رغم مرارة الأحداث التي تمرّ بها المنطقة، وخصوصاً ما مرّ وما زال يمرُّ فيه قطاع غزّة، فإن هذا الشّعب لم يتخلّ عن روحه المرحة. وهذا جانبٌ أساسيٌّ من عملية الصّمود والمرونة، فالابتسامة تعني القوّة، وأنّ داخل هذا الإنسان لم يهدم، وإذا ضحك! فهذا يعني أنّه يحتقر المعتدي، ويرى نفسَه أكبر وأرقى منه. ولهذا السّبب، نرى أنّ الابتسامة تستفزُّ المعتدي وتغضبُه.
عندما تضحكُ الضحيّة وتسخر وهي تتعرّض للأذى الشّديد، فهي تنظر إلى جلادها ككائنٍ تافهٍ، لا يمتلك حدّاً أدنى من الأخلاق والثّقافة والإنسانية.
تذكرون الرّجل الغزّاوي الذي تحدّث إلى إحدى الفضائيات وقال «أنا اليوم أفتخر أنّني من غزّة، أمريكا وكلّ العالم جاؤوا لمحاربة غزّة! إذاً غزّة دولة عظمى».
تأتي النكتة بصورة تلقائية لا يقصد منها الضحك لذاته، بل هو تفريغ للضّغوط النّفسية والألم الذي تصعب مقاومته، فتنبثق النّكتة كمتنفّس، فيُضحك الإنسان نفسَه، وقد يُضحك من يسمعه، وهذا يحدث عند التناقض بين الواقع وكلمات يقولها، أو تصرّف أو حالة يمارسها، وكلّما كان التناقض أشدّ حدّة، كانَ ردُّ الفعل مضحكًا أكثر، فشرُّ البلية ما يضحك.
هنالك حلقات كاميرا خفيّة للفنان ابن قطاع غزة (إسلام أيوب)، كانت قد سُجّلت قبل الحرب الأخيرة بعام أو اثنين، يمثّل فيها دور سائق سيارة أجرة، يستفزُّ المسافرين معه بشتى الطرق، وتأتي ردود فعل ضحايا المَقالب مرآة صادقة للحالة الاقتصادية ولثقافة الناس الاجتماعية، مثل كثرة الاستغفار في مواجهة المشكلة، واحترام الكبير. أكثرهم يبدأ ردّه على المقلب «عيب يا حاج، إنت راجل كبير، لا تخليني أغلط فيك»، «يا حاج، لولا أنك كبير لرأيت ما سأفعل بك»، ولكن عندما يستمر في الاستفزاز، يعرّض نفسه للتوبيخ الشّديد وحتى للضرب.
صحيح أنّ غزّة قبل الحرب كانت جميلة في بنيانها القديم والحديث، وشاطئها الجميل وأسواقها ومطاعمها ومؤسساتها، وهي بلا شك أفضل من الدمار والموت الذي حلّ بها، ولكنّها كانت محاصرة، وفيها فقر مدقع لفئات واسعة من الناس، ووصلت نسبة البطالة في القطاع إلى أكثر من 45%.
الوضع في الضفة الغربية اليوم شبيه بقطاع غزة قبل الحرب، بل أسوأ.
على حاجز دير شرف إلى الغرب من نابلس، بعد الغروب بقليل، يقفُ جنديٌ قميء، وبيده هاتف يتسلّى فيه.
هذا الجندي له صلاحية إغلاق الحاجز بحسب مزاجه، من غير الرّجوع إلى قائده، يرغم طابوراً طويلاً من السّيارات على انتظار تفرّغه من هاتفه كي يفتح الحاجز، ويسمح للسيارات بالمرور بالنقطة، يمرر سيارة واحدة ثم يعود إلى الانشغال بهاتفه، ربّما يتحدّث مع صديقته، أو يتابع أشرطة تيك توك، أو يسمع موسيقى، ويطيل متعمّداً بهدف التلذّذ في إهانة الناس. إنهم عمالٌ وفلاحون ومتسوّقون وطلاب ومعلّمون وتجّار، بعضها سيّارات تحمل لوحات إسرائيلية من عرب الـ 48، الذين يزورون نابلس والمنطقة، بهدف التسوّق أو إصلاح مركباتهم. في البداية، يكون الوقوف عاديّاً ومتوقّعاً ومزعجاً، يرافقه تذمّر خفيف وصامت لمدة تصل إلى عشر دقائق، الجميع يعرفون أنّ أيَّة حرّكة غير محسوبة تعني خطر الموت، لهذا يلتزم الجميع في داخل سياراتهم بانتظار إشارة من الجندي المشغول بهاتفه.
حالة من الشّعور بالعجز، بعد ربع ساعة، يعتمل الغضب والقهر في النّفوس، ويبدأ التذمر والشهيق والزّفير، والشّتائم الخفيفة برؤوس الشفاه، وعندما يطول الانتظار إلى نصف ساعة وأكثر، لن يكون أمام الناس سوى خيارين: إما تفجير الغضب ومهاجمة الجندي المستهتر، وحينئذ ستحدث مجزرة كبيرة، أو أن يحيلوا الغضب والقهر إلى ابتسامات وضحك. يبدأ السّائقون والرّكاب في الخيار الأسهل، الابتسام والتّعليقات السّاخرة.
تبدأ التّعليقات من نمط «الليلة سهرتنا على الحاجز للصّبح»، و»مليح أنّ معنا ماء وتمرا لقضاء الليلة هنا»، و»الله يبعث له ابن حلال يخرّب له تلفونه»، «بل وتلفون أمّه»، و»طيّب إذا واحد محشور شو يعمل؟». أخيراً، بعد أن تنطفئ أرواح الناس، يشير الجندي للسّيارة الأولى بأن تتقدّم! وتستمر التعليقات السّاخرة وتتفاقم «بارك الله فيه، طِلع ابن حلال، فتح الحاجز»، واضح أنّه ابن حلال «جازاه الله عنا خيراً»، «يبدو أنّه حنون ابن حنونة»، و»أظنّ أنّه فتح لنا الحاجز حلاوة لفوز زهران ممداني في نيويورك»! قد يكون من ظهرِ عربيٍّ فرَقّ حاله لنا»، «أخيراً أشفق ابن العاهرة علينا»، «حركاته حركات متحوّل جنسيا»، «لأ عيب، هذا تنمّر على الجندي المسكين».
يقول الإنكليز «إنّه سيّئ جدا، إنّه مضحك».
ويقول المثل «همٌّ يُبكي وهمٌّ يُضحك»!
في قطاع غزّة، يقف رجلٌ أمام أنقاض بيته ويأمر ابنته «فوتي على البيت لوين طالعة»؟ فتردُّ عليه «حاضر يا بابا، بَسّْ وين البيت؟» ثم يضحكان معاً. آخر يدعو زملاءه «تفضلوا لعندي، البيت بيتكم»، وهو يشير إلى كتل الإسمنت. ورغم الموقف المؤلم جداً، فقد ضحكوا. عندما تعمّ الكارثة أو المصائب ويصبح الجميع شركاء فيها، تخفُّ حدّتها على الفرد، و»من يرى مصيبة غيره تهون مصيبته عليه» و»المصيبة إذا عمّت هانت». وذلك أنَّه ينشأ شعور من التّضامن الجماعي، وجميع من حولك يمرّون بما تمرُّ به أنت، ولست وحيداً في مصيبتك! الجميع شركاء، يواسي بعضهم بعضاً بحجم نصيبهم من الكارثة.
90% من البيوت في غزة دُمّرت، أو تضرّرت بشكل كبير، فهل انتهت المجاملات المألوفة: البيت بيتك»، و»تفضّل على بيتك»، و»تفضلوا عندنا»، و»ميّلوا علينا» و»كـأنّك في بيتك وأكثر» و»يا ضيفنا لو زرتنا لوجدتنا نحن الضيوف وأنت ربُّ المنزل». لا لم تنته، فهي في صلب التراث والثقافة العربية والفلسطينية، ولكنّها في كثير من الحالات تقال بصورة ساخرة «تفضّلوا الخيمة خيمتكم»، إضافة إلى أنّ واجب الضيافة المعتاد غير متوفّر على الأرجح.
بعض الفلاسفة عرّفوا الإنسان على أنّه حيوان يضحك. ويرى أفلاطون أن الفكاهة ناجمة عن شعور إنسان ما بتفوّقه على الآخرين، وأنّنا نتفوّق على ذواتنا عندما نضحك من أنفسنا.
مثل حديث أحدهم «ذهبت إلى المستشفى بهدف إجراء عملية قسطرة لشريان واحد»، ثم يضحك ويقول لك «الحمد لله، وجدوا ستّة شرايين مسدودة، وحصى في المرارة!».
بعض الغزيين نشروا مقاطع لمُحلِّقة (دورون) التي كانت تحلق على علو منخفض وتوجّه لهم إنذارات الإخلاء بالصّوت، هذه المرة كانت (الدّورون) تحتسب عليهم وتقول «حسبي الله ونعم الوكيل عليكم يا أهل غزة»، وذلك بعد مصرع أحد الجُنود، وسواء كان هذا قد حدث حقيقة، أم أنّه من إبداع أحدهم في الذكاء الصناعي، فكون الزّنانة تتبّنى طريقة الغزيين في الاحتساب عن وقوع مكروه، يثير الابتسامة.
شعبنا يحبُّ الحياة، ويحب الابتسامة، وفي جعبته الكثير، ومن عاشر أهل قطاع غزّة، يعرف كم هم مرحون، رغم ما أصابهم، ورغم الهموم التي تنوء بها الجبال.

