بقلم : محمدالأمين سعيدي* ... 15.05.2010
في كثير من الأحيان وأنا أستمع لأغاني فيروز تراودني رغبة ملحة لأكتب شيئا عن هذه المرأة العظيمة، ولعلي لم أُعدَم ذلك في الشعر ، إذ كانتْ قصائدي في كل مرة تأخذها فتنة الصوت والنغم، فتدخل فيروز إليها كرمز يدل على كل ما هو جميل ورقيق، وأتساءل دائما بين نفسي وبيني: كم رائعة هذه المرأة لدرجة أنها فتنتْ بصوتها وأدائها الشعراء والرسامين ، أذكر جيدا ما قاله نزار قباني في حوار قديم جدا معه عندما خُيّر بين مجموعة من الأصوات الفنية العربية وبين فيروز فقال: بالطبع فيروز.
قد يرى بعض منا أنه من الغريب أن نكتب مقالا كاملا عن مطربة أو فنانة، ولكن حقيقة الأمر أنّ الكتابة عن فيروز في نظري هي كتابة عن الشعر ذاته، لأنّ هذه المرأة التحمتْ مع القصائد والكلمة حتى صارتْ نفسها قصيدة تمشي على الأرض، وكلماتٍ تركب ظهر الريح مسرعة إلى القلوب الحائرة، المتأملة في جانب آخر من العالم، جانب لا يقوم إلا على الروعة والسحر. فيروز هذه الرائعة الرائعة، استطاعتْ بصوتها وبالتحامها المفرط مع كلمات الشعر أنْ تفتح لنا أبوابا إلى النعيم، بل لا أبالغ حين أقول: إنها أعطتْ لكل واحد منا جناحين ليُحلِّق ملاكا في سماوات الصفاء، إنّ فيروز بالنسبة لي هي هذا الأفق الواسع من الجمال الأخَّاذ الذي لا غنى لشاعر عنه.
أنا شخصيا كنتُ ولا أزال ميالا إليها على حساب "أم كلثوم" و"عبد الحليم حافظ"و"فريد الأطرش" ، لأني ببساطة أجد في صوتها صوت القصيدة موشى بالأنغام الراقية، أجد في صوتها هذه الفسحة لأتنازل عن جميع بروتوكولات الشخصية العامة وأتمايل مع الألحان كطفل، لا أخفيكم أنني أعتقد أنّ صوت فيروز هو فرصة للرجوع إلى الطفولة/البراءة، لأنها باختصار تتحدى العالم والناس وتقول بعناد الطفلة التي لا يهمها أبدا أن تنصاع لصوت القبيلة:
(كيفك...آل عم بيقولو صارْ عندكْ ولاد/أنا والله كنت مْفكرتكْ برات لبلاد/شو بدي بلبلادْ/الله يخلي لولاد/)
هذه هي المرأة التي سيطرتْ عليَّ بصوتها أكثر من كل فاتنات العالم، لأنّ الفتنة التي تزرعها في أعماقي تنسيني هذا البهرج الظاهري الذي يسميه الجميع الجسد ويعتبره الصوفي قيدا، والعابد فتنة وشهوة، إنني حين أسمع صوت فيروز أتصوف فأخرج من جسدي أو ربما أبقى فيه ولكنه يخفُّ لدرجة أنّ الهواء باستطاعته أن يحمله ويحملني، أي ُّ جاذبية باستطاعتها أنْ تمسك شاعرا عن التحليق والتمرد !!!؟؟ إذن ما قولك أيها القارئ لو دخل صوت فيروز كمعادلة أخرى لتحقيق الخروج عن العادة والروتين الجماعي والواقع القاسي الذي لا مجال فيه للرقة والعذوبة. هل ستمسكنا جاذبية؟؟ !!!!
أحيانا أتساءل :كيف يمكن لبعض الناس أن يعيشوا في هذا العالم الذي يحكمه "التارميناتور" وتسيطر القسوة على مظاهره المختلفة دون أنْ يوفر لنفسه ما يخفف من وطأة هذه القساوة التي تحيط بنا من كل جانب؟ أم أنّ هذا الإنسان صار هو الآخر آلة لا يهمه سوى توفير متطلبات حياته كي لا ينقرض؟ عجبا، أنا شخصيا مقتنع أننا سننقرض حقا إذا خلتْ حياتنا من الرقة، من الفنون المتنوعة، من الجمال.
لا أزال أتذكر جيدا دندنة أمي في كل صباح بأغاني فيروز، ترى هل لأن والدتي من محبات فيروز أنا الآخر انتقل إلي هذا الهوس عن طريق الوراثة؟؟ ربما، لكن الإبحار مع فيروز هو مغامرة جمالية لا يمكن أنْ يحيط بها وصف، أسمعها تغني للحصري القيرواني:(يا ليل الصب متى غده/أقيام الساعة موعده/رقد السمار فأرَّقه/أسف للبين يردِّده) فأعود على ظهر نغمة صوتها إلى الأندلس، إلى شوارعها التي لم أرها ولا في المنام، إلى بيت ولادة بنت المستكفي، إلى رقة العربي في الأندلس وذوقه الحضاري الراقي، إلى غزالة أضعتها في دمشق ووجدتها هناك. حقا إنّ صوت فيروز هو الحلم وقد تمظهر على شكل ألحان وآهاتٍ. أنا شاعر تهزُّه الكلمة الجميلة، لكن يسحره الصوت الأسطوري الذي يشعر وكأنه قادم من الغيب، أو من الماضي القديم جدا، صوتُ أرفيوس الحزين وهو يملأ العالم بمعزوفاته الجنائزية. صوت فيروز الأنيق وهو يخفف من قسوة هذا العالم ويضمّد جراحي وجراح أرفيوس.
أقرأ في كتاب علم الجمال لجون برتليمى فأجده يقول في أحد فصول كتابه عن الموسيقى:"الواقع أنّ الموسيقى منذ بيتهوفن قد أصبحتْ بمثابة سر يسرّ به الموسيقي لمستمعيه، وصيحة للروح تجد صداها في روحٍ أخرى" .فأجدني أقول دون تردد عن صوت فيروز: إنه صوت فوق ضرب البيانو ورقصة الوتر، إنه الفضاء الذي تجد فيه أصوات الآلات فسحة للتحليق بانسيابية، وهو أيضا الفضاء الذي تجد فيه نفسي فسحة للسعادة.
أيتها الرائعة، يا بديعة الصوت، يا من أخذني غناؤكِ إلى مواطن الروعة في نفسي، ماذا أقول ؟؟ !!! لعلي سأكتفي الآن بعد كتابة هذا المقال بسماعك وأنتِ تأكدين للجميع أنّ العالم لا يزال جميلا، وأنّ معاني الحب والشوق والغرام لا يزال لها مكانها في نفوس البشر وفي دواخل نفوسهم. هذه هي فتنة الصوت فعلتْ فعلتها بي، ومع هذا فإني لنْ أتراجع، بل سأركب ظهر النغم وأسابق الريح والزمن معك يا سلطانة الكلمة، سأمارس ببساطة الإبحار دون توقف مع أغانيك إلى مكمن الأسرار، إلى نفسي.