احتفل السوريون في 8 ديسمبر 2025 بمرور عام على واحدة من أثقل وأطول ليالي تاريخهم؛ تلك الليلة التي بزغ فجرها قبل عام تماما. ففي هذا اليوم قبل سنة، دخلت القوى المعارضة إلى العاصمة دمشق، وانهار معها نظام البعث الممتد منذ 61 عاما، وسقطت سلالة الأسد التي حكمت 54 عاما في ظلمات التاريخ. لم يعد هذا التاريخ مجرد ورقة في تقويم؛ بل غدا نقطة تحوّل في قدر شعب صاغته الدماء والصبر والمنفى والأنقاض.
اليوم يستحضر الشعب السوري ثورته التي سقى أرضها بدمائه من أقصاها إلى أقصاها. أمام أهل هذه المنطقة العريقة، التي أنهكتها ممارسات الاستبداد والاحتلال والانقلابات وحروب الوكالة طوال قرنين، طريق طويلة وشاقة. لكن سوريا ليست مجرد دولة؛ إنها من أقدم مفترقات الحضارة، ومن أعمق مراكز الذاكرة التاريخية. وتعافي دمشق لن يكون بشرى طمأنينة لجيرانها فحسب، بل سيشكّل كذلك بارقة توازن وهدوء للمنطقة برمتها.
*حكومة الشرع، رغم كل الجراح، تحمل أمامها فرصة تاريخية، والإقدام على التحدي هو علامة القيادة؛ والقيادة دائما مغامرة تنطوي على المخاطرة
كنت في دمشق الشهر الماضي، ورغم كل جراحها، بقيت هذه المدينة العتيقة تنبض بالحياة. كان التاريخ يمتزج برائحة العوادم، وينساب من جدران الأزقة العتيقة ليلامس وجوه الناس المتعبة. خطوة واحدة تكفي لشمّ رائحة الخراب، وأخرى لتشهد على إصرار الحياة على المضيّ. وفي أرض شهدت وحشية لا نظير لها، يمشي المرء فوق آثار الألم في كل خطوة، لكن تلك الابتسامة الخفيفة التي ترتسم على وجوه من التقيناهم قرب الجامع الأموي، كانت تبشّر بأمل ما يزال حيّاً وسط كل هذا الخراب. كأنّ الحجارة تحطّمت، لكن إرادة الحياة في الإنسان لم تنكسر. يكاد كل مسؤول التقينا به يؤكد أنّه رغم مرور عام كامل، ما تزال تُكتشف يوميا عشرات المقابر الجماعية الجديدة. فبعد انهيار نظام الأسد، تواصل سوريا فتح أرشيف الموت. ما يُسمّى بـ»المقبرة الجماعية المختلطة»، وهي حفر تُلقى فيها الجثث متراكمة فوق بعضها، بلا هوية، بلا اسم، بلا صلاة. من كل أنحاء البلاد تتفجّر عظام البشر. ويرجّح أن تعود هذه الرفات إلى آلاف الأشخاص الذين قُتلوا خلال حقبتي حافظ وبشار الأسد. لقد حوّل النظام البلاد، بالمعنى الحرفي، إلى مقبرة هائلة. تحاول مراكز تحديد الهوية التي أنشأتها الحكومة السورية الجديدة استخراج الهويات من آلاف القطع العظمية. ويذكّر الخبراء بتجربة حرب البوسنة، مؤكدين أن العملية قد تستغرق سنوات طويلة. ولا يبدو أن سوريا ستتوقف قريبا عن مواجهة جثث ماضيها.
من جهة أخرى، يجب على الرئيس السوري أحمد الشرع وحكومته، والدول الإقليمية أن يدركوا جيدا أنّ إسرائيل لن تتخلى عن مشاريعها لا في لبنان ولا في سوريا. لأن السياسة الإسرائيلية في الشرق الأوسط تتركز مباشرة على الجغرافيا المحيطة بها؛ خصوصا على خطّ لبنان ـ سوريا ـ العراق ـ الأردن. ويُعدّ دافيد بن غوريون أحد مهندسي هذه الرؤية. ومن خلال مذكرات موشيه شاريت أول وزير خارجية لإسرائيل ورئيس وزرائها بين 1955–1953، يمكن رؤية هذه الاستراتيجية بوضوح: صناعة الفوضى في الدول المجاورة، وتفكيك الأقليات، وإنشاء كيانات مجزّأة، وجعل إسرائيل القوة الثابتة الوحيدة في المنطقة.
ومع اقتراب عام 2026 بعد أسابيع قليلة، يبقى الملف الأكثر حساسية في سوريا هو دمج قوات سوريا الديمقراطية في الحكومة الجديدة. فاتفاق العاشر من مارس، الذي وقّعه كل من الرئيس الشرع ومظلوم عبدي، يحدد إطار هذا المسار بثماني نقاط. وحتى الآن، زعمت قوات سوريا الديمقراطية التزامها بالاتفاق لتكسب مزيدا من الوقت. وقد أظهرت ثلاثة تطورات متتالية في الأيام الأخيرة، أن العملية تتجه نحو مزيد من التوتر. أولها صور تُظهر تحرك أرتال من القوات التركية عبر خطوط عفرين ورأس العين وحلب باتجاه منبج. وثانيها ظهور الرئيس الشرع بزيّه العسكري في الجامع الأموي خلال احتفال التحرير. وثالثها مقابلة مظلوم عبدي مع صحيفة إسرائيلية في اليوم نفسه، رغم قراره حظر الاحتفالات.
ارتداء الشرع للزي العسكري لا يحمل طابعا استذكاريا، بل رسالة واضحة: «عند الحاجة نرتديه مجددا». أما التحركات التركية، التي يصفها المسؤولون الأمنيون بأنها «نشاط روتيني»، فهي جزء طبيعي من جاهزية الجيوش. قنوات التنسيق الأمني والاستخباراتي بين تركيا وسوريا تعمل لحظيا ويوميا. والتفويض البرلماني التركي الممدد ثلاث سنوات يتيح دعما شاملا عند الضرورة من الجو والبر. وقد زالت معظم القيود السياسية التي كانت في عهد الأسد. مفاوضات الاندماج الآن في أكثر مراحلها حساسية، ففي المراحل الأخيرة، غالبا ما يتظاهر الطرفان بعدم التراجع. وعلى الأرجح سيظهر حلّ توفيقي لا يرضي أحدا بالكامل. وخلال الأسابيع المقبلة سيزداد الحديث عن الملف السوري بشكل مكثف.
خلاصة القول؛ إن حكومة الشرع، رغم كل هذه الجراح، تحمل أمامها فرصة تاريخية، والإقدام على التحدي هو علامة القيادة؛ والقيادة دائما مغامرة تنطوي على المخاطرة. واليوم، لا تواجه سوريا مهمة بناء دولة فحسب، بل مسؤولية إعادة تأسيس أخلاق إقليمية جديدة، وعلى حكومة الشرع، بدعم من تركيا وقطر والسعودية، تشكيل تحالف قوي محوره فلسطين، يمتد من بغداد إلى دمشق وبيروت والقاهرة. لأن مستقبل فلسطين هو أيضا مستقبل هذا الحزام الإقليمي. وكلما التأمت جراح دمشق، ازدادت أنفاس غزة قوة.

