أحدث الأخبار
الثلاثاء 12 آب/أغسطس 2025
شُهداء الصحافة.. كلٌ على نَجمَته "رسالة"!!
بقلم :  وفاء عبد الرحمن  ... 12.08.2025

أمام هول المشهد تتبدد الكلمات. هذا هو أنس الشريف؟ نعم: هو "الحقيقة" التي وقفت وحيدةً أمام عتمة الظلم.. تنزف. شهيدٌ بلا يده التي لطالما مدّت "الميكروفون" لتُسمع العالم صرخات الأطفال في غزة.
هذا مُحمد قريقع.. بالقرب منه يغمض عينيه في نومةٍ أبدية. وهذا المصور إبراهيم ظاهر، وصاحبه محمد نوفل، وهذا "الخالدي".. مُحمد المثابر! صاروا كلهم اليوم "خبَرًا".
بعد أكثر من 670 يومًا أمام الشاشة، ومطر الموت يُثقل صدر المدينة، رحلوا.. تركونا في الطريق وحدنا.. تركونا نكتب بأنفاسهم وهم الذين حملوا على أكتافهم عبء الكلمة، وحولوا شظايا الواقع المُر إلى "رسالة". حين استُهدفت أقلام الصحافيين/ات وأصبحت الكاميرات هدفًا، لم تعد الدماء مجرد خسارة فردية، بل فجيعةً لكل من يؤمن بأن الكلمة هي "نور" في ظلام الحروب.
في زمنٍ يُقتل فيه من ينقل صوت الضحية، وتُصنع "التهمة" لكل من رفع القلم، تُطرح أسئلةٌ ربما لن نجد لها إجابة: ماذا ستفعل بيانات الشجب والإدانة لاستهداف الصحافيين والصحافيات في قطاع غزة؟
هل تعيد محمد قريقع؟ أم أنس الشريف؟ أم هبة العبادلة؟ هل تستطيع أن تمسح دمعة زينة، ابنة إسماعيل الغول؟ أن تواسي قلب عبد الله ابن آلاء الهمص؟ أن تكمل أغنية فاطمة حسونة؟ أن تطفئ النار التي أضرمتها "إسرائيل" في جسد محمد منصور حيًا، فأحرقت قلوبنا جميعًا؟
هل تداوي بيانات الشجب وجع مئات العائلات التي فقدت أبناءها وبناتها شهداء الكلمة.. "الكلمة" التي صارت "تُهمة" في زمنٍ "حق التعبير" لا يشمل الفلسطينيين، في نظر نتنياهو؟
صحافيو وصحافيات غزة، صاروا جزءًا من صباحاتنا، أفرادًا في عائلاتنا. لا يهم اتجاهك السياسي، ولا اختلافك مع الخط التحريري للقناة، هم صوتنا وصورتنا وخلافنا معهم "لم يفسد يومًا للود قضية".
الأرقام الرّسمية المُعلنة تقول إننا -كفلسطينيين- فقدنا أكثر من 230 صحافيًا وصحافية. وفي "فلسطينيات" أحصينا زيادةً على 260! فهل تهمُّ الأرقام؟ كل اسمٍ هنا حكاية، لكل منهم عائلةٌ نقصت -ذات قصفٍ- ضحكة وحلم وذكرى، ولكلٍ منهم صارت صورة، تتعلق بها العيون، فوق مائدةٍ فارغة تتوشّح السواد. لم - لن يكونوا أبدًا أرقامًا في عالمٍ رقميٍ موازٍ، يُقلّب رواده الصور ويذرفون دمعة، ثم يعودون ليواصلون الحياة.
قلنا (لا)، لما همس الصحافي الشهيد حسن اصليّح بمرارة في أذن صديقه مرة: "الناس سينسوننا بعد الدفن بساعتين". نحن عند قولنا يا حسن. صورتك حتى اللحظة هي "أيقونة" مجموعة تغطية "خانيونس"، ولا يمر أسبوعٌ لا يُذكر فيه اسمك.. المخلصون لا ينسون المخلصين، وإن انشغلوا بالكوارث المتهاوية فوق رؤوسهم.
أما أنت يا أنس الشريف. فقد تركت صوتًا لا يموت ولا يسقط بالتقادم! عندما صنَعْتَ "الصُّدفة" بشجاعة في أول تقريرٍ قدَّمته، ومنه انطلقت لتصبح رفيق الملايين.
أذكرُ يومَ عزل الاحتلال الإسرائيلي شمالي القطاع، وأغرق جباليا ومحيطها في نيران القصف، وقطع الإنترنت، كنا في "فلسطينيات" نحاول التواصل مع من نعرف: "طمنونا عنكم، ماذا تحتاجون؟". كل ما طلبوه فرشًا وخيمة! كان بينهم أنس الشريف، ساعَدَنا في شراء اللوازم للصحافيين، وكلهم اتفقوا على صوتٍ واحد: "هو صحافي، شاب، خدوم، وأمين... ثقي به".
في الحادي والثلاثين من تشرين أول/ أكتوبر 2023م، توجه أنس بصحبة زميلٍ له لاستلام الفراش والأغطية من أحد المحلات في سوق جباليا. في تلك اللحظة تمامًا نجا من موتٍ قريب، حيث انهمرت القنابل على السوق بمن فيه.. ارتكب الاحتلال مجزرةً راح ضحيّتها ما يقارب 400 شهيد.
يومها أٌقسم "كنتُ شهيدًا لولا تدابير الله وفارق أقل من دقيقة". هذا أنس الذي نجا من الموت قبل أن يبدأ الحياة التي عرفناه بها، صديق أصدقائه، و"صاحب صاحبه" بالغزاوي.
قصص كثيرة علينا أن نرويها عن الصحافيين والصحافيات بغزة، كي لا ينساهم العالم "بعد ساعتين من الدفن". نرويها لنُذكّر هذا العالم أن بياناته لا تكفي، ومسيراته لا تكفي، وشجبه لا يكفي.
نحن بحاجة لفعل صحفي -في ظل تواطؤ الحكومات- يستطيع اختراع أدوات جديدة لتدفيع الاحتلال ثمن جرائمه.
ماذا لو قاطع الصحافيون في أرجاء العالم أخبار الاحتلال؟ ماذا لو رفضوا بث مؤتمراته وتصريحاته؟ ماذا لو أعدّوا قائمةً سوداء بأسماء صحفيي الاحتلال الذين حرّضوا على الصحافيين الفلسطينيين في غزة؟
نلوم الحكومات، ونتحجج بعجزنا عن فعل شيء لحماية الصحافيين/ات. إذن، لنأخذ الأمر على عاتقنا، ليس فقط لأجل العدالة للشهداء منهم، بل لأجل الصحافيين والصحافيات الأحياء.. المستمرين والمستمرات في التغطية.
لنستعِد "الفعل" في زمن الإبادة.
"رأيت الشهداء واقفين، كلٌ على نجمته، سعداء بما قدّموا للموتى الأحياء من أمل"- محمود درويش.
*رئيسة تحرير شبكه نوى !!

1