
جاء في مقدّمة العلامة ابن خلدون ما معناه «إنّ أحد أسباب إقامة الدّول واستمرارها هي العصبيّة، وهذه ممكن أن تكون على أساس التعصّب القبلي العشائري، وممكن أن تكون على أساس الدّين، وإذا اجتمعت العصبيّتان، العشيرة والدّين معاً، فبهذا قوّة كبيرة».
في بدايات الدّولة يتعصّب النّاس لها ويعتزّون برموزها، يقبّلون علمها ويلفّون أجسادهم فيه، ينشدون نشيدها الوطني بخشوع، ولا يتسامحون بأن تُشتم دولتهم، ويثورون ويغضبون إذا ما مسّ أحدُهم رمزاً من رموزها باللفظ أو باليد.
يذرفون دموع الفرح عندما يرون رياضياً أو فناناً من بلدهم، حقّق فوزاً وحاز ميدالية حتى لو كانت برونزية، أو وصل إلى مكانة متقدمة في مسابقة موسيقية، يستقبلونه رسميًا وشعبيًا، ويرفعونه على الأكتاف لأنّه «رفع راس واسم البلد».
ينتظرون في نشرة الأخبار أن يُذكر اسم بلدتهم وصورة لبطلهم، ويتلهّفون لتعليقات وتعقيبات الرّياضيين أو الموسيقيين المختصّين على إنجازه، فهم يشعرون أنَّه إنجازهم جميعهم.
لا يتمالك البعض دموعه عندما يرى متطوعين يكنسون الشّوارع، ويرسمون على الجدران، أو يوجّهون حركة السّير. في المناسبات الوطنية الكبيرة يفتح أكثر الناس بيوتهم لأناسٍ لا يعرفونهم معرفة شخصيّة، يكفي أن يكون هناك هدفٌ مشتركٌ يجمعهم، يمنحهم الشّعور بالأمن والقوّة ووحدة المصير والهدف.
الهدف يحمل التفاؤل بغدٍ أفضل مادّياً ومعنوياً، وبالأمن والأمان على أموالهم وأعراضهم.
تزدهر الفنون التي تمجّد العطاء والتّضحية، ويرى الناس بمن قدّم مالاً أو ضحّى بدمه مثالاً مقدّساً، ينحنون له احتراماً.
قيل في المثل الشّعبي «قومٌ بلا جُهّال ضاعت حقوقهم، وقوم بلا عقّال راحوا قطايع».
تحتاج العشيرة والشّعب أو الطائفة إلى «الجُهّال»، وهم أولئك المتعصّبون الذين يهبّون للدفاع عن القبيلة أو الطائفة أو المذهب أو الحزب والتنظيم السّياسي، يتنافسون فيما بينهم على العطاء والتّضحية لأجل المجموعة، وعادة ما يكون هؤلاء «الجُهّال» من الشّريحة الأفقر والمهمّشة، يردّون اعتبارهم ويحقّقون إشباعاً نفسياً في مثل هذه المناسبات، حيث تبرز أهمّيتهم في حالات التعرّض إلى خطر خارجي.
الجهّال هم الذين يشهرون السّلاح تلبية لنداء شيخ العشيرة أو القائد السّياسي الذي يُفترض أن يُحسِن استغلالهم لتحقيق مأربٍ ما، يَعرف متى يغمزهم للتهديد والوعيد أو للهجوم، ومتى يأمرهم بالتّوقف الفوري والاستكانة والهدوء والاختفاء عن الحَلَبة.
هؤلاء يشهرون السّلاح دون أن يسألوا لماذا وما السّبب! فلا تحليل للموقف ولا فلسفة.
هذه من العصبيّات المحمودة إذا كانت لدفع الخطر وتحقيق الحقوق، ولكنها مذمومة إذا ما كانت لهدف غير شريف.
العصبيّة يجب أن تكون للخير وليس للشّر، وإلا فهي مذمومة «وتعاونوا على البِرّ والتّقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إنَّ الله شديد العقاب». بقوّة هؤلاء وعصبيّتهم تشتدُّ شوكة القبيلة أو الطائفة أو الشّعب أو الدّولة والأمّة، ويعمل العدوّ لهم ألف حساب، فلا يجرؤ على التمادي بحق الجهة التي ينتمون إليها.
أما العُقّال، فهم الذين يسعون إلى قطف الثّمار بعد استعراض القوّة والقدرة على الرّدع، فيدعون إلى التفاهم والصّلح «وإن جنحوا للسِّلم فاجنح لها».
و»الحربُ أوّلُّ ما تكون فتيةً/ تسعى بزينتها لكلِّ جهول/ حتى إذا استعرتْ وشبَّ ضرامُها/عادت عجوزا غيرَ ذاتِ خليل/ شمطاءَ جزّتْ رأسَها وتنكّرت/ مكروهةً للشّمِ والتّقبيلِ».
يتواصل العقلاء بمبادرة من أهل الخير والإصلاح، وأصحاب المصلحة في وقف الصّراع.
يحتسي العقّالُ المتخاصمون فنجان قهوةٍ معاً، وبعد جلسات مغلقة، يخرجون وهم يتبادلون الابتسامات، وحتى الدّموع إذا كان الوقف يتطلب ذلك، ويضطّرون إلى التّعالي على الآلام كي يراهم «الجهّال» ويحذوا حذوهم لحقن الدّماء. قد يحدثُ أن يرفض أحد الجهّال الصّلح فيتمسّك بعصبيّته ويشهر سلاحه، وحينئذ يجري تحذيرُه وتهديدُه بالنّبذ والتبرّؤ منه، ويهبُّ رفاقه الذين حمل سلاحه إلى جانبهم ليردعوه ويوبّخوه ويوقفوه عند حدِّه، وإرغامه على طاعة العقلاء.
سألتُ أحد الشّيوخ وقد كان أيامها عضواً في ما يسمى «جاهة الصُّلح»، كيف تنجحون في تقريب المتخاصمين وإقناعهم بالصلح بعد إراقة دماء، فقال: نحن لا ننقل أيّ كلمة سوء نطق بها طرفٌ ضد الآخر، بل ننقل الكلمات الطّيبة التي قد يقولها بحقّ خصمه ونزيدُ عليها، مثل قوله إن فلاناً كريمٌ، أو إنّه من أخوالنا، وبكينا عندما أصيب بمصيبته، ولا ننسى موقفه الكريم في حادثة كذا.
نذكّرهم بالنّسب والقربى والتّاريخ المشترك وبمواقف الشّهامة والرّجولة، وفضل التسامح والمتسامحين، ونذكّر بالآيات الكريمة «فمن عفا وأصلح فأجره على الله» و»إن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم».
ونَذكُرُ الأحاديث الشّريفة وقصص تسامح الرّسول والصّحابة، وقصص العفو بين الناس.
نقنعهم أنّ العفو من شيم الأقوياء، والمكر والحقد من شِيم الضُّعفاء، وأنّ الشّر والانتقام لن يَجُرَّ سوى المزيد من المصائب.
يوظّفُ الدّين ورموزُه للخير أو للشر، فهو الأقرب إلى نفوس الناس في المجتمعات ذات الصِّبغة الدّينية الواضحة.
في هذا الوقت، يجد أعداء الأطراف المتنازعة فرصتهم لتوسيع شقّة الخلاف وإيقاظ الفتن من خلال الدسّ على الطّرفين واستفزازهما، وأسهل الطرق هي المسّ بالرّموز المقدّسة في المجتمعات المحافظة، مثل شتم الرّسول ونسائه، أو شتم رمز لملّة ما أو طائفة أو مذهب أو شخصية روحية يقدّرونها وتحظى بالإجماع عليها، فهذا يثير الغرائز، ولا يحتاج المُحرِّض سوى بعضِ الموتورين الذين يهبّون «لنصرة دينهم ورموزهم»، فيحرقوا اليابس والأخضر.
هذا الدّسُّ صار سهلاً بفضل التكنولوجيا المتقدمة والقدرة على فبركة الصور والأصوات، ووجود وحدات في الجيوش في مناطق الصراع مختصّة في التحريض وزرع الفتن والتّشكيك، بما يخدم جهات ويسبب الضّرر للجهات المستهدفة.
تنتهي الحاجة إلى العصبية الضيّقة في البلد الذي يحكمه قانون، يمكّن جميع النّاس من الحصول على حقوقهم حتى ولو كان أحدهم وحيدًا من أسرة فقيرة أو قليلة العدد، وبغضِّ النّظر عن طائفته أو مذهبه وقوميّته ولونه وجنسه، فهو لا يحتاج إلى العشيرة أو الطائفة، ولا إلى جُهّال لتحصيل حقوقه، فهو يقدّم شكوى في مركز الشُّرطة ويطمئن إلى أنّ حقه سوف يصله ولو تأخّر قليلاً.
في سوريا هنالك أيد كثيرة مستميتة لبثِّ الفوضى وإفشال الاستقرار المأمول، وإعادتها إلى سنوات الضياع والدّمار والقتل والتّهجير، والطّريقة الأسهل هي التحشيد المذهبي من خلال بثّ أشرطة الفتنة، مثل الشتائم للرموز الدينية، وبثّ جرائم تعذيب وقتل وتمثيل بالجثث قديمة على أنّها جديدة، واتهام جهة ما بتنفيذها، أو ترك إشارات أو هتافات تشير إليها، وتشجيع التّحريض على الانتقام وعدم الغفران، والتمترس وراء الشّعارات الطائفية، وتضخيم أي تجاوزات فرديّة وتحويلها إلى موقف فئة كبيرة وتعميمها، وإشعارُ كُلِّ مجموعة أنّها في خطر من شركائها في الوطن، وأن القضيّة باتت «نكون أو لا نكون».
لقد ارتفع صوت الجُهّال وبات صاخباً جدّاً ويشكّل خطراً حقيقياً على البلد والنّاس، وحان دور العقّال من السّوريين أنفسهم بكل فئاتهم، بأن لا يستسلموا، وأن يصرّوا على إنقاذ أنفسهم وبلدهم من أنياب ومخالب الوحوش المتربصة بهم.
