
هي لحظة لا تتكرّر، تلك التي يخرج فيها الأسير من ظلماتِ السّجن إلى نور الحرّية السّاطعة، وينكشف لناظريه المدى الذي لم يره منذ عقود.
لحظات لا تتكرّر تحتاج إلى لغةٍ وكلمات لم تُعرف بعد، إذ يغسلُ الأسرى أعينَهم برؤيةِ بعضٍ من جسد هذا الوطن الذي دفعوا مختارين غير مُكرهين من سني أعمارهم لأجل تحريره من أغلال الاحتلال والسّلب والنّهب والعدوان.
يهبطون من حافلات يزفُّهم جمهورٌ متلهّف للقائهم. أحدُهم قضى ثلاثين عامًا ونيّفًا، كان ما زال أمامه ثلاثة قرون أخرى ليقضيها في السّجن، تطأ قدماه أرضًا تبدّلت ملامحها، ينحني ويسجدُ ويقبّلُ الأرضَ حمداً وشكراً لله على نعمة الحرّية من جديد.
يتنفس الشّمس، ويرى المارّة والباعة المنهمكين في أشغالهم اليومية، المطاعم الشّعبية، الألوان الزاهية على الواجهات التجارية، يتقدّم منه شخصٌ لا يعرفه، أو يشتبه في معرفته ويعانقه بقوّة.
الذين يقضون مُدداً طويلة في السّجون، يصبحون شديدي الحساسيّة مثل الأطفال، كلُّ شيء يلفتُ انتباههم، ويفرحون بأصغر الأمور المعتادة في روتين الحياة العاديّة.
لا تستطيع أن تتخيّل البهجة التي تبعثها في نفس أحدهم بسطةُ الخضار بألوانها وتنوّعها، وأصوات الباعة، أو رائحةُ البُنِّ ومشهدُ الدّخان المتصاعد من محمصٍ ما. سوف يقف أحدهم مذهولاً، إذا استطاع الوصول إلى زرقة البحر.
الاحتلال يحظِر الفرحَ والاحتفال برائحة الحرّية. غريب مدى توحّش هذا الاحتلال، الذي يمارس دور الضّحيّة المنتقمة، كأنّ الفلسطينيين هم الذين هدموا مئات القرى الإسرائيلية، وهم الذين شرّدوا مئات وقتلوا مئات الآلاف منهم، وسرقوا محاصيلهم الزراعية واستوطنوا في أراضيهم التي طردوهم منها، وسجنوا منهم مئات آلاف الرجال والنساء والأطفال.
يخشى الاحتلال من فرح الأسرى وذويهم، لأن الاحتفاء بالحرّية هو إعلانٌ بأنّ المحتلَّ فشل في قتل أرواحِهم، يعني أنّهم انتصروا ولو نصراً صغيراً رغم كل الكوارث، يعني أنّهم ما زالوا يشعرون بإنسانيتهم التي عمل الاحتلال على تشويهها ومحقِها، يعني أنّ أرواحهم لم تُهزم، رغم عذابات الجسد التي فوق قدرة البشر على التحمّل، ما زال هؤلاء قادرين على الابتسام، وعلى الإحساس بالفرح والشُّعور بدفء الاحتضان.
سعى ويسعى الاحتلال إلى تحطيم الأرواح ومسخها، تلك الأرواح العنيدة، الصّلبة، المشغوفة بالحرّية، التي تدرك أنّ للحرّية مهراً باهظاً جداً، وتدفعه بوعي ورضى وتسليمٍ للقدر.
يحرص الاحتلال على إشعار الأسرى بأنّ تنسمهم الحرية لم يكن رغم أنفه، وليس لأنّ المقاومة أصرّت على الصّفقة لتحريرهم، يسعى لإشعارهم بأنهم ما زالوا سجناء، وأنّه قادر على ضرب الحائط بكل اتّفاق وإعادتهم إلى وراء القضبان في أي لحظة. الاحتلال يريد منع الأسرى من الشّعور بأنّ هنالك من يهتم لأمرهم، بل ويدفع الأثمان الباهظة في سبيل حرّيتهم.
الاهتمام بالشُّهداء والأسرى وأسرهم التي يتركونها وراءهم، هو المعيار والمقياس لمصداقية وأخلاق الشّعب الذي ينتمون إليه.
لهذا يحاول الاحتلال أن يمنع السُّلطة الفلسطينية من دفع مخصّصات لأسر الشّهداء والأسرى، ويعتبرها دعماً لما يسميه الإرهاب، ويخصم من المستحقات الضريبية (المقاصّة) ما تقدّمه لأهالي الأسرى والشُّهداء، وهذا أحد المواضيع التي تُتّخذ ذريعة من قبل الاحتلال لمعاقبة السُّلطة.
من ناحيتها، حاولت السُّلطة تجاوزَ هذه الإشكالية التي لا تستطيع تجاوزها، بتحويل مسؤولية دعم أسر الأسرى والشهداء من «وزارة التنمية الاجتماعية» إلى «المؤسّسة الوطنية الفلسطينية للتّمكين الاقتصادي»، وهذا أدى إلى فقدان بعض الأسر لمخصّصاتها، بعد إخضاعها لمعايير مشدّدة للحصول على هذا الدّعم.
هي محاولة إذلال وعقوبة للأسر التي قدّمت وتقدم التضحيات لأجل شعبها ووطنها، كي لا تكون نموذجاً لغيرها.
الإصرار على صفقات تبادل أسرى، يمنح ذوي الأحكام العالية التي تعني المكوث في السّجن حتى الموت، شعوراً بأنّ هناك من يتذكّرهم، ويبذل جهوداً هائلة كي يحرّرهم، وأنّ شعبهم لم ولن يتخلى عنهم، خصوصاً وأنّ أكثر قادة الفصائل مرّوا بتجربة الأسر، وخبِروا معاناة الأسرى والأثمان التي تدفعها أسرهم.
هنالك حوالي مئتين وخمسين ممن تحرّروا من المحكومين بالمؤبّدات، وكل مؤبّد أمني هو تسعة وتسعون عاماً، أي أنّه يوجد أسرى محكومون بأربعمئة عام وأكثر. هذا لا يعني أنّ السّجن لعشرين عاماً أو لعشر سنوات، بل وحتى لعامٍ واحدٍ هو قليل! مريعٌ جداً أن يفقد الإنسانُ حرّيّته حتى لبضعة أشهر، لأنّه قام بعمل مقاوم أو بشبهة مقاومة للاحتلال.
حالياً، يوجد أكثر من ثلاثة آلاف وستمئة من الأسرى من غير محاكمة، هذا يعني أنّهم مخطوفون من بيوتهم وأسرهم لعدم وجود إثباتات ودلائل على ضلوعهم في أعمال معادية للاحتلال. يقدّر عدد الاعتقالات الإدارية منذ الاحتلال عام 1967 حتى يومنا، بحوالي مئة ألف اعتقال، أما عدد الذين اعتقلوا عمومًا فهو يزيد عن مليون إنسان.
هنالك أسرى لم يروا أبناءهم منذ ولادتهم، فقد دخلوا السّجن وتركوا وراءهم نساءهم الحوامل، أو تركوا أطفالاً لم يُفطموا بعد، ولم يسمح لهم برؤية أو احتضان بعضهم بعضاً، حتى صاروا شبّاناً. قال أحدهم إنّه سيحاول التّعرُّف على أبنائه الذين تركهم أطفالاً، وصاروا رجالاً.
أحدهم يعانق زوجته التي تركها وراءه منذ ثلاثين عامًا، يقبّل رأسها ويقول لها: «سامحيني لأنّك ارتبطت بواحد مثلي». يقبّل يديها ورأسها ويحمد الله، وهي تردُّ عليه بحياء «سامحتك». وأخرى تخاطب زوجها الذي بُترت ساقه وبات هزيلاً جداً وهي تقبّل يديه «ستبقى في نظري وقلبي الشّاب القويَّ كما كنت في أيام خطوبتنا وزواجنا الأولى».
الاحتلال يحذّر الأسرى من الحديث لوسائل الإعلام. الأسرى متعبون ومنهكون جسدياً ومصابون بمختلف الأمراض الجلدية وغير الجلدية. بعضهم لم يستطع التعرّف على أبناء أسرته.
أحدهم قضى أربعة عشر ألف يوم، تسعة وثلاثين عاماً، والبعض قضى اثني عشر ألف يوم أو عشرة آلاف يوم، تسعة أو خمسة آلاف يوم، لم يروا فيها بحراً، لم يروا سفحاً يكسوه الدحنون والقندول، لم يروا السّماء إلا من وراء أسلاك وشِباك.
لم يروا جدول مياه ولم يسمعوا خريره، لم يشمّوا عطر بيّارة حمضيات، لم يروا فلاحين في موسم زيتون، لم يروا شروقاً أو غروباً، لم يتناولوا وجبة طعام طازجة من يدي والدة أو زوجة أو ابنة، آلاف الأيام مرت دون مشاركة في تشييع صديق أو قريب أو ابن بلد. كم من الأعياد مرّت على عشرات آلاف الأسرى بعيدًا عن الأهل والأحباب.
كم من الأقرباء والأصدقاء تزوّجوا، وكم منهم أنجب، وكم طفلٍ صار شاباً، وكم رحلوا!
تلقي طائرات الدرون منشورات تحذر الأسر» إيّاكم والفرح».
أي وحشية وهمجية هذه! أي ساديّة تعشّش في رؤوس أصحاب هكذا قرارات! أي كراهية وحقد يحملونه للجنس البشري كله! وليس للأسرى وذويهم فقط.
أسيرٌ يمشي بصعوبة برفقةِ شقيقه الأسير، يبلغونهما باستشهاد والدهما وشقيق لهما.
عشرات الأسرى لم يستطيعوا المشي للوصول إلى المستشفى، جرّاء التّعذيب الطويل الذي شل سيقانهم.
أسيرٌ يلتقي بشقيقته، بعدما كانت أسرته قد أبلغت بأنّه استشهد منذ أشهر. أسيرٌ آخرُ أخبرته أذرع الاحتلال خلال اعتقاله بأنّ ابنته وابنه وزوجته ووالده استشهدوا، ولكنه فوجئ بوجودهم أحياءً يرزقون، فيكاد يجنُّ من فرحته وهو يقفز لمعانقتهم.
آخرون انتظروا أحباءهم في الحافلات، لكنهم لم يصلوا، فقد رُحِّلوا بعيداً إلى بلدان أخرى، والبعض انتظر آخرين لم يصلوا، لأنّ الشُّهداء لا يعودون في الحافلات.
