أحدث الأخبار
الخميس 04 كانون أول/ديسمبر 2025
غزّة مُعاقَة… والعالم معاقٌ!!
بقلم : سهيل كيوان ... 04.12.2025

يحيي العالم في الثالث من ديسمبر/كانون الأول، يوم «ذوي الإعاقة» العالمي، منذ إقراره عام 1992 في الأمم المتحدة، بهدف لفت الانتباه أكثر إلى هذه الشريحة، وإتاحة حياة كريمة لها، ما يعني الإتاحة لهم بالوصول إلى جميع الأماكن المتاحة لإنسان يتمتع بكامل قدراته الجسدية، وهذا يتطّلب توفير بنى تحتية ملائمة لمثل هذه الاحتياجات الخاصة. بلا شك، أنّ هذا متعلق بمدى تطوّر المجتمع الذي تنتمي له هذه الشريحة، التي تشكّل 16% من سُكّان العالم، أي حوالي مليار و300 مليون إنسان. يعني أنّ واحداً من كل ستة من البشر يحمل إعاقة، منهم حوالي 72 مليون إنسان يعيشون في الدول العربية، هذا يشمل الإعاقات الجسدية والنّفسية الدائمة.
أكثر أبناء هذه الشريحة يستطيع أن يمارس عملاً جسدياً إنتاجياً، إذا ما توفرت له التقنيات المساعدة والعمل الملائم، وأكثرهم يستطيعون قيادة سيارة، وبعضهم يعمل في مجالات العمل الذّهني والإبداع في مختلف الفنون، بينهم متوحّدون يملكون قدرات خارقة في مواضيع محدّدة مثل حفظ أرقام هواتف وأرقام سيارات وحلّ معادلات حسابية. صادفت طفلا متوحدا في الثامنة من عمره لا يتحدّث إلا بالعربية الفصحى، ومع تشكيل كل كلمّة بدقّة مدهشة.
من المفروض وفي الوضع الطبيعي لأية دولة أن تتوقف عند هذا اليوم، وتفتح دفاترها وتراجع علاقتها مع هذه الشريحة الواسعة من المجتمع. هنالك دول ذهبت بعيداً في استيعاب أبناء هذه الشريحة، وهيّأت لهم فرص المشاركة في جميع مناحي الحياة، من عمل إنتاجي وفنون تشكيلية وإبداع مثل الموسيقى والأدب، وكذلك في مجال الرّياضة، وهنالك دول لديها دوري رياضي في كرّة السّلة، (فريق العجلات) وغيرها من رياضات لذوي الهمم. تميّز افتتاح مونديال 2022 في قطر، بمشاركة الشّاب غانم المفتاح، وهو من ذوي الاحتياجات الخاصة، وكانت هذه لفتة غير تقليدية. هنالك دول فيها قوانين تهتم، ومخصّصة لدعم هذه الشّريحة، ولكن الهوة واسعة بين القانون النظري والتطبيق الضعيف على أرض الواقع.
**في قطاع غزة الإعاقة قضية حق في الحياة مثل بقية البشر، ومواصلة منع المرضى والجرحى من الخروج للعلاج هي أحكام عليهم بالإعاقات الدائمة وحتى بالموت
التعامل مع هذه الشّريحة بالذات ودعمها، وعدم تركها لتتحوّل إلى عبء مادي ومعنوي على المُجتمع، هو مقياس لتقدّم هذه الدولة أو تلك. حين ننظر إلى الأماكن التي ضربتها الحروب والحصار الطويل، يتبدّد الخطاب الاحتفالي بسرعة، ويظهر واقعٌ آخر تماماً، تتقاطع فيه الإعاقة مع السياسة، والحياة مع العجز عن العلاج، وهذه تضاف إلى جرائم الحرب التي سبقتها. قليلٌ من المناطق في العالم اختبرت الإعاقة بالحجم الذي اختبره سكان قطاع غزة، يحمل الشعب في قطاع غزة إرثاً ثقيلاً من الإصابات والحوادث والأمراض المزمنة، بعضها كان يحتاج إلى علاج خارج القطاع منذ سنوات، وذلك لمحدودية العتاد المتقدّم المتوفّر الذي يُسمح بإدخاله، مقابل الأعداد الكبيرة للمحتاجين، وتشير تقديرات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني إلى أنّ ما يقارب (58) ألف إنسان في قطاع غزّة كانوا يعيشون مع إعاقات دائمة قبل الحرب، في بيئة تفتقر أصلًا إلى البنية التحتية الضرورية، وإلى الخدمات الصحيّة المتخصصة. ثم جاءت حرب الإبادة الأخيرة لتفتح بابا جديدا من المأساة، وحسب بيانات منظّمات إنسانية وطبّية دولية، بلغ عدد الجرحى في قطاع غزة منذ بدء العدوان إلى أكثر من 171000 إنسان، من بينهم أكثر من 30 ألف إعاقة.
من الطبيعي أن تتحوّل نسبة كبيرة من هذه الأعداد إلى إعاقات دائمة، خصوصا في ظل الانهيار شبه الكامل للنظام الصحي، ونقص الأدوية والعتاد، وتعطّل مستشفيات وغرف عمليات، وغياب العلاج التأهيلي، والعدوان المستمر الذي يسبّب يوميّاً المزيد من الإصابات، وبالتالي المزيد من الإعاقات. تقول التقديرات والخبرات الطبية الدولية في الحروب، إن 8% من الإصابات في الحروب تتحوّل إلى إعاقات دائمة.. هذا يشمل بتر أطراف ووجود شظايا في الجسد، خصوصاً الرأس، وفقدان البصر، والحروق، والشّلل، والصدمات النفسية الصّعبة. كل واحد من هؤلاء يفقد جزءا من عالمه، يتغيّر موقعه داخل الأسرة، تتغيّر نظرته إلى نفسه، وتتغيّر علاقته بالمجتمع وفرصه المستقبلية، هذا يزيد الأوضاع سوءا وبعضها يسبب تفكّك الأسرة. وفق تقارير من الأمم المتحدّة ومصادر طبية فلسطينية، يوجد اليوم ما يقارب 17000 جريح ومريض في قطاع غزة، يحتاجون إلى تحويل علاجي فوري خارج القطاع. يحتاج هؤلاء إلى جراحة عاجلة، أو إلى زرع أطراف صناعية، وعلاج كسور معقّدة، أو عمليات أعصاب وعمود فقري، ومعالجة حروق عميقة، أو إلى إعادة تأهيل متقدّم غير متوفر في قطاع غزة بأيِّ شكل. المعابر مغلقة، ونظام تحويل هؤلاء إلى خارج القطاع شبه متوقف، وكلّ ساعة تمرُّ من غير علاج، ممكن أن تحوّل هذه الإصابات إلى إعاقات دائمة.
الإعاقة في غزة لا تنتج فقط من القصف والإصابة، بل من منع العلاج أيضا، بل ملاحقة المصابين وقصف المستشفيات ومحيطها والمتعالجين فيها، في إسرائيل كذلك توجد أعداد كبيرة من المعاقين، خصوصاً من المصنّفين في المجال النّفسي منذ بدء حرب الإبادة الأخيرة على قطاع غزة وما رافقها على الجبهتين اللبنانية واليمنية والإيرانية، وحسب إحصاءات إسرائيلية مختلفة، الحديث عن حوالي 40 ألف إصابة نصفها مصنّفة كإصابات نفسية تحتاج إلى متابعة، إلا أنّ لدى إسرائيل الإمكانيات الكبيرة والدّعم المادي الهائل لهذه الشّريحة، ورغم ذلك هنالك تقصير كبير، حيث أن 30% من هذه الشّريحة يقولون، إنهم يتجنبون التنقل أو الدّخول إلى أماكن معيّنة بسبب عدم الإتاحة التقنيّة لوضعهم. نسبة عالية من هذه الإصابات نفسية ونتيجة صدمة مما شاهده هؤلاء من جرائم مروّعة بحق الفلسطينيين، كذلك نتيجة مشاهدة ما جرى لزملائهم الذين احترقوا في آلياتهم، أو جرى قنصهم أو تفجيرهم أمام أبصارهم، إضافة إلى قصف الطائرات لزملاء لهم، حسب بروتوكول (هنيبال) خشية وقوعهم في الأسر، كذلك فإن كثيراً منها هي محاولات احتيال لأجل الحصول على مخصّصات من مؤسسة التأمين الوطني، أو لأجل التهرّب من الخدمة العسكريّة. ولكن تبقى إمكانيات العلاج وإنقاذ المصابين في إسرائيل وخارجها كبيرة جداً، بما لا يقارن مع وضع قطاع غزّة المحاصر والفقير منذ سنوات.
في غزة، ومع وجود عشرات الآلاف من المصابين وعجز المنظومة الصحية، تتضاعف المعاناة، فالمجتمع المحاصر أصلا يُحمَّل أثقالا تفوق طاقته، فضلاً عن الأثر النفسي العميق الذي يمتد إلى الأطفال، فنسبة مرتفعة من الإعاقات الجديدة هي من شريحة الأطفال. في قطاع غزة الإعاقة ليست مسألة صحيّة فحسب، بل هي قضية حق في الحياة مثل بقية البشر، ومواصلة منع المرضى والجرحى من الخروج للعلاج هي أحكام عليهم بالإعاقات الدائمة وحتى بالموت. وإذا كان هذا اليوم العالمي مخصّصاً لرفع الوعي وتحسين أوضاع ذوي الإعاقة حول العالم، فلا معنى له، ويبقى العالم كلُّه معاقاً، ما لم يمتد هذا الاهتمام إلى القطاع المدمّر وإنقاذ سكانه من أكبر مسبّبات الإعاقة وهو الاحتلال.

1