أخطر القادة هم أولئك الذين تصيبهم لوثة الشوفينية القومية، وتستبد بهم شهوة إعادة بناء الأمجاد الغابرة واستحضار الماضي، باعثين في شعوبهم مشاعر الضحية والفقدان، مستفزين فيها غرائز الانتقام من الآخرين. وهناك في تاريخ البشر والسياسة قومية حميدة وهناك قومية مدمرة، الأولى تعكس الانتماء الطبيعي والعفوي للوطن والثقافة والهوية، من دون مبالغة وانجرار باتجاه الادعاء بالتفوق الإثني والثقافي على الآخرين، ومن دون احتقار القوميات الأخرى. والقومية الحميدة تُطلق طاقات الناس الإيجابية لخدمة جماعتهم ووطنهم والاعتزاز به والتنافس مع «الأوطان» الأخرى عن طريق الإنجازات، وليس عن طريق التباهي بـ«نقاء الدم»، أو أمجاد الماضي، أو عظمة التاريخ الذي أغلب مراحله تكون متخيلة أو مركبة، والخيال الجامح فيها أكثر من الحقائق.
والنوع الثاني من القومية، القومية المدمرة، هي تلك الشوفينية التي تختلط مع العنصرية وتنظر للذات القومية بكونها الأعلى والأفضل تراتبية، وترى الآخرين وقومياتهم وأوطانهم يحتلون دوماً مراتب أدنى على السلم القومي وسلم «الأجناس والإثنيات». وكثير من الحروب الدموية التي دفعت فيها البشرية ملايين الضحايا نشبت عن جنون القوميات الإثنية أو الدينية، حيث يأتي قائد ما مهووس بجنون الأفضلية وسيكولوجيا الضحية، ويريد أن يصوّب التاريخ، ويضع المستقبل «على الطريق الصحيح» رغماً عن كل الحقائق الموضوعية الأخرى. وكل ما يقف في وجه مشروع إعادة المجد الغابر وفي وجه تصويب التاريخ وتثبيت بوصلة المستقبل يجب أن يُحارب، ويُزاح، ويُستأصل. ومن قلب الشرق الصيني والياباني، إلى قلب الغرب الأوروبي مروراً بكل جهات الأرض، هناك نماذج وسيرورات قومية من المفترض أن تكون قد وفرت أمثلة وتجارب تردع عالمنا عن التورط في مساراتها. في أوروبا لا زالت تجربة القومية النازية والرعب والموت الذي جلبته على القارة طازجاً، لأن تلك القومية رأت في الجنس الآري العنصر النقي الأعلى والذي يجب بالبداهة أن يحكم أوروبا والعالم كله من ورائها. وكل من يعتبر عائقاً وحملًا ثقيلًا يحول دون المضي في طريق ذلك «المشروع الطبيعي»، أو حتى يبطئ من انطلاقه، فإن مصيره الاستئصال والموت.
والقوميات الشرسة لا تدجن بسهولة فضلاً عن أن تموت. وقد رأى العالم كيف انبعثت القومية الصربية من تحت ركام عقود طويلة من القيد اليوغسلافي، وانقضت على من جاورها والحلم الذي يقودها بكل عمى هو صربيا الكبرى، صربيا العظيمة والمتسيّدة، كما كانت مُتصورة في عقول قادة مهووسين مثل سلوبودان ميلوسوفيتش ورادوفان كارديتش. وكانت النتيجة مجازر وإبادة عرقية في قلب أوروبا مرة أخرى، في البوسنة وكرواتيا وكوسوفو.
والليبرالية والديمقراطية من الآليات التي اقتحمت فضاء القوميات الشرسة وعملت على تدجينها. فالليبرالية الديمقراطية تتجاوز التراتبيات الإثنية والقومية الحادة، وتعلي من قيمة الإنجاز كمعيار تفاضل، وتكرس مبادئ المساواة بين البشر على أساس إنسانيتهم. هناك بالطبع اختلالات كبيرة في التطبيق، خاصة عندما نلاحظ خفوت أو عدم انعكاس تلك المبادئ في السياسات الخارجية، ولكن الشيء المهم والأساسي في الليبرالية الديمقراطية هو أنها توفر معايير إنسانية وعالمية للاحتكام إليها، غير مرتكزة على أية أسس قومية.
وروسيا بوتين اليوم هي روسيا المهجوسة بإعادة بعث القومية الروسية وأمجادها الغابرة. ولتحقيق أحلام «روسيا فوق الجميع» فإن ذلك يعني تبني سلسلة من السياسات الداخلية والخارجية التي تقوم على القسر والقوة والإزاحة الإجبارية. داخلياً، تبنى بوتين مفهوم «الديمقراطية السيادية» وهو مفهوم فضفاض وغامض، والمقصود المُعلن منه هو عدم السماح لأية أطراف أجنبية بالتدخل في «سيادة» روسيا من خلال التدخل في ديمقراطيتها وأحزابها وجمعيات المجتمع المدني فيها. والتطبيق المباشر لـ«الديموقراطية السيادية» كان تشديد القبضة البوليسية على الحريات العامة، والجمعيات، والإعلام، وقولبة كل ما هو موجود في المجتمع والسياسة والثقافة وفق رؤية بوتين. وكأحد الأمثلة المُدهشة الآن ليحاول القارئ أن يتذكر إن سمع رأياً حول الشأن السوري من أي سياسي أو صحفي أو مثقف أو ناشط أو أكاديمي روسي يخالف الرأي الرسمي؟ في أي بلد آخر على الجهة الأخرى من «الديمقراطية السيادية»، وبدءاً من الولايات المتحدة وحتى تركيا مروراً بكل البلدان الأوروبية هناك طيف واسع من الآراء يشمل السياسيين والإعلاميين والكتاب والأكاديميين.
وفي السياسة الخارجية ينطلق بوتين من رؤية قومية روسية ترى في الجمهوريات الآسيوية «الحيز الحيوي» لروسيا، ما يفرض على موسكو أن يبقي تلك الجمهوريات تحت النفوذ الروسي وتابعة له، سواء أكان ذلك تحت ظل الاتحاد السوفييتي وعبر الشيوعية الأممية، أو عن طريق مباشر ومن دون التخفي وراء أية مشروعات إيديولوجية. ولم يترك بوتين أي مجال لأي متشكك في سياسته إزاء الجوار الإقليمي، وهي السياسة التي قامت على القسر والبطش والتركيع، من الشيشان وتسوية عاصمتها غروزني بالأرض، إلى جورجيا وتركيعها وتنصيب نظام موال لموسكو فيها. وبوتين الذي يتحدث عن ضرورة التزام الدول الكبرى بالقانون الدولي عند طرح أفكار التدخل الخارجي في سوريا، داس على ذلك القانون وتبختر عليه جيئة وذهاباً في الجوار الإقليمي، ثم لفظه بعيداً.
قيصر موسكو الذي يريد أن يدخل التاريخ بكونه من أعاد بعث المجد الروسي بعد الإذلال الذي تعرضت له روسيا إثر انهيار الإمبراطورية السوفييتية، وبكونه من أعاد توحيد الأراضي السلافية. ولأنه مهجوس بنزعة قومية روسية عابرة للحدود وخطيرة فإنه لا يتردد في رعاية ما يُعرف بـ«نادي ثعالب الليل» وهم مجموعات من راكبي الدراجات النارية، والمعروفون بشعور رؤوسهم ولحاهم الكثة، والأوشام والسلاسل التي تملأ سواعدهم وصدورهم، ويعتبرون من أشد مؤيدي بوتين ونظرته القومية المتشددة. وهم يطوفون في رحلات طويلة سواء في روسيا أو البلدان المجاورة لها، وأحيانا يستهوي بوتين أن يرافقهم في بعض جولاتهم. وفي حادثة مشهودة تناقلتها وسائل الإعلام العام الماضي توقف بوتين مع «ثعالب الليل» في إحدى جولاتهم في أوكرانيا خلال زيارة رسمية له للبلاد وتجول معهم وأبقى الرئيس الأوكراني منتظراً له أكثر من أربع ساعات. وفي نفس تلك الزيارة نقلت أقوال وعهود أخذها «ثعالب الليل» على أنفسهم أمام بوتين بأنهم سيبقون إلى جانبه كي يساعدوه في توحيد الأراضي السلافية التي قسمها الأعداء!
إن مَن يصفقون لبوتين وروسيا على «القوة» و«العظمة» التي يبديها في السياسة الدولية عليهم أن يراجعوا أنفسهم. وروسيا بلد عظيم وتاريخها غني ولا تحتاج إلى سياسة شوفينية كي تثبت نفسها. والقومية الشوفينية تقضي على الذات قبل أن تقضي على الآخرين، هذا هو درس التاريخ الذي لا يمل من تعليمنا.
النموذج الروسي... وثعالب الليل!!
بقلم : د. خالد الحروب ... 16.09.2013
كاتب وأكاديمي عربي