أحدث الأخبار
الجمعة 09 أيار/مايو 2025
الإبادة وجهة نظر!!
بقلم : سهيل كيوان ... 09.05.2025

اهتمت الحركة الصهيونية منذ بدء صراعها للسيطرة على فلسطين، بالانتقاص من إنسانية العربي عموما، والفلسطيني خصوصا وتصويره كمتوحش وهمجي، لتبرير وحشيتها تجاهه، فمن يستهتر بأرواح أبنائه، أو أي فرد من أبناء مجتمعه، لا يحق له أن يتذمر وأن يشكو عندما يُقتل أبناؤه أو أبناء شعبه. الهمجي لا يستحق أن يمتلك بلدا جميلا، وإذا طرد منه فلا بأس في ذلك، وعلى العالم أن يفهم أن الصهيونية رأس حربة للحضارة الغربية، وتدفع الثمن في مواجهة الوحشية والهمجية، لهذا على العالم المتحضر دعمها، وهو ما عبر عنه نتنياهو في أكثر من مناسبة، ومعه وزراؤه وإعلامه، ممن وصفوا حرب الإبادة بأنها «حرب الحضارة في مواجهة البربرية». العربي المسلم يقدس الموت، لا تهمه الحياة الدنيا، لأنه يطمع في الآخرة، يحب الموت، وقد يطلبه كي يحظى بالجنة والحوريات والطيبات، لهذا فهو لا يهتم بحياة الناس عموما، ولا حتى بحياة أولاده، بينما الغربي المتحضر حريصٌ على الحياة، خصوصا حياة الأطفال.
قتل الاحتلال منذ بداية الحرب على قطاع غزة أكثر من 16300 طفل، بمعدل طفل واحد كل أربعين دقيقة! إلا أن هذه الأرقام المخيفة لا تعني بالضرورة همجية الاحتلال ونذالته وتعطشه للدماء، بل هذا يعني من وجهة نظر الاحتلال وحلفائه، أن الفلسطينيين هم الوحوش وهم الهمج وحثالات البشرية، لأنهم لو كانوا بشرا، لفعلوا أي شيء لوقف هذه المذبحة بحق الأطفال، لو أن المقاومين من البشر لاستسلموا بأي شرط يضعه الاحتلال، بدلا من أن يرَوا كل هذه الأعداد من القتلى المدنيين.. «المقاتلون «المخربون» هم همج قساة، لأنهم يعيشون في الأنفاق أشهر وسنوات، ويسرقون الأغذية ولا ذنب للاحتلال بهذا».
*السيسي بصفته زعيم أكبر دولة عربية لا يرى في الحصار الغذائي والمائي والدوائي جريمة حرب، ولو أنه يراها كما هي في حقيقتها لتجنب القول إن السلام بينه وبين من يرتكب هذه الجرائم نموذج يحتذى
هذا هو منطق الاحتلال، أن يجيز لنفسه قتل المدنيين، ما لم يستسلم المسلحون، وأن يدفع العالم والأنظمة المتواطئة معه، إلى أن يرددوا الأسطوانة نفسها ويحملوا المسؤولية للمقاومين. الاحتلال يجيز لنفسه استخدام المدنيين، بمن فيهم الأطفال دروعا بشرية كوسيلة ضغط، ليس فقط لإحراج المقاومة وتثوير الناس عليها، بل لإنقاص أعداد الفلسطينيين، لتعديل التوازن الديمغرافي بالإبادة الفعلية، أو التهجير نتيجة الخوف من الإبادة. قال عبد الفتاح السيسي رئيس دولة مصر، خلال احتفال في ذكرى تحرير سيناء، إن السلام بين مصر وإسرائيل نموذج يحتذى. يحق لرئيس دولة مصر أن يقول إننا في مصر متمسكون بالسلام، فهذا شأنٌ مصري ولا حق لأحد أن يتدخل فيه. ممكن القول مثلا إن أسوأ سلام هو أفضل من الحرب، وهذا صحيح، أما أن تقول إنه نموذج يحتذى، وفي هذا التوقيت بالذات! فهل حقا هذا نموذج يحتذى من السلام! فما الذي يُفهم من هذا الكلام؟ يُفهم من هذه الكلمات، رضى السيسي عن ما يقوم به هذا الشريك، نموذج السلام الذي يحتذى. هذا تصريحٌ صريح بأن العلاقة بين مصر وإسرائيل لن تتأثر، مهما ارتكب الاحتلال من جرائم حرب، فإذا قتلتم ثلاثة وخمسين ألفا حتى الآن، ولم تتأثر العلاقات، فبإمكانكم أن تضاعفوها، فهذا لن يؤثر على السلام الذي يحتذى، فمصر تحترم الاتفاقات، ولا علاقة لإبادةٍ، أو لأعدادِ الذين تجري إبادتهم من الفلسطينيين بالموضوع. هذه إشارات لدول استدعت سفراء من إسرائيل احتجاجاً على جرائم الحرب، ودول قطعت علاقاتها التجارية معها، ودول ذهبت إلى محكمة العدل الدولية لمحاكمتها. هذا يقول إن أكثرية العرب وتمثلهم مصر يستطيعون التعايش مع حرب إبادة من هذا النوع، فما بالكم أنتم أيها الأجانب غاضبون وتقدمون شكاوى ضد النموذج الذي يحتذى في السلام! «نموذج يحتذى» يعني أن مصر تدعو الدول المترددة في التطبيع مع إسرائيل بالذات، بسبب جرائم الحرب، بأنْ لا تلتفت إلى هذه الأمور الثانوية، وأن تركز على الجوهر، وأن تطبع علاقاتها لأن النموذج يُحتذى. هذا توجه إلى الشعب المصري والشعوب العربية، يقول إن ما جرى حتى الآن هو أمرٌ عادي وممكن أن يحدث في الحروب، وأن مصر أكبرُ من أن تغير سياستها بسبب حرب إبادة. هذا التوجه يحمّل الطرفين مسؤولية ما يجري، لأنهما لم يتوصلا إلى سلام مثل السلام الذي يحتذى، كما فعلت مصر وإسرائيل. وفي الواقع، وحسبما قدمه إعلام السيسي حتى الآن هو يحمّل طرفا واحدا المسؤولية أكثر من الطرف الآخر الذي يُحتذى. هذه رسالة من الرئيس المصري إلى الشعب الإسرائيلي، بأن ما يفعله جيشكم في قطاع غزة، ما زال في إطار المعقول، باستثناء بعض الهنات والتجاوزات هنا وهناك، بدليل أن السلام يُحتذى ولن يتأثر بما يجري. هذه رسالة إلى دول داعمة لإسرائيل بأنْ تستمر في دعمها، من غير أن تلتفت كيف يستثمر هذا الدعم في إبادة شعب.
قبل أسبوع أقيمت مظاهرة أمام السفارة المصرية في بريتوريا عاصمة جنوب افريقيا منددة بحصار قطاع غزة، وما يُسفر عنه من ضحايا مجاعة! لماذا أمام السفارة المصرية دون غيرها؟ لأنه يوجد بين مصر وقطاع غزة معبر مغلق، وفي الجانب المصري توجد مئات الشاحنات المحملة بالمواد الغذائية التي تنتظر الدخول، والمظاهرة كما يبدو، تحث مصر على العمل أكثر لفتح المعبر، وإدخال المساعدات من خلال الضغط على الاحتلال. بعض أبواق إعلام السيسي اتهمت الإخوان بتنظيم هذه المظاهرة، وما دام أن الذي ينظمها هم الإخوان، فهذا يعني أنها معادية لمصر التي تعلن بأن السلام نموذج يحتذى، وممنوع المس به، وعمليا فإن توجه مصر مع ما ترتكبه إسرائيل من تجويع وتقتيل، هو وجهة نظر، مصر تبذل جهوداً لإقناع نتنياهو عن طريق الأمريكيين والفرنسيين، بأن وجهة نظره خاطئة ولا تخدم مصلحة إسرائيل، فهنالك دولٌ تريدُ أن تطبع، ولكنها تشعر بالحرج أمام ما يفعله النموذج الذي يحتذى. عندما يؤكد السيسي أن النموذج يحتذى في أوج جرائم الإبادة بالحرق والتجويع، فهو يوجه رسالة إلى العالم بأن ما تقوم به إسرائيل ضد المدنيين هو أمرٌ غير مقصود، بل هو نتيجة طبيعية للحرب، وليس استهدافا مع سبق إصرار للمدنيين، والمزعج في الأمر هو أن الأعداد كبيرة جدا وغير مقبولة من ناحية لياقة فقط.. وينبغي أن لا يكون، ولكن السلام بين مصر وإسرائيل نموذج يُحتذى.
بصفته زعيم أكبر دولة عربية فهو لا يرى في الحصار الغذائي والمائي والدوائي جريمة حرب، ولو أنه يراها كما هي في حقيقتها لتجنب القول إن السلام بينه وبين من يرتكب هذه الجرائم نموذج يحتذى. المصالح المشتركة مفهومة، والطمع في رضا الأمريكيين والأوروبيين مفهوم، والفلسفة الإنسانية من الترويج للسلام مفهومة، فالحروب لا تُخلِف سوى الدمار والويلات لكل من يتورطون فيها، وحاجة مصر إلى المساعدات الأجنبية والقروض الدولية مفهومة، وظهور السيسي بمظهر الصوفي البريء الذي يؤمن بالحب الإلهي، ولا يؤذي نملة مفهوم، ولكن أن يعتبر هذا السلام نموذجاً يحتذى في أوج مذبحة الطفولة في هذا العصر، فهذه مذبحة للقِيم والأخلاق والمبادئ ولحقوق الإنسان وللذوق العام ولمعنى السلام وأهدافه.

1