أحدث الأخبار
السبت 30 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
1218 219 220 221 222 223 2241135
شراب اللاقمي يسعف العطاشى في الجنوب التونسي !!
15.08.2019

حر الصيف في الجنوب التونسي لاهب لا يقاوم، لكن الأهالي هناك تعلموا كيف يطفئون ضمأ الصحراء، فابتكروا من صديقتهم النخلة شرابا يروي عطشهم بتكاليف قليلة، حتى أن شباب المنطقة هناك ممن يعشقون شرب الخمر حوّلوه إلى شراب مسكر لمحدودية تكاليفه.
قابس (تونس) - يسارع سكان مدينة قابس بالجنوب التونسي في ساعات الصباح الأولى إلى شراء كأس أو قنينة من شراب “اللاقمي”، نسغ النخيل الطازج الذي تشتهر به المنطقة ويباع في غالب أماكن المدينة.
ويتداول في قابس وفي المناطق التي تجاورها، مثل شعبي مرتبط بهذا المنتوج مفاده “كلما حام عليه الناموس، كثر الناس من حوله”.
ويكثر استهلاك اللاقمي طيلة شهر رمضان لاحتوائه على سعرات حرارية وكميات كبيرة من السكر ويجعل منه سكان قابس وجبة فطور خلال أشهر طويلة من السنة من مطلع شهر مارس وصولا إلى شهر أكتوبر.
وأوضحت الأخصائية في التغذية، يمونة معالي، أن “لمشروب اللاقمي قيمة غذائية كبيرة خاصة وانه يحتوي على مكونات مجهرية ونوع من السكريات الحينية سريعة الامتصاص، وهو ما يساعد في تعويض ما فقده الجسم من هذه المواد بسرعة فضلا عن كونه مشروبا يساعد في تعديل منسوب المواد السائلة في الجسم وخاصة المياه، وهو ما يمكّن من مقاومة العطش”.
بعض الشباب ينتجون لاقمي مُخمّرا تضاف إليه نسبة من الكحول ليصبح مسكرا وتطلق عليه تسمية اللاقمي الميّت
ويشكل اللاقمي شرابا تمتاز به الواحات الصحراوية كما تطلق عليه تسميات أخرى في مناطق مختلفة من العالم.
عند الساعة السابعة صباحا في منطقة “عين سلاّم” في قابس تصطف السيارات والدراجات وحتى العربات العسكرية، ويتحلق عدد من الأشخاص حول ثلاثة باعة يجلسون على كراس بالقرب من وعاء بلاستيكي يحتوي هذا السائل الثمين، يشترون ما أمكن لسد عطشهم وإطفاء لهيب الحر.
يصل أكرم الثلاثيني مشيا إلى المكان مبتمسا، ثمّ يقول “ولدنا مع اللاقمي، كان ينتجه أبي ومن قبله أجدادي، شربته ابنتي ذات السنة والنصف، وأنا أقبل عليه كذلك صباح مساء، حتى أني تغنيت به في أغنية ألفتها”.
ويؤكد هيثم من جانبه قائلا، “اللاقمي جزء من هويتنا، هو شيء نادر وبمثابة هبة”، متابعا “هو ليس علما بل صداقة وفن”.
وتتطلب عملية استخراج النُسغ من قلب شجرة النخيل حرفية عالية وصبرا ويجب ألا يكون الشخص نهما حتى لا يقتل الشجرة.
يتربع رضا موسى في أعلى نخلة طولها ثمانية أمتار وفي فمه سيجارة ويبادر بإزالة قشرتها بتؤدة.
أتقن هذا الستيني الملقب بـ”ملك النخيل” تقنيات القص واستخراج النُسغ من جده الذي دربه منذ سن الرابعة عشرة في واحة قابس على أسرار المهنة.
ويفصح بفخر واعتزاز، “من لا يحب النخلة، ليس من أصيلي قابس، هناك الله ثم النخلة”.
ويجمع رضا قرابة 15 لترا يوميا من هذا الرحيق بالتسلق حافيا جذوع النخيل معتمدا على سرعته وخفته.
يقول رضا، إن الهدف هو إحداث قصة يمكن من خلالها أن تدر علينا النخلة بعصيرها، ويبين رضا الذي يجمع نحو ثمانية آلاف لتر من اللاقمي سنويا، “يجب ألا نلمس قلب النخلة، لأن ذلك يمكن أن يتلف الشجرة بأكملها”.
ويملك هذا المزارع 25 شجرة نخيل ويستغل كلّا منها لمدة سنتين قبل أن يتركها ترتاح طيلة أربع سنوات.
أما يوسف، وهو من الباعة المشهورين في مدينة قبلي المجاورة لقابس، قال إنه يحرص على تحضير أشجار النخيل التي سيستغلها لاستخراج هذا المشروب قبل مدة تتراوح بين الأسبوع والعشرة أيام، مع تفقد الآلة التي سيستعملها في هذه العملية المعروفة بـ”الحجامة”، وهي آلة شبيهة بالمنجل إلا أنها حادة جدا تتم بواسطتها إزالة أغلب جريد النخلة وقص وسطها أو ما يسمى بلبها ويسمى “الجمار”، ويكون ذلك بصورة أفقية وبسمك يتراوح بين صنتمتر واحد وصنتمترين ليتجدد جمار النخلة، وهو ما يجعل اللاقمي ينساب منه في قطعة من القصب تقسم على اثنين ويتم تركيزها في أسفل الجمار لتكون بمثابة الساقية التي تنساب من خلالها قطرات اللاقمي، ويقع في ما بعد توجيهها نحو الجرة الفخارية المعلقة في أعلى النخلة.
وأكد يوسف على أهمية حماية مدخل النخلة الذي ينساب منه اللاقمي، بقليل من ألياف الجريد أو بقطعة من القماش حتى لا تدخل الحشرات، فضلا عن تغطيتها بقطعة من القماش السميك، مع الحرص على بلّه بالمياه في كل عملية “حجامة” (أي قص) للب النخلة أو الجمار والتي تتكرر عادة مرتين في اليوم، وذلك حتى يحافظ المشروب على درجة من البرودة وعلى طعمه الذي يتأثر بدرجات الحرارة المرتفعة عادة.
وبخصوص أنواع النخيل وكيفية الحصول على اللاقمي، قال يوسف إن “اللاقمي يستخرج من النخلة المسنّة التي يُرغب في تجديدها أو من النخلة غير المثمرة أو ذات التمر الرديء”، وأوضح أنه “يحرص على اختيار أنواع محددة من أشجار النخيل، ذلك أنه لا ينبغي القضاء على الأشجار المخصصة لإنتاج دقلة النور”.
وأضاف أنه “من بين أبرز الأشجار التي يحبذها نخلة من نوع بسر حلو أو أشجار اللقاح المعروفة بالذكار، على أن تكون الشجرة غالبا بعيدة عن منبع المياه أو الساقية حتى يكون طعم مشروبها أكثر حلاوة نظرا للنقص في كميات المياه وتضاعف المكونات السكرية”.
وبيّن أنه “غالبا ما يشتري هذه الأشجار من أصحابها الذين يرغبون في التخلص منها نظرا لأنها من أشجار النخيل التي تنبت طبيعيا وأحيانا تكون في مكان مضايق لصاحب الأرض بالمقسم الفلاحي”.
وتباع القارورة التي تحتوي على لتر ونصف اللتر من اللاقمي بدينارين ونصف الدينار (حوالي دولار واحد) عند مفترق طرق منطقة عين سلاّم.
ويتم أيضا، إنتاج اللاقمي المُخمّر حيث تضاف إليه نسبة من خميرة معيّنة أو الكحول وتطلق علية تسمية “اللاقمي الميّت” ويصبح مسكرا، ويتخفى بائعوه عكس بائعي الطازج منه. يتردد الشباب على شراء اللاقمي الميت، ويؤكد هيثم “الشباب لا يملكون الكثير من المال ويدفعون دينارا واحدا في مقابل اللاقمي الميت، لكن طعمه غير جيد”. وكان هيثم يعد مشروبه المسكر مع البعض من أصدقائه باستعمال الكحول و”اللاقمي الحي”، ويضيف “نتركه يتخمر لمدة أربع أو خمس ساعات” داخل كوخ من القش في الواحة.
ويستعين منتجو اللاقمي في عملية استخراجه ليلا بالثلج على الدوام لأنه سرعان ما يفسد ويتحول إلى خل.
عملية الإنتاج الدقيقة هذه التي تعتمد على توفر البرودة تحد من انتشار بيعه، يقول هيثم “حتى في مدينة صفاقس التي تبعد حوالي 140 كيلومترا عن قابس، فهو غير موجود… وبقي منتجا عضويا خاليا من المواد الكيميائية”. ويعتبر سكان مدينة قابس أن عملية إنتاج اللاقمي صحية وجيدة، غير أن هيثم يخشى من أن ارتفاع الإقبال على هذا العصير قد يؤدي إلى “المزيد من قطع النخيل وقد نخسر الواحة”.
ويبدى موسى تخوفا من أن “التلوث الكيميائي الذي تفرزه المصانع يهدد الواحة”، لكن موسى يواصل في المقابل رفع التحدي، بتفاؤل وثقة فيؤكد “لقد دربت ابني ليبقى هذا التقليد إلى الأبد في قابس”.
ودعت الأخصائية معالي إلى “المزيد من العناية بنظافة هذا المشروب والحرص على المحافظة على شكله التقليدي الخام المتأتي من شجرة النخيل دون إضافة الماء إليه، مع استعمال أوان صحية في عملية حفظه، وخاصة الأواني الفخارية والبلورية، وتجنب قوارير البلاستيك التي يتم جمعها من أماكن مختلفة، وقد لا تراعى فيها شروط النظافة، بالإضافة إلى تجنب استهلاك هذا المشروب من قبل مرضى السكري.

1