أحدث الأخبار
الخميس 27 تشرين ثاني/نوفمبر 2025
من سيُذكِّر البابا ليو بـ»آريوس»؟!
بقلم : توران قشلاقجي ... 27.11.2025

الزعيم الروحي للعالم الكاثوليكي، البابا ليو الرابع عشر، يزور اليوم تركيا سيجري على مدى ثلاثة أيام لقاءات في أنقرة وإسطنبول وإزنيق؛ ثم يتوجّه يوم الأحد إلى بيروت. وفي قلب هذه الزيارة حدث واحد: الذكرى الـ1700 لمجمع نيقية (إزنيق). يوم الجمعة، سينزل البابا إلى بقايا كنيسة القديس نيافيتوس الغارقة تحت مياه بحيرة إزنيق، ليقيم طقساً بين الحجارة التي اختلطت ذاكرتها بالماء.
لكن، هل هناك من يتذكر أن ذلك المجمع العظيم الذي انعقد قبل 1700 عام في نيقية له أيضاً معنى بالنسبة إلينا نحن المسلمين؟ في الواقع، هناك في العالم العربي كما في تركيا بعض الدراسات المهمة التي تطرقت لهذا الموضوع. ويُعدّ العلّامة المصري الكبير محمد أبو زهرة أحد هؤلاء. فالمسألة التي نوقشت في نيقية لم تكن خلافاً لاهوتياً بسيطاً؛ بل كانت جوهر الصراع بين التوحيد والتثليث.
من جهة، يقف الحكيم الليبي آريوس. ومن الجهة الأخرى أثناسيوس الإسكندري.
« الصراع بين الوثنيين وأتباع التثليث وأهل التوحيد استمر قروناً طويلة، حتى فتح السلطان محمد الفاتح القسطنطينية»
كان آريوس يرى أن السيد المسيح (عليه السلام) مخلوقٌ عبدٌ لله ورسوله. أما أثناسيوس فكان يدّعي أن المسيح هو «الابن الأزلي من نفس جوهر الأب».
في المجمع، اصطدمت هاتان الرؤيتان. أمّا النتيجة التاريخية فقد حُسمت بسياسة ذلك العصر. فالإمبراطور قسطنطينوس – الذي كانت آثار المعتقدات الوثنية ما تزال ظاهرة عليه – وقف إلى جانب أثناسيوس، وهكذا أصبح الإيمان بالتثليث العقيدة الرسمية. غير أن هذا الانتصار لم يدم طويلاً. فبعد عام واحد من المجمع، اعتنق قسطنطينوس آراء آريوس وأصبح أتباعياً له. ثم جاء ابنه قسطنطيوس الثاني بعده، فتبنّى بدوره تعاليم آريوس، وبدأ ينشر عقيدته في كل أرجاء الإمبراطورية. واليوم، يعد غياب الأيقونات والرسوم في بعض الكنائس القديمة في إسطنبول من آثار تلك الحقبة.
لكن الحقيقة في تاريخ بيزنطة لم ترتبط قط بطبقة واحدة. فالصراع بين الوثنيين وأتباع التثليث وأهل التوحيد استمر قروناً طويلة، حتى تغيّر مساره تماماً مع فتح السلطان محمد الفاتح القسطنطينية. فقد كان أهل المدينة المشبعون بروح التوحيد سبباً في دخول الكثير من أتباع آريوس إلى الإسلام.
بين عامي 700 و900 ميلادياً، شهدت إسطنبول أكبر جدالاتها بين محطّمي الأيقونات وصانعيها. ففي عام 726، رأى الإمبراطور ليون الثالث أن الأيقونات ضربٌ من الوثنية، وأمر بإزالتها من الكنائس جميعاً. وقد اصطدمت هذه الحركة «المحطِّمة للأيقونات» مع تقاليد الفن اليوناني العريقة.
وفي منتصف القرن التاسع، جاءت الإمبراطورة ثيودورا إلى الحكم بعد وفاة زوجها، وأعادت الأيقونات إلى الكنائس؛ لتكون الغلبة هذه المرة لصانعي الأيقونات. إلا أن الصراع بين الفريقين لم يهدأ حتى فتح المسلمين للقسطنطينية.
أما آريوس الليبي الذي قُتل شهيداً عام 336 في المكان الذي تقوم عليه آيا صوفيا اليوم، فقد تحولت أفكاره مع الزمن إلى مذهب دُعي الأريوسية. حتى إن مؤسس المدينة، قسطنطينوس، اعتنق تعاليم آريوس في آخر عامين من حياته، ونفَى الكهنة التثليثيين. أما خلفه قسطنطيوس الثاني، فقد بذل جهداً كبيراً لجعل الأريوسية الفهم الرسمي للإمبراطورية.
ويذكر العلّامة الأندلسي ابن حزم في كتابه الشهير «الفصل» أن أول إمبراطورين لبيزنطة كانا من أهل التوحيد. وهذه المعلومة وحدها تكشف لنا عمق الجذور التي تركتها الأريوسية – أي الحركة الموحدة – في تاريخ الأناضول وإسطنبول.
خلاصة القول؛ اليوم يأتي البابا ليو الرابع عشر إلى نيقية، لكن من سيذكّره بآريوس؟ ومن سيخبره كيف ظل صوت التوحيد الذي أُريد له أن يُسكت قبل 1700 عام، يتردد في هذه الأرض؟
ثم من سيشير إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما أرسل رسالته إلى الإمبراطور هرقل، ذكر فيها «الأريوسيين»، مُلفتاً النظر إلى هذا الصدع التاريخي العميق؟ ولا يعرف إن كان الكثيرون يدركون ذلك أم لا، لكن لا ينبغي أن ننسى أن أوائل سكان إسطنبول كانوا من شعوب المغرب. فقد جلب قسطنطينوس أول سكان المدينة من ليبيا وتونس والجزائر والمغرب. بل إن مدينة قسنطينة العريقة في الجزائر هي إحدى المدن التي أسسها؛ أي «إسطنبول الثانية».
وفي النهاية تبقى القضية على النحو التالي؛ البابا يأتي إلى نيقية، لكن آريوس ما يزال تحت الماء… تذكيره هو شهادة حق لصوت التوحيد الذي ما زال حيّاً في ذاكرة هذه الجغرافيا.
*كاتب تركي

1