بقلم : د. خالد الحروب ... 23.09.2009
لئن يُكرّم حبر من أحبار العلم والتأريخ العربي المعاصر مثل الدكتور عبد العزيز الدوري وهو على قيد الحياة فذلك أمر جالب للسرور. ولئن يُترجم التكريم على شكل ندوة وكتاب وتأمل فيما أنتجه هذا المؤرخ الكبير, فذلك أيضاً مبعث رضا. كتاب "عبد العزيز الدوري مُكرّماً: أوراق وشهادات" الصادر حديثا عن مركز الدراسات العربية في بيروت يجيء في الوقت الملائم ويستحق الإشادة – إذ يقدم شهادة قيمة بتوقيع قائمة من كتاب ومؤرخين وأكاديميين عرب عاصروا الدوري, أو صادقوه, أو تعلموا منه أو على صفحات كتبه. كنا في الجامعة الأردنية في الثمانينات نحسد زملاءنا طلبة التاريخ أو الدراسات الإنسانية الذي يدرسون عنده. في الجهة الجنوبية من الجامعة كنا نحن طلبة الدراسات التطبيقية, الطب والهندسة والعلوم, الأكثر تفاخراً بالتفوق, لكننا كنا الأفقر فكراً والأبعد عن التأثر ببعض القامات العلمية والأدبية والتاريخية التي مرت بالجامعة آنذاك. فإلى جانب الدوري كان هناك ناصر الدين الأسد وإحسان عباس ونهاد الموسى وفهمي جدعان, وآخرون, وكان أيضا خالد الكركي من الجيل الثاني يدندن دوماً على مسامعنا "الثقافة نجمتنا الأخيرة". لمواجهة التصحر "الطبي" أو "الهندسي" الذي كنا نعيشه كان بعضنا يهاجر إلى الكليات الشمالية ويلتحق بمساقات اختيارية في العلوم الإنسانية. هناك تلمسنا عتبات علوم الاجتماع, والنفس, والتاريخ.
في كلية الآداب كان ثمة زملاء يُشرف عبدالعزيز الدوري على رسائلهم لدرجة الماجستير في التاريخ. تعرفنا عليه عبرهم. عندما كانوا يتحدثون عنه كنا نستحضر صورته الجليلة وهو يمشي باعتدال واعتداد وهيبة في شوارع الجامعة, فنزداد إجلالا له وتقديرا. في تلك السنوات صدر كتابه الأهم وربما الأشهر بين كتبه "التكوين التاريخي للأمة العربية: دراسة في الوعي والهوية" (1986), والذي حاول بعضنا التهامه, وتردد الآخر إزاءه بسبب "علمانية" الدوري ومنهجه! كنّا في ذلك الوقت ضحايا السخافة الفكرية الأصولية التي أكلت أخضر عقولنا, وما كانت تنظر للفكر والوعي والفن والإنجاز إلا من خلال ثقب إبرة التعصب. ما زلت أذكر أحد الزملاء وهو يتحدث بمهابة عن الدوري ويقول: "بعض الكتاب يكتب بعمق, لكن الدوري يغوص بكليته في أعماق العمق ثم يصعد ليكتب".
"عبد العزيز الدوري مُكرماً" بطاقة تقدير تتضمن بين دفتيها قسمين, الأول خلاصات حلقة نقاش دراسية حول أعمال الدوري نظمها مركز دراسات الوحدة العربية, والثاني شهادات وقراءات في فكره. في حلقة النقاش يساهم عبد الإله بلقزيز وعلي أومليل ووجيه كوثراني وإيناس مهنا ورضوان سليم في إنارة محاور أساسية في مسيرة الدوري العلمية. فهنا نقرأ عن "الحقول والأزمنة في أعمال عبدالعزيز الدوري", و"عبد العزيز الدوري بين علم التاريخ وفلسفته", و"ما هو "تاريخ التأريخ" عند عبدالعزيز الدوري". في مناقشة هذه المحاور نقرأ أفكاراً لأسماء رصينة إضافية من ضمنها محمد عدنان البخيت, وبشار عواد معروف, وعلي محافظة, وخيرية قاسمية, وناصيف نصار, ورياض قاسم, وزينات بيطار. أما في الشهادات يذهب المعدّون شوطاً إضافياً في التكريم المُستحق للدوري, باستكتاب قائمة إضافية من الأسماء العربية المهمة منها ناصر الدين الأسد, رضوان السيد, خير الدين حسيب, ماجد السامرائي, محمد الميلي, حليم بركات, حسن حنفي, محمود علي الداود, عبد الكريم خليفة, فيصل دراج, أحمد بيضون, طيب تزيني, وفهمي جدعان.
يذكر ناصر الدين الأسد كيف التقاه أول مرة في بغداد عام 1963-1964 د حين كُلّف الأول برئاسة الجامعة الأردنية وكان الثاني وقتذاك رئيسا لجامعة بغداد. أراد الأسد أن يستوظف محاضرين في الجامعة الناشئة وطلب من الدوري أن يسمح له بالتعاقد مع أستاذين من جامعة بغداد يعلم عدم إمكانية الجامعة الاستغناء عنهما. تكون إجابة الدوري يومها "نقسم الرغيف بيننا", ليسمح بعد أسبوع بإعارة الأستاذين إلى الجامعة الأردنية. كما يتذكر عبد الكريم خليفة رئيس مجمع اللغة العربية الأردني أول ما التقى الدوري معلماً للتاريخ وسيم الطلعة في دار المعلمين في بغداد سنة 1944. ويراه فهمي جدعان مثالاً يتجسد فيه بندرة ما يسميه "الاعتراف التواصلي" وهو ما يغيب عن كثير من المبدعين وقامات العلم. ويقصد جدعان بذلك نبل الخصائص الشخصية والألفة وطيب المعشر بما يترك مجالاً للتواصل مع الآخرين والاعتراف بهم وبإنجازاتهم بغض النظر عن المواقف الفكرية والمنطلقات الأيديولوجية وحتى الأكاديمية التي قد تختلف وتتنافر.
وانطلاقا من هذا المفهوم الإنساني والعميق "الاعتراف التواصلي" الذي يشيد به فهمي جدعان ويتأسى على غيابه يمكن رصد ثلاث ملاحظتين نقديتين على "عبد العزيز الدوري مكرماً: أوراق وشهادات", وهي ملاحظات لا تقلل من قيمة الشهادة والتكريم, لكنها ترد في سياق النقد المطلوب دوماً. أولى هذه الملاحظات هي أن الكتاب والشهادات جميعها خلت من أي نقد لأي من أعمال الدوري. لا يمكن أن تكون قائمة الكتب الطويلة والمبهرة والأفكار والسجالات والنظريات والنقاشات التي عالجها الدوري لا خلاف عليها ولا تستثير أي نقد. والنقد هنا يعلي من قيمة المفكر ولا يقلل من شأنه. كبار مفكري ومؤرخي العالم والقومية, هوبز, ديكارت, هيغل, ماركس, فيخته, نيتشه, رسل وألوف آخرين نوقشت أفكارهم فأعلي مقدارهم, ونقدت وعورضت فما زادهم ذلك إلا رفعة في المكانة. لكي يكون التكريم منزهاً عن التبجيل وبعيداً عن التقديس عليه أن يكون دوماً مترافقا مع النقد, بخلاف التقاليد السقيمة التي تترسخ بفضائل زعمائنا وقادتنا الكبار في المنطقة "الآمرون بالتبجيل الناهون عن النقد". رؤية الدوري للتاريخ العربي وتعمقه في طرائق انحلال الدول العربية وانحطاطها وعلاقة ذلك بالعوامل الخارجية, وخاصة الاستعمار في القرنين الماضيين, تطرح سؤالا كبيرا على مؤرخ كبير بوزن الدوري إزاء آليات التخلص من الضعف في ضوء تجارب التاريخ, وندرة مناقشته لها. سيُقال هنا ليست هذه مهمة المؤرخ, ليس مطلوباً منه تقديم وصفات علاج للانحطاطات المعاصرة. بيد أن الدوري لم يكن مؤرخا محايداً, بارد المقاربة, غير آبه بالموضوع الذي يبحثه, كان منغمساً فيه وكان صاحب "مشروع". كما أن الوجه الثاني لنفس السؤال متعلق بمدى دقة تشخيص الدوري أو دقة "الوزن" الذي يعطيه للعامل الخارجي في التسبب بالانهيارات الكبيرة التي لحقت بالأمة العربية. ثمة حاجة هنا إلى مبضع مؤرخ دقيق يفصل بين العناصر كما يفعل الخيميائي في مخبره, لندرك التأثير الحقيقي (وليس التبرير الأيديولوجي) لكل عنصر من عناصر معادلة الانحطاط.
الملاحظة الثانية هي انعدام الشهادات والقراءات من قبل باحثين شباب تعلموا مباشرة من عبد العزيز الدوري. كان بالإمكان استكتاب عدة باحثين ممن أشرف عليهم الدوري في رسالات الماجستير أو الدكتوراه ليقدموا من طرفهم تجربة مختلفة تلقي أضواء إضافية على موقع الدوري في أوساط طلبته. أحد طلبة الماجستير كان قد ذكر لي أن التحضير لمحاضرة الدوري كان يأخذ منه ومن زملائه أضعاف التحضير لأية محاضرة أخرى. ليس لأن خشية من صرامة المؤرخ الكبير وجدية أدائه, بل الخشية من تواضع المعرفة التي قد تورط صاحبها بمداخلة هشة أو رثة أمام الدوري. وأضاف الزميل أنه كان في تلك الأيام يشكو من الإمساك الدائم في أمعائه, إلا أن التحضير لمحاضرة الدوري وتصبب العرق كان العلاج حيث لا يختفي فيه ذلك الإمساك وحسب , بل يحل عكسه تماماً!