أحدث الأخبار
الجمعة 22 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
الموروثات العرفية تضمن للمرأة الطارقية مكانة مرموقة تجعلها تتفوق على الرجل!!
بقلم : صابر بليدي ... 29.05.2022

**تتفوق المرأة الطارقية على نظيراتها الجزائريات بالمكانة الاجتماعية المرموقة التي تحظى بها داخل أسرتها وفي مجتمعها والتي متعتها بها الأعراف الموروثة، فهي الآمرة الناهية داخل المنزل وخارجه وهي التي تتحكم في أمور الزواج والطلاق. وهي التي تختار زوجها، وعند النسب تمنح الطارقية نسبها لابنها في حين لا تزال أخريات رهينات النظرة الذكورية المتسلطة.
الجزائر - تدب حياة المجتمع الطارقي، المحفز على البحث والاطلاع وفك الألغاز، هناك في عمق الساحل الصحراوي، وبين الرمال والصخور حيث تتربع المرأة على عرش الأسرة والقبيلة، في حين لا زالت نظيرتها في الشمال تئن تحت رحمة السطوة الذكورية مرة باسم الدين وأخرى باسم الأعراف.
ورغم الأصل الأمازيغي للمرأتين إلا أن الطارقية تمنح للابن نسبه ومكانته، في حين لا زالت نظيرتها في منطقة القبائل تحرم من الميراث، ولا تتزوج من شخص أحبته من خارج قريتها.
ويعود الاهتمام بكشف أسرار وألغاز المجتمع الطارقي إلى قرون سابقة، حيث تتابعت البعثات الغربية للمنطقة خاصة خلال الاستعمار الفرنسي للجزائر، كما لم يتوان جزائريون عن الخوض في المسألة، على أمل نقل حقيقة مجتمع يشكل واحدا من مكونات الأمة، وقطع الطريق على الشكوك التي تراود في الغالب أبحاث المستشرقين ودراساتهم.
وكان الباحث والإعلامي الجزائري محمد سعيد الزاهري، الذي عاش خلال الحقبة الاستعمارية، واحدا من الذين حاولوا تقديم رؤية ميدانية خارج الأحكام المعلبة، فنشر العديد من الدراسات والمقالات في صحف عربية تاريخية وثقت وجها حقيقيا للمجتمع الطارقي، خارج ما يسوق حتى حاليا، حيث يتم الاكتفاء بالظاهر الفولكلوري الاستعراضي، بينما يتم تجاهل عمق ذلك المجتمع الذي ينظم الشعر ويبجل المرأة ويرفض المعتقدات الدخيلة ويقاوم الاستعمار ويعشق الحرية.
ويتحرك المجتمع الطارقي كما تتحرك الرمال التي يقيم عليها، لكنه من أشد المجتمعات تمسكا بأعرافه وتقاليده، بحسب الناشط الجمعوي والمهتم بالنسيج الاجتماعي الصحراوي محمد الرقاني.
*مكانة مميزة للأم
قال الرقاني في تصريح لـ”العرب”، “التضاريس الجغرافية الرحبة والفضاء الشاسع صقلا شخصية الفرد الطارقي، فجعلاه إنسانا بسيطا وهادئا صبورا”.
وأضاف أن للمجتمع الطارقي خصوصيات مميزة، ورغم حدود الدولة الوطنية التي أفرزها الوجود الاستعماري في المنطقة والتي شتتت القبائل فإن روح الانتماء والتواصل العائلي لم يتأثرا بذلك؛ فالفرد الطارقي يعترف بالامتداد وليس بالحدود، وإذا كان على الورق طوارق الجزائر وليبيا والنيجر ومالي، فإن الواقع شيء آخر، “هو نسيج اجتماعي منتشر في تلك الربوع يعيش ويمارس حياته خارج العصرنة الإدارية”.
وتمنح الأم في المجتمع الطارقي نسبها لابنها وتورثه مكانتها الاجتماعية، فيرث الابن من أبيه صفة الإغارة والنهب فقط، أما صفتا الوضاعة والشرف فيرثهما عن أمه، فيكون شريفا بشرفها ووضيعا بوضاعتها. وإذا كان مستشرقون فرنسيون قد برروا المسألة بشيوع البغاء والإباحية في المجتمع، حيث لا تعرف المرأة مصدر ابنها لتعدد ممارساتها الجنسية، فقد نفى ذلك الباحث الراحل محمد سعيد الزاهري في مقالات نشرها في عدة صحف عربية خلال خمسينات القرن الماضي، وقال الزاهري “لو تعلق الأمر فقط بالنسب لكان زعم الغربيين مقبولا، لكن مكانة المرأة الراقية في المجالات الأخرى، ترجح فرضية تميزها وثراء مكاسبها الاجتماعية وليس شيئا آخر”.
وللمرأة في المجتمع الطارقي أساطير وروايات خارقة، حيث يسود الاعتقاد بأن امرأة شاعرة من هذا المجتمع هي التي اخترعت لغة “التيفيناغ” في الزمن القديم، وهي اللغة الأصلية للبربر، والتي يدعو البعض إلى كتابة اللغة الأمازيغية بأبجديتها، وهي عبارة عن حروف تكتب من اليمين إلى اليسار كالعربية، ومن اليسار إلى اليمين أو بهما معا، وأيضا من فوق إلى تحت وبالعكس ومنهما معا.
وتتفوق النساء الطارقيات في قراءة وكتابة التيفيناغ مقارنة بالرجل الطارقي، بينما يقل اهتمامهن باللغة العربية التي يحسنها الرجال أكثر بحكم الحاجة إلى التعامل بها في المحيط الرسمي والإداري، خاصة في الأقاليم التابعة لدولتي ليبيا والجزائر.
لغة التيفيناغ اندثرت أمام زحف المحيط الذي أفرزته الدولة الوطنية، ولا يوجد مؤلف أو كتاب بالأبجدية المذكورة، فالكل منخرط في لغات التعليم الرسمي، لكن دارسين للمجتمع الطارقي يتحدثون عن “رسائل متداولة تستعمل في التنافس على الفصاحة والبيان، ويتم الحذو حول أسلوبها والنسج على منوالها، وهي رسائل خصوصية بأقلام نساء كن كتبنها إلى معاشيقهن، وأسلوب هذه الرسائل هو أسلوب فطري بسيط، يبدأ فيه باسم الكاتبة، ثم يذكر اسم المكتوب إليه، ومن بلاغتهم أنهم يكررون الكلمة التي يراد تأكيد معناها، وكل كلمة تكررت كانت أبلغ في التأكيد، ولذلك قد تتكرر الكلمة عشر مرات أو أكثر”.
*مدح النساء للنساء
قال الزاهري في إحدى وثائقه إن أهم أغراض الشعر عند الطارقيات الحماسة والمدح والغزل، ومن العجيب أن هذا الغزل هو غزل النساء وتشبيبهن بالرجال، وأن هذا المدح هو مدح النساء للنساء، ولا يوجد بين رجال هذا المجتمع رجل شاعر وإنما النساء هن الشاعرات، على عكس ما هو معروف بين جميع الشعوب والمجتمعات. وللشاعرة الطارقية منزلة سامية ومقام عظيم، وحيث ما حلت لقيت من الحفاوة والترحاب ما يشبه حفلات التكريم.
وأضاف أن لكل شاعرة راوية من النساء أو راويتين اثنتين أو أكثر على قدر منزلتها من الشعر، وكل قبيلة تفتخر بشاعرتها، وعادة ما تجتمع الشاعرات من قبائل مختلفة فيتناشدن الأشعار ويتفاخرن بالفصاحة والبلاغة، ومن أسباب الفخر أن تكثر الشاعرة في قصيدتها من الكلمات النادرة والغريبة، وتريد بذلك أن تتفوق على زميلاتها وتبرز قدراتها.
وتفيد روايات محلية بأن أول شاعرة طارقية هي فاطمة بنت اغنيس التي تذكر في إحدى قصائدها أن لا أحد يمس خصرها إلا بصداق مبلغه ستة عشر قرشاً، ويقصد بمس الخصر الزواج، وأن اللغة التاريخية للطوارق بربرية محضة، وأدبها بربري في أسلوبه وخياله، على عكس لغة بقية العشائر البربرية في الجزائر التي دخلها من العربية الشيء الكثير. أما الطارقية فهي مستقلة عن كل اللغات بما فيها العربية، لاسيما من حيث التراكيب وحروف المعاني، فأسماء الأشخاص لا يزال أكثرها بربريا وأسماء العدد كلها بربرية من الواحد إلى الألف.
وقال الزاهري، في أحد منشوراته بصحيفة “المقتطف” التي كانت تصدر في مصر، إن “المقام الرفيع الذي نالته المرأة الطارقية بالنسبة إلى الرجل، هو مقام المرأة الغربية من حيث مساواتها بالرجل. والرجل عند الطوارق يتقيد أمام المرأة بقيود، لا تتقيد هي بواحد منها، حتى أنه يتزين لها ولا تتزين هي له، ولا يرتفع صوته فوق صوتها، ولا يأكل ولا يشرب أمامها، ولا تراه قد حسر من لثامه. ويكاد يقف بين يديها كما يقف بين يدي الله خشية وخضوعا”.
وبرر حالة ثراء المجتمع بالشاعرات أكثر من الرجال الشعراء بأن “الرجل لم يجد في المرأة الطارقية ما يجب أن يكون فيها من الروعة والفتنة، فظلت عواطفه باردة، وظل هو جامداً لا ينظم الشعر فيها، بينما تجد المرأة فيه ما يدغدغ مشاعرها بقوامه وقده الممشوق، وقد يكمن السبب أيضا في كون الرجل لا يتزوج أكثر من واحدة ولا يطلقها ولا يستبدلها بواحدة أخرى”.
وبحسب الزاهري، وفيما يتعلق بقضية شبهة الإباحية والبغاء التي لفقها لها مستشرقون غربيون، لا يعد التعليل صحيحا “والحق أنهم لا يعددون الزوجات ولا يطلقون، لأن المرأة هي التي تتحكم في الرجل تحكما مطلقا وتستأثر بالأمر والنهي دونه داخل المنزل وخارجه، فأمر الزواج والطلاق وغيرهما كله بيد المرأة “، وهو مؤشر آخر على مكانة المرأة الطارقية في مجتمعها.
وتذهب دراسات اجتماعية إلى أنه بالرغم من أن المرأة هي الآمرة الناهية، لا تكاد الفتاة تمضي عقد زواجها إلا عن اضطرار أو ما يشبه ذلك، لأنها ترى في الزواج تنازلا عن سلطتها لصالح الرجل.
وتبقى سهرات “آهال” واحدة من العادات المثيرة، ففيها يتم عرض الشباب والتنافس بينهم من أجل نيل رضى واحدة من الأوانس الحاضرات في كبرياء لاختيار من يروق لها.
ويعرض الفتيان أنفسهم وهم في زينتهم وبأفخر ملابسهم ‏متلثمون ومنتظمون، لا ترى ‎إلا أعينهم من ‏خلال النقاب، حيث يريد كل واحد منهم أن ترضى عنه ‏الفتاة وتقبل به ‎خطيبا‏، ولا يجرؤ أحد منهم على أن يفاتحها بكلمة في هذا الشأن فتمر هي بهم في غبطتها وكبريائها، أو ضاحكة مستبشرة، تتصفح هذا، وتسخر من لثام ذاك، وتعجب برشاقة هذا، حتى إذا اختارت واحدا منهم ورضته لنفسها رجع الآخرون وكأنهم خسروا الدنيا يحملون بين جنباتهم الأسى والحسرة، ويرجع صاحبها، وهو يطفو مرحا ونشاطا، ويطفح زهوا، يكاد يخرق الأرض ويبلغ الجبال طولا، ثم يقضيان معا مدة قبل الزواج ويخلوان بأنفسهما، ويجتمعان في سهرات ‘آهال’، ليظهر لها هو أنه كفؤ لها ولتتأكد هي مما عنده من الأدب والاستقامة”.
*واجبات تضبطها الأعراف
يعد الأدب والاستقامة في عرف الطوارق من الواجبات التي يؤديها الرجال -ولاسيما الفتيان- على أتم وجه وفي غاية الدقة أمام المرأة؛ فهم يعدون مثلا الأكل أو الشرب أمامها أو الغفلة عن اللثام أمام امرأة أخرى إهانة منه للمرأة لا تغتفر، كما يعتبر ذلك سلوكا مشينا ومخجلا، لكن على العكس من ذلك فالمرأة هي التي لا تأكل ولا تشرب أمام رجل غريب، ولا تكشف عن جسدها أمامه.
ويلفت الكاتب إلى أنه من كمال المروءة والأدب عند الطوارق ألا يفعل الرجل شيئا من ذلك أمام المرأة مطلقا، ويود الفتى لو تسوى به الأرض دون أن تسمع عنه خطيبته أنه أساء الأدب فأكل أمام امرأة.
وسهرات “آهال” هي مناسبات لهو وأنس تجتمع فيها فئات المجتمع الطارقي ومن النساء والرجال، يتناجون ويغنون ويلهون إلى ساعة متأخرة من الليل، فبعد الانتهاء من وجبة العشاء تخرج النسوة إلى ساحة قريبة من منازلهن ويجلسْن جمعا واحدا أو أكثر كما يشتهين، وتبدأ مغنيتهن تغني وتوقع على رباب يسمُّونه “أمزاد”.
بالرغم من أن المرأة هي الآمرة الناهية، لا تكاد الفتاة تمضي عقد زواجها إلا عن اضطرار، لأنها ترى في الزواج تنازلا عن سلطتها لصالح الرجل
وفي “آهال” لا شيء يتحرك في الحفل أو القبيلة إلا بقرار المرأة الكبيرة، ولا يؤذن بعابر السبيل بالنزول عن راحلته إلا بإذنها، وتلك المرأة هي التي لا ينصرف أحد من الجمع إلا بإذنها، ولا يرفع الرجل صوته فوق صوت المرأة، ولا يغني إلا إذا رغبن منه، وألححن عليه وكان حسن الصوت، وأذنت له صاحبته.
ويقول باحثون اجتماعيون إن الفتى الطارقي لا يلقى خطيبته إلا متجملا أنيقا، ولا تكاد هي تلقاه إلا في بدلة حاكتها، وإذا اجتمعا فلا يتحدثان في شيء، إلا أن يتطارحا أحاديث الحب والغرام، أو أن يشكو أحدهما إلى الآخر ما يجده من حرارة الوجد به والشوق إليه، ومن الغريب أن الفتى لا يقبّل خطيبته مطلقا، لأن التقبيل عار عظيم في عرفهم.
وضمنت الموروثات العرفية للمرأة الطارقية مكانة اجتماعية لم تتحقق لنظيرتها في المكونات الأخرى حتى بالنضالات السياسية، وإذا كانت المرأة في الغالب سواء في دول المنطقة أو المجتمعات الأخرى تدعى بـ”زوجة فلان” فإن المرأة الطارقية عكس ذلك، فهناك لا ينسخ اسم الرجل على اسمها ولا تعترف هي به أو تضاف إليه، بل هي التي قد تنسخ اسمه باسمها، فيقال “زوج فلانة” أو “ابن فلانة” أو “أبو فلانة”.

*المصدر : العرب
1