**عارضت جل الأسر المصرية مبادرة شيخ الأزهر التي أطلقها من أجل معالجة ظاهرة العنوسة وتأخر سن الزواج، والداعية إلى تيسير شروطه بالتخفيض في المهور. وتذهب الكثير من الأسر إلى أن الحفاظ على الحقوق المالية للفتاة قبل الزواج من مهر وسكن جاهز شرط أساسي للزواج، ودون ذلك من حق أسرة الفتاة أن ترفض الشاب المتقدم للخطبة بسبب ظروفه.
القاهرة - تصطدم الدعوة التي أطلقها أحمد الطيب شيخ الأزهر في مصر، لتيسير الزواج والكف عن فرض تكاليف باهظة لإتمامه، بثقافة سلبية لا تزال تصنف المهور على أنها انعكاس لقيمة ومكانة الفتيات، وإن تأخرن في سن الزواج، دون اكتراث بفكرة الترشيد في التجهيز، مراعاة للظروف المعيشية الصعبة لأسر مختلفة.
قال شيخ الأزهر إن ارتفاع المهور وفرض قيود مجتمعيّة على الزواج جعلا منه حلما صعب المنال للشبان والفتيات وأسرهم، داعيا الحكومة إلى ضرورة وضع خطة للتعليم والإعلام لمعالجة هذه العادات لأنها تخالف القيم الدينية التي تحث على تيسير الزواج وعدم المغالاة في الشروط والمطالب.
وأوصى شيخ الأزهر بتسليط الضوء على النماذج الأسرية الملهمة كي تتم مساعدة الناس على تغيير النظرة النمطيَّة تجاه شروط الزواج القاسية، بما يتوافق مع موقف الدين والظروف المحيطة بالشباب والأسرة، ويتناسب مع الأوضاع الاقتصادية التي تعيشها الكثير من العائلات، وما يستدعيه ذلك من مرونة واضحة في مطالب الزواج.
تزامنت مبادرة شيخ الأزهر مع ارتفاع معدلات عنوسة (تأخر سن الزواج) الشبان والفتيات في مصر بسبب المغالاة من جانب بعض الأسر، وسط هيمنة العادات والتقاليد وثقافة التباهي على عقول الكثير من الآباء، وتجاهلهم البحث عن حلول غير تقليدية وتبني مبادرات أكثر إنسانية بتقديم تنازلات تُغري الشباب بالزواج دون ضغوط.
وتتعارض المبادرة مع رأي غالب داخل العديد من الأوساط الأسرية بأن الحفاظ على الحقوق المالية للفتاة قبل الزواج من مهر وسكن جاهز ومستلزمات مرتفعة الكلفة مع وفرة مالية للشاب ووظيفة راقية، يفترض أن يكون أولوية قصوى، ودون ذلك من حق أسرة الفتاة أن ترفض الشاب المتقدم للخطبة بسبب ظروفه.
مبادرة شيخ الأزهر تزامنت مع ارتفاع معدلات عنوسة الشبان والفتيات في مصر بسبب مغالاة بعض الأسر في المهور
وهناك أسر تربط سعادة الزوجة في حياتها المستقبلية بالمطالب المبالغ فيها على الشاب المتقدم للزواج منها، بحيث إذا وصلت العلاقة إلى طريق مسدود وانتهت بالطلاق يصبح لديها ما يكفيها من مهر وسكن ووفرة مالية، ممثلة في قيمة المؤخر السخية، والتي تساعدها على تسيير أمورها ولا تحتاج إلى من يساعدها.
وتوجد شريحة من أرباب الأسر مقتنعة بأن تساهلها مع الشاب قبل الزواج يُمكن أن يفهم على أنه تنازل مجاني منها، ما يعكس اختلال معايير السعادة لدى بعض العائلات، لكونها ترهن السعادة بالمال والتجهيزات الغالية والمهور، مقابل إغفال التفاهم والتشارك والمودة بين الشريكين مهما كانت الظروف.
ورغم الظروف المعيشية الصعبة على شريحة معتبرة من المصريين، والكفاح لتوفير الحد الأدنى من متطلبات الحياة الأساسية، ثمة أسر تقترض لمجرد الوفاء برفاهيات الزواج، وأخرى تبيع بعض ممتلكاتها لتوفير نفقات الزواج وأمهات يتورطن في شراء سلع لا يستطعن الوفاء بتسديد أثمانها وينتهي بهن الحال إلى السجن.
وجاءت مبادرة شيخ الأزهر في توقيت دقيق وظرف اقتصادي بالغ القسوة، لكن تظل المعضلة كامنة في كيفية وصولها إلى أكبر شريحة من الناس، حيث لا تتبناها وسائل الإعلام الرسمية، أو ترعاها مؤسسات حكومية بخطاب قوي من الوعي والتثقيف، مثل المدارس والجامعات ومراكز الشباب والمساجد والكنائس.
ويحظى أحمد الطيب بتقدير مجتمعي واضح، لكن الثقافة الأسرية بشأن الزواج لا تزال متحجرة في ظل تعامل بعضها مع زواج الفتاة بتفكير تجاري بحت، وذلك بالتزامن مع وجود الكثير من المقبلات على الزواج اللاتي لديهن استعداد كامل لخوض التجربة دون فرض تكاليف باهظة على الشبان المتقدمين لخطبتهن.
وأعلن المركز المصري لبحوث الرأي العام في مصر نتيجة استطلاع أجراه مؤخرا حول مدى تقبل الفتيات لإلغاء عادات وطقوس في الزواج، وكانت المفاجأة أن 62 في المئة منهن وافقن على الزواج بأقل كلفة، المهم توافر الشاب المناسب، بينما تقبلت 38 في المئة من الفتيات أن يكون زواجهن من دون مهر.
مبادرة شيخ الأزهر تحتاج إلى أن تتحول إلى مشروع، لأن المجتمع المصري بحاجة ملحة إلى تغيير قناعاته تجاه السعادة الزوجية
ومهما كانت الفتاة واعية ومستعدة للتنازل عن بعض الشروط، مقابل أن تجد الشاب المناسب لها والمتوافق معها فكريا ونفسيا وعاطفيا، سوف تظل المشكلة في آباء وأمهات ينظرون إلى المستلزمات والمهور والرفاهيات كأساس لبناء علاقة زوجية مستقرة، مع أنهم أحيانا يتسببون في هدم الزواج قبل أن يبدأ.
يقود ذلك إلى ضرورة تغيير عادات الأسر بشأن هوية من يحدد شروط الزواج، فالأب والأم مطالبان بترك المهمة للفتاة نفسها بلا إملاءات، بحيث تكون لديها شخصية وشجاعة وجرأة على التخطيط لمستقبلها وتكوين عش الزوجية مع شريكها بطريقتهما الخاصة، وهذا في حد ذاته كفيل بإسقاط الشروط التعجيزية.
ويعتقد متخصصون في العلاقات الأسرية أن تخلي الأسر عن الشروط المبالغ فيها عند الزواج لم يعد صعبا، المهم النزول إلى مستوى وعي الشريحة المستهدفة بمشروع تثقيفي متكامل تتشارك فيه مختلف الجهات لنشر فكرة أن العلاقة الزوجية تقوم على المودة والتراحم، ولا يتم تقييمها بقيمة ما يدفعه كل طرف.
وأكدت الباحثة في علم الاجتماع والعلاقات العائلية بالقاهرة هالة منصور أن التوقيت الراهن أفضل فترة لإقناع الأسر بتغيير شروط الزواج عبر استغلال الظروف المعيشية الصعبة لتوجيه خطاب عقلاني بسيط هادف إلى الأهالي، مع تغيير فهمهم للزواج بأن المرونة لا تعني التساهل أو هدر أيّ حق من حقوق الفتاة.
وأضافت في تصريح لـ”العرب” أن مبادرة شيخ الأزهر تحتاج إلى أن تتحول إلى مشروع، لأن المجتمع المصري بحاجة ملحة إلى تغيير قناعاته تجاه السعادة الزوجية؛ وذلك بأن يدرك أنها لا تقاس بحجم الكلفة المادية، بقدر ما يمكن أن تتحقق بشيء رمزي، وهذا ما كان يحدث في الماضي، ومن المهم حدوث توافق بين الشريكين.
وأكدت أن المشكلة الحقيقية تظل مرتبطة بفكرة التباهي، واستباحة الاستدانة من أجل الزواج، ما يتطلب تدخل عقلاء لوضع حد أقصى لمستلزمات الزواج يتم فرضه على كل أبناء العائلة، بالتوازي مع قيام المؤسسة التوعوية بنشر ثقافة الزواج الميسر الذي يؤسس لسعادة مستقبلية بلا أعباء كبيرة وديون مرهقة.
وقد لا يُدرك أرباب الأسر أن الشروط التعجيزية على الشباب تدفعهم إلى دخول العلاقة الزوجية وهم محملون بقائمة طويلة من المسؤوليات والضغوط والديون، والزوجة في النهاية سوف تكون شريكة في الخلاص من تلك الأعباء مع شريكها، أيّ أن الاستدانة جلبت إليها منغصات عكرت صفو حياتها قبل أن تبدأ.
أما إذا كانت الأسرة مرنة في مطالبها، فذلك يضع على عاتق الشاب المتقدم لخطبة الفتاة عبء تحمل مسؤولية الحفاظ عليها وإثبات أنه يستحق تلك التنازلات، وهي ثقافة تحتاج إلى أن تنتشر بين أرباب الأسر بالتوازي مع مبادرة الأزهر على أمل استحداث تقاليد معاصرة للزواج تناسب الشباب ولا تساير تقاليد المجتمع.
دعوة الأزهر إلى تيسير الزواج تصطدم بتعامل الأسر مع المهور!!
بقلم : أحمد حافظ ... 17.12.2024
*المصدر : العرب