيرتها وطموحها وأحلامها بالعمل كقاضية أو كطبيبة بيطرية أو كموسيقية أو كباحثة وعالمة في مجالات كالهندسة وعلوم الفضاء وغيرها تجنبا لنظرة منتقدة تلقيها عليها بعض الفئات الاجتماعية التي لا تؤمن بغير أبوية المجتمع.
أما الأم الأرملة أو الأخت الكبرى أو الفتاة اليتيمة أو المطلقة أو المفقود معيلها في بلد يعمه الفقر والخصاصة والبطالة وأحيانا الحروب لا يمكن أن تعير اهتماما لمنتقديها ومنتقدي عملها أو للرافضين لتكسيرها قواعد العمل الرجالي والعمل النسائي فهي تعمل لتحمي نفسها وعائلتها من الفقر والجوع والخصاصة ومن التسول والانحراف ولتحفظ كرامتها وتعيل نفسها وأفراد عائلتها حتى لا تظل عبئا على المجتمع تنتظر رحمة أو شفقة من الآخر.
وأمام هذه التحديات التي تواجهها النساء اللاتي تتصفن بالشجاعة والقوة والقدرة على تحمل المسؤولية أكثر من بعض الرجال وأمام اضطرار بعضهن لدخول مجال عمل يعتبره البعض حكرا على الرجال، ماذا فعلت الأنظمة والمجتمعات العربية لضمان عيش كريم لهؤلاء النساء؟ ماذا تلقين مقابل عملهن غير الانتقاد وعدم المساواة في الأجر؟
أغلب الأنظمة والمجتمعات العربية تقف عند التعبير عن الانتقاد والاعتراض والرفض لممارسة المرأة لعمل يعد حصريا حكرا على الرجال وهو ما يخلّف سوء معاملة وقصورا في الفهم والتفهم لوضعيات هذه الفئة من النساء، وعجزا عن مساعدتها، وفشلا في تأمين حياة كريمة لها خاصة في حالات الحروب، والنزاعات المسلحة، وفي الاقتصاديات الضعيفة للدول الفقيرة، وهذا بدوره ينتج سياسات مرتبكة تغيب عنها الاستراتيجيات المعمقة الكفيلة بالنهوض بها، والضامنة لحقها في الحياة الكريمة.
ولنا أن نستنتج أن هذه الأنظمة عوض أن تفتخر وتدعم المواطنات المكافحات في المهن الصعبة واللاتي سلبت منهن الظروف والفقر والحروب أزواجهن وآباءهن وتركتهن فريسة للخصاصة والفقر، عمقت معاناتهن ولم تصطف إلى جانبهن في مواجهة نظرة المجتمع القاسية ولم تدعمهن حتى تشريعيا في الحصول على حقوقهن كاملة، بل إنها قصّرت في حقهن كمواطنات ولم تقم بدورها الأصلي في تغيير الفكر الرجعي وتحقيق العدالة والمساواة بين الجنسين في جميع مجالات العمل دون استثناء.
وتظل الحاجة المادية والوضع الاجتماعي والاقتصادي السيئ الدوافع الكبرى التي تقف وراء مزاولة المرأة لأي مهنة تتاح لها دون اعتراض أو اعتبار لتقسيم الأعمال حسب الجنس، خاصة في ظل ارتفاع معدل النساء العربيات المعيلات لأسرهن وهو معطى مرتبط أيضا بتطور توزيع الأدوار الاجتماعية بين الرجل والمرأة وكذلك بتغير نظرة بعض المجتمعات المنفتحة نسبيا للمرأة العاملة التي أثبتت قدرتها على ولوج سوق الشغل والحصول على مختلف المهن والوظائف، بفضل التحسن الملحوظ في مستوى مؤهلاتها العلمية والمهنية نتيجة ارتفاع نسب تعليم ونجاح الفتيات العربيات.
وأحيانا تتعرض المرأة في المهن الرجالية إلى مضايقات تزيد وضعها تعقيدا وسوءا، فهناك مهن تتطلب شجاعة وقوة بدنية لممارستها فسائقات سيارات الأجرة مثلا معرضات لمخاطر الشارع والطريق والسرقة والاختطاف والتحرش خاصة إن عملن في الليل، وكذلك عاملات الحضائر والعاملات في البناء وأيضا العاملات في محال التجارة والمصانع.
كما أن النساء العاملات في مهن قيادية وإدارية وحتى سياسية لا تقل معاناتهن عن سابقاتهن، لأن المنطق الذكوري يرفض أن تكون المرأة في منصب القائد أو المسؤول فيتعرضن إلى انتقادات أكثر من نظرائهن الذكور وإلى رفض الرجل أن تكون المرأة أعلى منه رتبة أو مديرته في العمل فيكون التعامل بينهما صعبا ويذهب الرجل إلى صرف جهوده وتركيزه في البحث عن أخطاء مديرته وعن نقاط ضعفها لا إلى العمل والتعاون معها وذلك استجابة لأنانيته ونرجسيته الذكورية.
هذا ويظل تقسيم المهن والأعمال والوظائف بين ذكورية ونسائية مرتكزا أساسا على منطق اللامساواة بين الجنسين، وهو تقسيم يضعف المجتمع والعمل والتنمية في آن واحد ويضع حواجز أمام تطوره بكل مكوناته والاقتصاد في جميع مجالاته.
ومن أجل القضاء على هذا التقسيم الرجعي يجب أن تلعب الأنظمة العربية دورها في إحداث تغير جذري في التفكير وفي الوعي الجماعي حتى تصبح الكفاءة والمؤهلات والإمكانيات وحدها المحدد للشخص المناسب في العمل المناسب، وحين تعتمد هذه المقاييس دون غيرها للحصول على وظيفة فإن تقسيم المهن حسب الجنس سيفقد معناه، كما أن المطالبة بمساواة المرأة بالرجل في العمل أو في المهن الصعبة سيتجاوزها الزمن.
والمتأمل المحايد في التغييرات التي تشهدها المجتمعات العربية اليوم يدرك حتما أن المرأة العربية ماضية في طريقها نحو القضاء على ما يسمى بالمهن الرجالية، وسوف يستخلص من اقتحامها لعديد مجالات العمل ونجاحها في أداء المهام الموكولة إليها وفي ضمان كرامتها ما ينبئ بأن زمن تقسيم المهن حسب الجنس تجاوزه العصر وأصبح عاملا جاذبا للوراء وللتخلف لا عاملا محفزا على التقدم والتطور والتنمية الشاملة.
الأنظمة العربية تتحالف مع الظروف السيئة لتعمق معاناة المرأة العاملة !!
بقلم : سماح بن عبادة ... 31.05.2015
المصدر: العرب