أحدث الأخبار
الخميس 11 كانون أول/ديسمبر 2025
كيف نحبّبهم في لغة العرب؟
بقلم : سهيل كيوان ... 11.12.2025

في الأيام القريبة تحتفل الكثير من المدارس والمؤسسات التعليمية في العالم العربي بيوم اللغة العربية، الذي أعلنته الأمم المتحدة في الثامن عشر من ديسمبر/كانون الأول منذ عام 1973. وهذا ينطبق على عرب الـ 48. فمعظم المدارس تقيم يوماً خاصاً للغة العربية خلال هذا الأسبوع، وكثير منها يبدع احتفاءً بهذا اليوم، بإقامة مسابقات لُغوية بين الصفوف، ودعوة كتابٍ وشعراءَ محليين، وبمشاركة لجان من الأهالي، ويتخلل هذا اليوم غناء وعروض مسرحية وتضييفات، تضفي البهجة والسّرور على المشاركين.
من الأمور اللافتة في منصّات التواصل، ظهور أطفال يتقنون اللغة العربية الفصيحة، وينقلون إلى متابعيهم أحداثاً كبيرة، ينشدون أشعاراً وطنيّة وقوميّة، وأحاديث وقصصاً، كأنّهم شيوخ طحنتهم الحياة والأحداث.
بعضهم يلقي شعراً، فيه تصنّع بحركات اليدين وتعابير الوجه عن «البطولة والصمود» في مواجهة العدو وحتى سحقه، بما يفقد الطفل عفويّته وبراءته.
بعضهم يتحدّث نيابة عن والديه برصانة، فيظهر كأنّه طفل بوعيِ رجلٍ في الخمسين من عمره، يميّز بين الخبيث والطيّب، ويعبّر عن مواقف سياسية متقدّمة، ويدلي بنصائح اجتماعية مكتسبة من تجارب حياة طويلة، ومواقف يخشى الكبار أن يعلنوها.
عادة يكون الهدف هو جمع الإعجابات والتعليقات والمشاركات، ولا يلبث بعضهم أن يبدأ بنشر دعايات تسويقية لبعض المنتجات أو المحلات التجارية، أما أجملهم فأولئك الذين يمارسون طقوسهم الطفولية بعفوية، سواء في تصرفاتهم أو في كلامهم.
في كلّ الأحوال نحبُّ الأطفال، سواء كانوا موجّهين لأهداف تخص ذويهم، أو عفويين، تحدثوا في السّياسة والقضايا الاجتماعية المعقّدة، أم في عشق المثلجات والبالونات والشوكولاتة.
في مناسبة ما، التقيت قريباً لي برفقة طفله المتوحّد ابن الثمانية أعوام. فاجأني الطفل بأنّه لا يتحدّث إلا بعربيةٍ فصيحة خالية من الأخطاء وبلا تصنّع ولا تلقين.
سألته من أين لك هذا؟ فردّ بأنّه يستمعُ إلى القصص والأفلام الناطقة بالعربية الفصيحة. حتى صارت هذه لغته في البيت والمدرسة وفي كلِّ مكان.
هذا يقول إننا إذا تعاملنا مع الأطفال منذ البداية في اللغة الفصيحة، فسيمارسونها كأمرٍ طبيعي من غير تكلّف أو تصنّع، وتصبح سهلةً ومرنة على ألسنتهم.
قبل أيام، دار حديث بيني وبين أحد المعلمين حول واقع تعليم اللغة العربية في المدارس داخل منطقة الـ 48، وقد لفت انتباهي تشخيصه الدقيق إلى ما يواجهه الطلاب اليوم، فبينه وبين أغلب طلابه حاجزٌ مع اللغة، يمنعهم من التّفاعل الحقيقي معها، ويجعلهم يشعرون بثقلها وصعوبتها.
ليست الصعوبة في فهم الكلمات والنّصوص، بل في القواعد والإعراب وشرح البلاغة. ويبدو أنّ الطريقة المتّبعة في تدريسها تجعل البسيط معقّداً والجميل ثقيلاً وقبيحاً، كأنّها تقول للطلاب: «أنا لغة كومة من العُقد والأشواك، وهيهات أن تفلحوا في تفكيك قواعدي وأسراري. وكأنّ التبسيط عيبٌ.
تتحوّل دروس قواعد اللغة العربية لدى معظم الطلاب إلى عقوبة يتمنون أن تنتهي وتمرَّ بسلام، أكثر منها بابًا للمعرفة والمتعة، لهذا درس القواعد مكروه جيلاً بعد جيل، ومن النادر أن تجد طلاباً يقولون إنهم يحبّون درس القواعد.
تتحوّل اللغة العربية إلى مجموعة من الشروط النحوية والتعاريف النظرية، ومع مرور الوقت يتحوّل الدرس إلى سباق لتجنب الأخطاء، بدل أن يكون فرصةً لفهم اللغة واستعمالها بصورة حيّة. هكذا تصبح القواعد عائقاً نفسياً ومصدر توتّر للطلاب والمعلمين على حد سواء.
المشكلة ليست في اللغة ذاتها، ولكن طريقة تقديمها في كثير من المناهج التي تجعل من الطالب «محاصراً» داخل المصطلحات والتعريفات. ومهما حاول المعلم أن يشرح بلطف، فإن الشكل العام للتدريس يجعل الطالب يركّز على «الإعراب» أكثر من التركيز على المعنى والفهم. وبهذا يشعر الطالب أن اللغة ليست وسيلة للتعبير، بل مجموعة قوانين وحقل ألغام يجب ألا يُخطئ فيه.
الحقيقة أن القواعد ليست صعبة بطبيعتها، بل صعبة في الإسهاب في تفاصيل تشريحية تجعل من إعراب جملة بسيطة ومفهومة إلى جملة ثقيلة ظلٍّ غير منتهية.
هذا ينطبق على العمليات التشريحية لما يسمى البلاغة، حيث إن بيت شعر واضح وبسيط يوضع إلى طاولة التشريح، فيخرج منه عشر صفحات من الشّرح والتحليل، ما يجعل المعلم نفسه مرهقاً، فما بالك بالطالب أو أحد ذويه الذي سيساعده!
اللغة العربية يمكن أن تُقدَّم بطريقة ممتعة وسهلة إذا انطلقنا من أنّ القاعدة هي فهم النّص وليس النجاح في الامتحان فقط.
الجميع يقولون إنّ الحل هو في «التبسيط دون التفريط».
استعمال نصوص ممتعة للطلاب، مثل القصص القصيرة والقصيرة جداً والمقاطع الحوارية، وإدخال مسابقات لغوية وألعاب تفاعلية تجعل الطلاب يمارسون اللغة بدلاً من حفظ قواعدها نظرياً.
كما يمكن للمدرسة إشراك أولياء الأمور والكتّاب المحليين في إقامة ورشات قراءة أو لقاءات ثقافية، بحيث يرى الطالب أنّ العربية ليست فقط مادة دراسية، بل لغة حياة وانتماء.
إضافة إلى عَقبة القواعد، هنالك رداءة الخط الذي بالكاد يمكن قراءته. باتت خطوط الطلاب بحاجة إلى تحليل مخبري، فمن بين كلِّ عشرة طلاب تجد طالبين أو ثلاثة خطوطهم مقروءة.
هذا بسبب الاعتماد المتزايد في الكتابة على شاشة الحاسوب والهاتف الذي قلّص استعمال الطالب للقلم والورقة، وهذا جعل إمساك الطالب بالقلم صعباً، حتى إن بعضهم يمسكه بطرق غريبة وعجيبة.
كذلك لعدم وجود حصص خاصة بتعليم الخط العربي كما كان في يوم من الأيام، وهو ما أوصل الخطوط إلى هذا المستوى من التردّي. قضية الخط تتجاوز الجمالية والزخرفة وفنون الخط إلى صعوبة قراءته، وهذه إضافة أخرى إلى الحاجز المتراكم بين الطلاب واللغة العربية.
إضافة إلى هذه الحواجز، هنالك الحيّز العام الذي صار في كثير من الحالات يتجاهل اللغة العربية أو أنه يشوهها بتوجيه سلطوي. ومن حيث لا يدري كثيرون من أصحاب المتاجر في القرى والمدن العربية، يتجاهلون العربية على لافتاتهم، وهذه مسؤولية البلديات والمجالس المحلية التي تملك حق سن قوانين مساعدة وفرض اللغة العربية على اللافتات إلى جانب اللغات الأخرى.
ليست الغاية أن نُحفِّظ الطالب إعراباً دقيقاً في سنٍّ مبكّرة، بل أن نحبّبه باللغة حتى يصبح قادراً على استعمالها بفصاحة وثقة. وحين يحب الطالب اللغة، سيبحث بنفسه عن قواعدها وبلاغتها وأسرارها، وسيصبح الإعراب وسيلة للفهم وليس حاجزًا يعطّل التواصل، كذلك سوف يسعى إلى تحسين خطّه عند كتابتها، وسوف يشعر بأهمية وجودها على لافتة في الطريق أو على متجر.
علينا أن ننتقل من امتحان اللغة إلى تجربة اللغة، ومن خوف الخطأ إلى شجاعة التعبير، حتى يبقى الطالب قريباً من لغته، لا متبرّماً منها. وإذا استطعنا أن نفعل ذلك، فلن نحتاج إلى أن نسأل: لماذا يكره الطلاب العربية؟ بل سنسأل: كيف نجعل هذه المحبة تزداد يومًا بعد يوم.

1