أحدث الأخبار
الأحد 24 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
نحو عولمة متعقّلة بوجه إنساني!؟

بقلم : د.خالد الحروب ... 28.06.2009

في أحد أيام تشرين الاول (أكتوبر) 2000 شهدت كلية لندن للاقتصاد والسياسة (LSE) ندوة هامة وشبه تاريخية عن العولمة تحدّث فيها أربعة مفكرين من كبار المنظرين عن الموضوع في الوقت الحاضر: جون غراي وأنتوني غيدنز وماري كالادور وفريد هاليداي. في تلك الندوة التي أقيمت تحت عنوان «العولمة: النقاش الكبير» قال غيدنز، وكان آنذاك يرأس الكلية، إن السجال حول العولمة تجاوز الجدل في ما إن كانت ظاهرة جديدة، ام امتداداً وتوسيعاً لظواهر التواصل البشري المعولم خلال القرون الماضية. وجادل أن العالم دخل مرحلة جديدة لا يمكن العودة عنها ميزتها الأساسية تكثف الزمن، واختصار المسافات والجغرافيات. لكن هذا لا يعني إطلاق قيمة معيارية إزاء العولمة تقول بأنها خير أو شر للبشرية، فذلك تبسيط لحالة مركبة هي خليط من الفرص والتهديدات. في تلك الندوة كانت رؤية جون غراي، المفكر المتشائم دوماً، لا تختلف عن ذلك (بشكل مفاجئ ربما)، إذ أكد مركزية التكنولوجيا في العولمة وبأنها مرحلة جديدة لا يمكن العودة عنها، وبأن التراجع عن العولمة (de-globalisation)، أمر لا يمكن حدوثه. المفكرون الأربعة، يومها، وكما هو التيار الأعرض في السجال حول العولمة يرفض حصرها في الجانب الاقتصادي، ويستخف بالحتمية الاقتصادية التي تختصر العولمة في بعدها في كثير من الأدبيات.
تُستحضر بعض هذه الأفكار عند التأمل في السجال الأكاديمي الساخن القائم اليوم بالتوازي مع الأزمة المالية والاقتصادية العالمية، والذي يعيد استحضار معنى العولمة وصيرورتها واحتمالية تقهقرها وتفككها. ومن المفيد لإدراك المسارات الأكثر احتمالاً والتي يتجه نحوها العالم، سواء المتعولم في العمق أو المتعولم على السطح، ان تعود إلى الأذهان التعريفات الأكثر فعالية للعولمة، ومعظمها رأى في العولمة حركة تحوّل إنساني أكبر من أن تُحصر في اتساع نطاقات السوق، وتبدل هيكلية رأس المال على الأهمية الكبرى والمركزية لهذا البعد بطبيعة الحال. فما يُضاف إليه في التعريفات الأكثر شمولية بعدان آخران لا يقلان اهمية عنه، إن لم يفوقاه فيها. البعد الأول هو التكنولوجيا وانفجاراتها التقنية المذهلة، والتي تحدث بتسارع يصعب اللحاق به. والبعد الثاني هو عمق الاعتماد المتبادل المتجاوز للحدود والذي يشمل جوانب كثيفة جدا: سياسية واجتماعية وثقافية وبيئية وحقوقية إنسانية وإعلامية وفنية وتعاونية. ويختلف المنظرون إزاء درجة تكثف وفاعلية الشبكات التبادلية فمنهم من يرى نشوء مجتمع مدني معولم ومنهم من يرى بروز جوانب متعددة فقط من ذلك المجتمع المفترض.
إذا كان الجانب الاقتصادي والمالي في العولمة قد يتعرض إلى التقهقر de-globalisation (وغالبا الموقت) فإنه من الصعب إن لم يكن أقرب إلى الاستحالة تخيل البعدين الآخرين، التكنولوجيا وشبكات المجتمع المدني المعولم يتقهقران. فحركة العلم والاختراعات والتكنولوجيا تتعاظم بحسب متواليات هندسية ومنحيات متصاعدة. وفي كل مجال من مجالات العلوم التي يمكن تخيلها: سواء في الطب أو في الكمبيوتر أو الاتصالات أو البيولوجيا أو الجينات أو الفضاء أو المواصلات, الخ، لا نرى سوى اندفاعات هائلة نحو التقدم، وليس التقهقر. والتغيير التكنولوجي يصاحبه تعولم أكثر كثافة، ويؤثر في صلب البنى الاقتصادية والاجتماعية والتواصلية والزمنية، وكل ذلك يكرس من اختزال المسافات والجغرافيات، ليس بسماتها التقليدية وحسب، بل والأهم من خلال أشكالها الافتراضية والتواصلية عبر وسائل الاتصال المتجددة. والتقدم العلمي الهائل في كل تلك المجالات ينعكس على تعميق أكثر للاعتمادية التبادلية بين الدول والشعوب والجماعات والأفراد، وبحيث يصبح التفكير بالانفصال عن العالم الخارجي، حتى الانفصال الكتلوي أو الـ de-linkage كما هي أطروحة سمير أمين القديمة، أو محاولة الاكتفاء بالذاتي، كل ذلك يصبح أمرا شبه مستحيل.
على ذلك فإن الأزمة الحالية وحتى لو وصلت إلى ما يمكن وصفه بـ «الكساد المالي والاقتصادي» المشابه لكساد ثلاثينات القرن الماضي، لا يعمل فعلاً على تقهقر العولمة. لربما يشتغل على إبطاء صيروراتها المالية والاقتصادية (وهي مرة أخرى ليست الصيرورات الحصرية فيها)، لكنه لا يحيط بها جميعها. وأبعد من ذلك فالأمر المثير الذي نشهده حالياً هو أن محاولة مواجهة الأزمة الراهنة عالمياً، وكما تبدى في لقاءات القمة العالمية وقمة العشرين في لندن، تتخلق ضمن قناعة جماعية بأن الحل لا بد أن يكون جماعياً ومعولماً: اقتصاديا ومالياً وسياسياً. ومعنى ذلك أن التقهقر الاقتصادي المعولم الراهن يقود إلى عولمة جهود البحث عن حل. فقبل هذه الأزمة كنا نعرف قمة الدول الثماني، وبعدها صرنا نعرف قمة الدول العشرين. الأولى محصورة بالدول الغربية واليابان وروسيا، والثانية فتحت الباب لدول من العالم الثالث والقارات الأخرى.
يُضاف إلى ذلك أن جذر الأزمة المالية والاقتصادية الحالية يقع في جنون الأسواق المالية والإقراضية، أي عملياً في جنوح السوق وجموحها عن كل قيد، وليس في الفكرة الرأسمالية نفسها التي تشكل قلب البعد الاقتصادي للعولمة. ووجود الرأسمالية لا يفترض آلياً وجود اقتصاد السوق المفتوح التقليدي، أو السوق المفتوح النيوليبرالي. فهناك تجارب رأسمالية عديدة (في آسيا والصين مثلاً) تواجدت فيها الرأسمالية وما زالت تتواجد إلى جانب سيطرة شبه مركزية من قبل الدولة، ومن دون الاستسلام التام لمنطق السوق المتوحش الذي لا يعترف بحدود. والاستفاقة المتأخرة لكن الواسعة والمكلفة من قبل الدول الغربية الأساسية تجاه الانفلات المدمّر للسوق، العائد إلى السياسات التاتشرية والريغانية في الثمانينات، تقود حالياً إلى إعادة لملمة السوق لتخضع للآليات التقليدية للرأسمالية، بما فيها دور أقوى للدولة. بمعنى آخر ترشيد وعقلنة للعولمة الاقتصادية وليس تفكيكها.
تاريخياً، أو على الأقل خلال القرن العشرين وحتى الآن، احتل السجال حول موقع الاقتصاد الرأسمالي من المجتمع، القومي والعالمي في آن معاً، قلب النقاشات حول شكل المجتمعات الحديثة وتوجهاتها وإعادة هيكلة اهتماماتها وولاءاتها. وكانت وما زالت طروحات كارل بولانيي، الفيلسوف الاقتصادي النمساوي، في كتابه الشهير «التحول الكبير» بعد الحرب العالمية الثانية محل جذب وشد في هذا السياق. بولانيي كان يرى أن الخلل الكبير الذي أحدثه رأس المال في طبعته الصناعية الحديثة في تاريخ الاجتماع البشري هو إخراجه للاقتصاد من تحت سيطرة المجتمع. انشد الاقتصاد إلى حدود خارجية، وعاد في حركة التفافية ليسيطر فوقياً على المجتمع، وليصبح البوصلة المشكلة له. على إثر هذا التحول الكبير أصبحت التشكيلات الاجتماعية والإنسانية مُقادة عملياً بحركة رأس المال الصناعي الهائلة والواسعة والتي آلت في ما بعد الحرب الباردة الى تسارع وتائر العولمة. ولمواجهة توحش رأس المال ضد المجتمع والبشر نشأت دول الرفاه الاجتماعي الغربية والتي تقوم في جوهرها على ترسيخ دور الدولة في الدورة الاقتصادية الاجتماعية للمجتمعات، أو محاولة جدية لإعادة الاقتصاد تحت مظلة المجتمع، وليس العكس.
ولعل ما رأيناه خلال الأزمة الحالية، ومرة أخرى التي تعود بعض جذورها إلى التخلي عن دولة الرفاه الاجتماعي، يمكن أن يمثل صيرورة مماثلة لتحدي الاقتصاد الرأسمالي للمجتمع والتمرد عليه، ثم إعادة إخضاعه نسبياً عبر كينز ودولة الضمان والرعاية الإجتماعية. لكن ما حدث هذه المرة هو أن التمرد ومحاولة الإخضاع يتمّان في مستوى آخر: في مستوى رأس المال نفسه حيث تريد السوق أن تتمرد عليه، وما نراه من محاولات معولمة وجماعية لمواجهة الأزمة يعكس حالياً الهبة الجماعية لإخضاع السوق المنفلت لمنطق رأس المال الاجتماعي.
خلاصة ذلك كله أن الحديث عن تقهقر العولمة de-globalisation ربما كان فيه تهويل كثير، واختزال لأبعادها العديدة في بعد واحد. ليس هذا فحسب، بل وإن افترضنا حدوث ذلك، فواقع رد الفعل العالمي يشير إلى الاتجاه المعاكس. فإذا كانت ثمة صدقية حقيقية لبعض المؤشرات الأولية التي تقول بأن سعار الأزمة بدأ في الخفوت التدريجي، وإنه في مدى سنوات قليلة عدة سيلتقط النمو الاقتصادي انفاسه، وتبدأ اقتصادات العالم بالتعافي، صار بالإمكان المغامرة بالقول إن المواجهة المعولمة للأزمة، لا أي تقهقر طويل المدى مفترض هنا وحسب، بل سوف تعمق من الأبعاد المتعددة للعولمة نفسها، بما فيها الاقتصادية. وقد ننتهي إلى ما يريده الكثيرون في العالم: عولمة معقلنة، غير متوحشة، مُقادة ولا تقود، وذات وجه إنساني واجتماعي.