أحدث الأخبار
الأحد 24 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
مي زيادة : الحداثة المستعصية ... والقرن الضائع!!

بقلم : د.خالد الحروب ... 06.05.2009

في الصيف الماضي توقف بي الصديق شكيب قبطي في شارع ضيق عريق في قلب مدينة الناصرة وأشار إلى باب أحد البيوت قائلاً: هل تعرف بيت من هذا, إنه بيت عائلة مي زيادة. وقد عاشت فيه عدة سنوات. وبعدما أستأذنا العائلة الفلسطينية التي تسكنه حالياً, واستقبلتنا بسماحة بالغة, وأذنت بأخذ بعض الصور, كان طيف الصحفية والكاتبة التقدمية هو الذي يقودنا من غرفة لأخرى. وكان السؤال الطبيعي: لماذا لا يكون هذا البيت العريق متحفاً يؤرخ لمسيرة مي زيادة؟ كان والد مي قد جاء إلى الناصرة من جبل لبنان سنة 1879 ومكث فيها حتى 1907 عندما هاجر إلى القاهرة. بيد أن إهمال الأثر المادي للبيت الذي ولدت وترعرعت فيه مي لا يُقارن بإهمال الأثر الفكري والمعنوي لها. أو ربما كان الأول مجرد مؤشر باتجاه تراكم المرارة الحقيقية في واقع اليوم وهي أن كثيرا مما ناضلت لأجله مي زيادة وجيل كامل من المفكرين والمثقفين التنويريين منذ أواخر القرن التاسع عشر وحتى الآن لم يتحقق.
تهبط هذه الأفكار المُحبطة على قارئ الكتاب الممتع "مي زيادة ... صحافية" لمؤلفه أحمد أصفهاني, والصادر حديثاً عن دار الساقي. أصفهاني بذل جهداً رائعا على مدار عدة سنوات وهو يجمع مقالات صحفية كتبتها مي زيادة في جريدة "السياسة الأسبوعية" القاهرية بين عامي 1926 و1927, وظلت مهملة في الأرشيفات ولم تخرج إلى النور. جانب من أهمية تلك المقالات يأتي من طبيعة القضايا الاجتماعية والثقافية التي تناولتها زيادة, خلال إشرافها على "القسم النسائي الاجتماعي" في الجريدة. والإحباط الذي يُصيب المرء عند قرائته للمقالات التي يضعها أصفهاني بين أيدينا سببه استدامة تلك القضايا واستعصاؤها و"صمودها" حتى وقتنا الراهن. لو نُشرت بعض تلك المقالات اليوم من دون تعديل ومن دون الإشارة إلى أنها كتبت قبل ما يُقارب القرن من السنين, فإن قارءها لن يلاحظ قدمها أو اختلاف زمنها. كأننا ما زلنا نعيش زمن مي زيادة, بل ربما نعيش زمناً أكثر تخلفاً منه!
في واحدة من تلك المقالات تندد مي زيادة بجرائم "قتل الشرف", وتعلق في المقال على خبرين في أحدهما شاب يقتل أخته, وفي الثاني امرأة يقتلها اثنان من أقاربها, لأنها طالبت بنصيبها من الميراث. تقول زيادة عن الخبر الأول: "... هذا الخبر أصبح مع أمثاله من المألوف غير النادر حتى قل من اهتم له اهتماماً خاصاً. وقد يكون عند عدد كبير من القراء في مقدمة الأخبار التي لا تستحق أن يُقرأ منها غير العنوان ... إن هيئة القضاء في الغالب تنظر إلى هذا النوع من الجرائم بغير العين التي ترى بها جرائم القتل الأخرى. والعقوبة التي توقعها عادة بهؤلاء الجناة عقوبة غير شديدة, لا تردع ذاكرها عن سفك الدماء والإجهاز على حياة بشرية إنما وُجدت وتنفست وعاشت أمام وجه الشمس بسماح الباري جلا وعلا ... ولا يسعني إلا أن أتساءل كيف يمضي دم إنساني هدراً, وكيف تجوز سكين إنسان على إنسان لمجرد أن ذلك أمر داخل في العادات والاصطلاحات, ثم تأتي هيئة القضاء التي لها القول الفصل في إجراء العدالة, وكأنها بتواطئها على تخفيف الحكم توافق ضمنا على وقوع الجريمة وكأنها تشجع على استمرار تلك العادة عند أهلها ما دامت لا تسعى جهدها للقضاء عليها ... ما معنى أن يكون في البلد جرائد توقف بعض صحائفها وطائفة من موضوعاتها على خدمة المرأة وإنارة المرأة, ولا تُرسل في مثل هذه الحالة كلمة استياء وشفاعة ودفاع؟ ما معنى أن نكون اليوم هاتفات بتعليم المرأة, وتحرير المرأة, وإنالة المرأة حقوقها الاجتماعية والأدبية – ولا نذكر إلا هذه – فتخبرنا الصحف بأن النساء تذبح ولا نقول للقاتل لقد جئت شيئاً فريا؟"
لكن مي زيادة لم تكن متشائمة من وضع المرأة العربية والمصرية في عصرها. بل ربما كان تفاؤلها زائدا فقد كانت تقارن بين جيلها والجيل الذي سبقه, كما ترد على المتشائمين في مقالة "المرأة المصرية", وترى أن تقدم المرأة يحصل باضطراد. فتقول باندفاع تفاؤلي: "... الفرق بين العهدين كبير, فقد كان الرجل يومئذ في خمول عيش, والمرأة في جهل مظلم, بينما نجد نحن الآن أن عصرنا قائم على نهضات علمية وسياسية ونسوية, فالرجل في نهضة والمرأة في نهضة ... أما العادات والتقاليد فهذه شجرة قديمة ذبلت أوراقها وذوت غصونها ولم يبق إلا أن تهب عليها عاصفة من المدنية الغربية فتقتلعها اقتلاعا وتريحنا من ثمراتها المرة ...". تُرى ماذا كانت ستقول زيادة لو علمت أنه بعد مرور قرن تقريبا على كلماتها لا تزال نسب الأمية عند المرأة في بلدان عربية كبرى تتخطى 60%, وأن العادات والتقاليد التي رأتها زائلة إن هي إلا تترسخ وعلى ثمرها المر تتساقط كل عواصف المدنية والتحديث.
وفي مقالة بعنوان "ترقية الشعب" مذيلة بتوقيع مستعار "وفيقة زكريا" نشرت في "السياسة الأسبوعية في أكتوبر 1926, ويرجح أصفهاني أن كاتبتها هي مي زيادة نقرأ هم المرأة مرة أخرى يسيطر على تفكير وقلق الكاتبة. تتحدث أولا عن تقدم الأمم وإصلاح الشعب لجعله"في مستوى أرقى الشعوب حضارة. لكنها ترى أن مرتكز ذلك التقدم هو المرأة"... ولكن كل إصلاح وارتقاء لا يقوم على أساس متين تتزعزع أركانه وينهار بنيانه. وما أساس كل إصلاح إلا المرأة. فمهما وضع مفكرونا من خطط حكيمة وبرامج صحيحة ليجعلوا من النشء المصري شعبا أرقى علماً وأخلاقاً فإن برامجهم وخططهم لن تثمر الثمرة المطلوبة ما لم يُبدأ بترقية الفتاة وتعليمها تعليماً صحيحاً, فهي مديرة المدرسة الأولى وصاحبة البيئة التي سيتكون فيها ذلك النشء والتي لها أعظم الأثر في تقويم أخلاقه ومستقبل حياته". ثم تتناول عدة مظاهر ومواقف ولا تتردد في تسطير آراء لا مواربة فيها منتهية بموقفها من الحجاب, فتقول مخاطبة المصريات: "... الحجاب ما أسخفه! وما أتعسنا به! هذا الحجاب الوهمي انبذنه بعيدا فهو لا يحجب وجوها كلا ولا ملامح. إنما يحجب عقولاً راجحة ونشاطاً فتياً ونفوساً وثابة إلى العلا, وإن أبيتن إلا إسداله فأسدلنه, وأسدلنه كثيفاً على عهد مضى كانت فيه نساؤنا رمزاً لكل نقيصة من جبن وحياء وضعف في الإرادة والعزيمة, انبذنه بعيداً فهو رمز للحطة والخمول, انبذنه بعيدا فهو أساس تأخركن وتأخر الشعب معكن, انبذنه فهو خليق بالجاهلات المتأخرات لا بالمتعلمات الناهضات. اعلمن أن من الأسباب التي تنلن احترام الرجل اعتمادكن على أنفسكن وعدم احتياجكن إليه في شيء. فاعتمدن على أنفسكن ومقدرتكن في جميع شؤونكن الآن, وتعلمن مهنة تملن إليها كيما تساعدكن وتمكنكن من الاعتماد على أنفسكن في مستقبل حياتكن فيما إن فقدتن من يعولكن. وأخيراً لا تتركن كلمة "مستحيل" تصل إلى قلوبكن فتخمد فيها شعلة آمالكن. وإلى الأمام, إلى العمل وعلم مصر أمامكن ارفعنه عالياً".
معظم ما كتبت مي زيادة بحماس من أجله لم يتحقق, ومعظم ما كتبت ضده ما زال موجوداً. لكن في كلا الحالتين ما فقدناه هو روح التفاؤل بالتغير, وروح الحماس المتقدة التي كانت تشتعل بين سطورها. منذ إرهاصات النهضة العربية الأولى وحتى الآن ضاع أزيد من قرن كامل. وفي كثير من المجالات ما زلنا نراوح في مكاننا, وفي مجالات أخرى نسير بثبات إلى الوراء. يقتبس أصفهاني عن أنطوان سعادة, مؤسس الحزب السوري الاجتماعي القومي, إعجابه بمي وهو يقول: "لم تنجب سورية في القرون الأخيرة من النساء أديبة كبيرة كمي زيادة, وأقول بكل تأكيد: إني لم أجد فيمن قرأت ولا فيمن حادثت من أدباء سورية ومصر سوى نفر قليل جدا من الأدباء الرجال الذين يضاهونها ثقافة وشعورا وفنا". وهكذا لنا أن نقول عندما نخرج من ظلمات الحاضر إلى مستقبل أكثر إشراقاً, وتبتسم أطياف رواد تلك النهضة المذبوحة, فلربما عاد "تقدير واكتشاف" البيوتات التي سكنتها زيادة في الناصرة, وفي بيروت, وفي القاهرة, وتصير متاحف محتفى بها تنبعث فيها تلك الروح الوثابة القديمة, وربما يقود أحفاد شكيب قبطي أحفادي إلى بيت عريق في قلب الناصرة سكنته ذات قرن مي زيادة.