أحدث الأخبار
الأحد 24 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
. صــهـر الــوعـي أو في إعادة تعريف التعذيب!!..[الجزء الرابع]

بقلم : وليد دقه* ... 10.12.2009

**السيطرة الحديثة
تجليات قيمية خطيرة في حياة الأسرى الفلسطينيين:
إن جوهر الحداثة هو قدرة الإنسان على فصل الزمان عن المكان، كما أن تاريخ الحداثة بدأ مع تطوير الإنسان تكنولوجيا مكنته من السيطرة بشكل مطرد كلما تمكن من إحداث هذا الفصل. وعندما أصبحت سرعة الإنتقال في المحيط من محيط مكاني إلى آخر بسرعة الألكترون بات للسيطرة معنى وشكل آخر عما نعرفه. فللسيطرة على الناس كان في الماضي لا بد من السيطرة على مكانهم، فيما الحداثة التي فصلت الزمان عن المكان جعلت السيطرة ممكنة بالسيطرة فقط على زمانهم[31]. إن لهذا الشكل من السيطرة تداعيات كثيرة على حياة الأسرى وتقديرهم وفهمهم لأنفسهم. كما له تأثيرات على سلوك السجان وإدراكه لذاته ودوره في إطار عمله ضمن جهاز بيروقراطي كإدارة السجون.
لم تعد السيطرة في سجون الإحتلال الإسرائيلي سيطرة مباشرة عبر السجانين الذين كانوا يتواجدون ماديًا ومباشرة في باحة السجن، ويقومون بفتح الأبواب وإغلاقها. ولم يعد كما في الماضي هناك احتكاك يومي ومكثف بين السجين والسجان، إلا استثناء للتأكيد على قاعدة غيابه منظورًا وحضور ظله عبر آليات وتقنيات حديثة. لقد استبدل البرج المركزي أو ظله في نظام مشتمل بنتهام بالكاميرات المتواجدة في كل زاوية من زوايا السجن، واستبدلت أقفال الأبواب التي كانت تستدعي حضور السجان وتواجده المباشر لفتحها يدويًا بنظام فتح وإغلاق ألكتروني، حيث يكفي اليوم وجود شرطي واحد في غرفة المراقبة، للسيطرة على قسم مؤلف من مئة وعشرين أسيرًا (120). قد أظهر هذا النظام الأسرى وكأنهم يديرون حياتهم وشؤونهم الداخلية بأنفسهم وباستقلالية، أو هكذا يمكن أن يعتقد المراقب من الخارج. بل إن هذا الوهم ينطلي على الأسرى أنفسهم. حيث يغلقون أبواب الزنازين بأيديهم، بعد أن يعطي السجان في غرفة المراقبة والسيطرة الإجازة الألكترونية لفتحه.
إن هذا الحال لم ينقل السيطرة من السجان إلى الأسرى، ولم يخففها، وإن كان قد جعلها تبدو أكثر قبولاً. بل العكس تمامًا، حيث حول السيطرة من سيطرة مرئية مصدرها واضح وقابل "للخداع" أو "للتفاوض" و"الأنسنة" إلى سيطرة آلية شديدة الضبط كلية المراقبة، والعنصر البشري فيها، اي السجان، خارج مجال التأثر باستراتيجيات الإقناع فهو أيضًا واقع تحت وطأة كاميرا المراقبة التي ألغت تلقائيته ومهاراته الإجتماعية وحولتها إلى آلية وأوتوماتيكية. وسهلت عملية الأنسنة تجاه الأسير. فهذه المسافة التي صنعتها تكنولوجيا المراقبة بين السجين والسجان حوّلت الأخير إلى أكثر قسوة فهو لم يعد يتعامل مع ذات وإنما موضوع يراه على الشاشة. الأمر الذي حوّل أيضًا مهارات الأسرى كأفراد وجعل ذكاءهم الإجتماعي إلى أمر لا ضرورة له وليس ذو قيمة عملية. فالعلاقة بين الأسير والسجان أصبحت تدار في سياق آخر جديد، لا يتيح له استخدام أو التأثير عبر أي وسيلة من الوسائل القديمة.
لقد أتاحت تكنولوجيا المراقبة والسيطرة الألكترونية في السجون الإسرائيلية إلى تفرغ أعداد هائلة من القوى البشرية التي تم توجيهها لسجون جديدة افتتحت لاستيعاب الآلاف من الأسرى الجدد. وقد أتاحت سهولة استخدام وسائل السيطرة الحديثة تجنيد سجانين ذوي إعاقات جسدية ومكونات بنية ضعيفة لم تؤهلهم في الماضي للتجنيد. واستيعاب سجانات من الجنيس "اللطيف" تمشيًا مع الخطاب الليبرالي الإسرائيلي في مساواة الجنسين، فأصبحت المرأة تشارك الرجل الإسرائيلي في قمع الفلسطيني أو في إعادة "صياغته" و "ترويضه".
إن جملة التناقضات التي يخلقها هذا الواقع في السجون، إلى جانب القدرة على السيطرة الكاملة والشاملة والكلية على أكبر عدد ممكن من الأسرى وفي أقصر مدة زمنية وبنفس الآن، جعل إمكانية تطبيق خطة صهر الوعي لهؤلاء المناضلين الفلسطينيين إمكانية عملية. فالتناقض بين غياب السجان تجسيدًا ووجوده فعليًا كمسيطر على حياة الأسير، خلق لديه حالة من التنافر الذهني بين ما يدركه في الحقيقة ويحسّ به من قمع وسيطرة على حياته، وبين واقعه الذي يظهره في استقلالية نسبية في إدارة حياته.
إن السجن الحديث بصورة عامة ليس سيطرة وحجزًا للجسد فقط، وإنما سيطرة على زمن الأسير. فلم يعد زمن الأسير ملكه ولا يمكنه تنظيم ساعات النهار وفقًا لبرنامج يحدده لذاته، إنه لا يمضي وقته داخل الزنزانة حرًا بزمنه، بعيدًا عن تدخل وسيطرة السجان، بل إن زمنه خاضع للسجان الذي يقسم وحداته هكذا بحيث لا يمكنه التصرف به أو برمجته وفقًا لرغباته وحاجاته. فبالإضافة لخروجه للباحة الشمسية بساعات محددة يقررها السجان، فإن الأسير في السجون الإسرائيلية مجبر يوميًا على مغادرة زنزانته ثلاث مرات حتى يتم فحصها أمنيًا، وعليه أن لا يستخدم الحمام سبعة مرات مختلفة في اليوم، لمدة ساعة كل مرة، ثلاث مرات في أوقات إجراء الفحص الأمني المذكور، وأربعة أخرى أثناء إحصاء الأسرى للتأكد من عددهم – هكذا بحيث لا يمكنه أن يبدأ يومه أو يخططه.
إن التناقض بين كون الأسير فاقد للحرية ويُغلق عليه باب الزنزانة، وبين كونه يفتح بيديه الباب ويغلقه على نفسه وفقًا لهذا الواقع الجديد في السجون، يدفعه لحاله من التوتر والتنافر الذهني جراء الرغبة في الحفاظ على "مكتسب" فتح الباب والإحساس بالسيطرة من جهة، وبين كونها سيطرة وهمية تدخله لشرك الترويض النفسي والمعنوي من جهة أخرى. إنها حالة أشبه بمنح الأسرى الـ "فرصة" والقيود ليقيدوا أنفسهم بأنفسهم.
كما أن الأسير الفلسطيني يعي ذاته، وكوّن حول نفسه تصورًا على أنه البطل الذي يقارع الإحتلال وشكل قلقًا لأجهزتها الأمنية يعيش، نفس هذا الأسير، تناقضًا شديدًا بين هذا التصور الذاتي لنفسه وبين كون سجانه الذي يسيطر على حياته فتاة لا يتجاوز عمرها العشرين عامًا، وتتحكم بقسم مؤلف من 120 أسيرا. إن هذا التناقض يزداد حدة ويصبح ذا تأثير نفسي جدي على الأسرى عندما يجري الحديث عن أسرى ينتمون لمجتمع بغالبيته يعتبر سيطرة المرأة على الرجل مهانة وانتقاصا من رجولتهم، مما يؤثر سلبًا على تقديرهم الذاتي لأنفسهم بصورة عامة وعلى تقديرهم الذاتي في القدرة على تغيير الواقع بشكل خاص.
لا ينتهي التناقض في حياة الأسير في ظل آليات السيطرة الحديثة عند بوابات السجن وأسواره. فصورة واقع السجن كما هي مصورة في الأدب والشعر والإعلام، لا سيما الإعلام العربي، مأخوذة عن مرحلة مختلفة حضاريًا لا تشبه الصورة كما هي في واقع السجون اليوم، ورغم أن هذا الواقع أشد وأقسى برأينا، إلا أنه لا يوجد أي تطابق بين السجان الوحش في الأدبيات، وبين سجانة فتاة في العشرين من عمرها. لقد تغيرت صورة السجان وأصبح شكلاً وهندامًا أقرب للموظف في بريد أو بنك، الأمر الذي عطل حتى القدرة أو إمكانية استخدام الأدب والشعر بمفرداته ولغته وصوره القديمة لتصوير المعاناة والعذاب دون أن يكون مجافيًا للحقيقة، ودون أن يكون مضخمًا للصورة.
لقد أصبح هناك ضرورة لأدوات أكثر قدرة على تفسير وشرح التعذيب الحديث والمركب. أدوات ربما مستعارة من علم الإجتماع والفلسفة.
إن مجمل هذه التناقضات التي يعيشها الأسرى الفلسطينيون مضافًا لها الوفرة المادية كأداة تعذيب، كما أوضحناها، والتناقضات السياسية بكل ما حملت منذ اوسلو، وبالذات منذ اندلاع الإنتفاضة الثانية، يجعلهم في أحسن الأحوال مفتوحين على تفسيرات ومفاهيم جديدة تمنحهم يقينًا بشأن مصدر معاناتهم الحقيقي. لكنهم في ظل غياب التفسير العلمي الملتزم والمنحاز للقضية الوطنية، سيكونون عرضة للتأويلات الإسرائيلية التي تهدف زعزعة قيمهم الجامعة وتسهل عملية صهر الوعي. والسجان يدرك هذه التناقضات تمامًا ويستغلها شرّ استغلال.
إنه لمن المؤسف حقًا بأن لجان حقوق الإنسان وجمعيات الدفاع عن الأسرى بصورة عامة والفلسطينية منها بصورة خاصة، ما زالت لا تقدم أي تفسير علمي جاد لهذه الممارسات الإسرائيلية التي تقرأها كإجراءات وأحداث منفصلة لا تربطها قانونية أو منطق سياسي. وتتواطأ في تعاملها مع الواقع كما هو، وتنساق في معالجاتها جراء هذه القراءة المتقطعة مع ما هو قائم من آليات وأدوات. ففي أحسن الأحوال تنشر التقارير بشأن هذه الممارسات دون أن تقدم تفسيرًا لها. ولا يوجد هناك أي بارقة أمل في التفكير خارج العلبة واقوالب القائمة. الأمر الذي لم يساعد الأسرى على الخروج عما طورته هذه التناقضات في أوساطهم من آليات دفاع نفسي للخروج من حالة التنافر الشديد ما بين الواقع والوعي الذي شكلوه بشأن هذا الواقع، وذلك لخلق توازن موهوم يقود لإنكاره. ومن هذه الآليات؛ الأمراض، الكذب، التهويل، تضخيم الذات أو الواقع. ويتبدى ذلك في التقارير والمعلومات المقدمة للجان حقوق الإنسان وفي التهويل الإعلامي مما يشوه صورة هؤلاء المناضلين، ويحدّ من قدرتهم على مواجهة واقعهم، ويعطل إمكانية النهوض بقضاياهم من قبل اللجان الحقوقية والإنسانية. لقد بدأت تجليات هذه السياسة الإسرائيلية في السجون وآثارها تظهر في حياة الأسرى ونظامهم وعلاقاتهم الداخلية في العامين الأخيرين على نحو واضح وخطير. والخطورة بالدرجة الأولى تتمثل بتنكر غالبية الأسرى لهذا التشخيص آنف الذكر، وذلك لأسباب نفسية ومعنوية حيث يفضلون تحت وطأة الهمّ الخاص، ولدواعي عملية مواصلة الحياة لئلا يضطروا الوقوف أمام استحقاقاته.
إن تنكر الأسرى للواقع وتفضيلهم التواطؤ مع سهولة الحياة القائمة هو بحد ذاته نتيجة من نتائج سياسة الهندسة البشرية التي يتعرضون لها في إطار خطة صهر الوعي، لكن خطورة ما سنفصله هنا من محتوى قيمي جديد في حياة الأسرى، هو أننا نتحدث عن طليعة الشعب الفلسطيني ورأس حربته المقاومة. وعندما تستهدف القيم الجامعة لهذا القطاع من الشعب الفلسطيني، بترويضه واستدخال قيم ما قبل وطنية على قاموسه ومنطق تفكيره، إنما تستهدف مقولة الشعب التي يشكل الأسرى بنضالهم طليعة حماتها مما يعني بأنه سيكون لهذه السياسة الإسرائيلية الآثار المدمرة على مجمل نضال الشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية.
لقد تعاطت إدارة السجون مع اللجان الوطنية، واللجان القيادية المنتخبة أو ممثلي الأقسام كما سبق وذكرنا، لكنها حولت هذه الأطر إلى أطر ما قبل وطنية بمحتواها. حيث أصبح تدخلها تفصيليًا عبر إجراء تنقلات ممنهجة بين السجون. فمثلاً وبهدف تعزيز المرشح "س" من منطقة جنين، قامت بنقل أسرى جنين إلى قسمه لضمان انتخابه حيث يمثل القسم الواحد وحدة انتخابية واحدة، بحيث أصبح أعضاء الفصيل المعين في قسم كذا ينتمون جغرافيًا بغالبيتهم لجنين. مما حول مفتاح العلاقات الداخلية لكل فصيل بأن لا تحكمه اللوائح الداخلية وإنما الإنتماءات الأولية كالبلديات ورابطة الدم والجغرافيا، بل أصبحت العلاقات بين الفصائل لا تخضع للخلافات السياسية والفوارق الأيديولوجية، وإنما تجد اليوم أفرادا من حماس وفتح من مدينة نابلس مثلاً يقفون في وجه شباب من فتح وحماس من جنين[32]. فالمفتاح الناظم لمجمل العلاقات داخل السجن هو مفتاح الجغرافيا والبلديات. لدرجة أن الفصائل لم تعد هي الجهة التي توفر الأمن والحياة الكريمة وإنما أبناء البلد. حيث أصبح لكل منطقة أو مدينة مرجع (مختار) يبسط الفصيل من خلاله نفوذه على أفراد المنطقة المعينة.
إن هذه القيم ولغاية أواسط التسعينيات لم تكن قائمة في السجون، حيث اعتبرت في الماضي من قيم العيب المحاربة، والتي لا مكان لها بين الوطنيين لدرجة أن من كان يحاول الترويج لها يحاصر وينبذ اجتماعيًا، لكنها، وعندما تسلح شخوص وحاملو هذه القيم بالسلطة، أصبحت هي القيم السائدة وقيم المرحلة، ومن يحاول التفكير والعمل خارجها يحارب ويقصى كمتمرد على "السلطة". باستخدام السلطة الشرعية الوحيدة، وهي سلطة الفصيل المؤسسة على مفتاح الجغرافيا والبلديات.
إن هذه السلطة تستمد قوتها من جهة من إدارة السجون عبر التنقلات التي تجريها للأسرى بين السجون بما ينسجم ومصلحة شخوص هذه السلطة ويعززها. إن كان بتجميع المقربين منها أو توزيع الخصوم. بل إن بعض ممثلي الأقسام تحولوا إلى "كابو" فعلاً، ومن جهة أخرى، تستمدها من السلطة الفلسطينية التي تمنح ممثلي هذه القيم من الأسرى قوة حيث يشكلون عنق الزجاجة التي عبرها يصل الدعم المالي وتحل الإشكالات الإجتماعية لأسرة الأسير أو يتابع أمر راتبه الشهري. وهكذا، وبهذا المعنى تعزز السلطة الفلسطينية من حيث تدري أو لا تدري مشروع فكفكة القيم الجامعة للأسرى.
لقد حافظت إدارة السجون أيضًا على ما كان قائمًا من تقسيم سكني لغرف خاصة بكل فصيل داخل القسم الواحد من أقسام السجن. لكن التقسيم الداخلي لأعضاء الفصيل الواحد موزعون في غالبية السجون على الغرف وفقًا للإنتماءات الجغرافية، أو وفق مخيم مدينة، الأمر الذي يعاكس تمامًا ما كان قائمًا في الماضي في أوساط الأسرى. لقد حاربت الفصائل الوطنية في الأعوام ما قبل أوسلو تحديدًا مثل هذه المظاهر ووصل الأمر منع الأشقاء السكن في وحدة – غرفة واحدة. إدراكًا منها لأهمية تعزيز الروابط الوطنية والعلاقات التنظيمية المؤسسة على قواعد سياسية طوعية بعيدًا عن رابطة الدم أو البلديات. وقد واجهت الفصائل في الماضي إشكاليات جدية جراء موقفها المبدئي الذي كان يتسم بالتطرف أحيانًا. لكنها اعتبرت الرضوخ لهذه الروابط خطـًا أحمر يعرض الفصيل وقيمه الوطنية للاندثار. لقد كان التنويع الجغرافي والتعددية عمومًا مبدأ، أما البلديات والشلليات فهي سلوك محرم. وقد أدرج هذا التحريم في اللوائح الداخلية لكل فصيل، لكننا اليوم وانسجامًا وهذا الحال البائس الذي وصفناه، نجد أن التوزيع المالي القادم من السلطة الفلسطينية يتناغم كليًا مع الجغرافيا كمفتاح، وتشكل هذه الجغرافيا أساس للتكافل الإجتماعي والعلاقات المادية المتبادلة بين الأسرى، بل حتى طابور الرياضة الصباحية التاريخي أصبح مقسما، وتجد كل منطقة تمارس رياضتها وهرولتها رغم ضيق المكان بمعزل عن المناطق الأخرى.
نعم نحن ندرك بأن هذه التفاصيل قد لا تعني شيء بالنسبة للناس خارج الأسوار، لكن من لا يدرك أهمية هذه التفاصيل وتداعياتها النفسية والتربوية على الفرد في حياة مؤسسة مغلقة كالسجون، والتي تمارس على نحو يومي ومكثف لسنوات طويلة على شباب غالبيتهم في العشرينات من عمرهم، لا يمكنه أن يفهم المشروع الإسرائيلي في إعادة صياغة وعي وترويض هؤلاء المناضلين في أدق التفاصيل. إن السجون الإسرائيلية اليوم هي بمثابة مؤسسات ضخمة لطحن جيل فلسطيني بكامله. بل هي أضخم مؤسسة عرفها التاريخ لإعادة صهر الوعي لجيل من المناضلين.
لا يعني هذا الحال كما نصوره هنا بأننا أمام قبول واسترخاء من قبل الأسرى لكننا أيضًا لسنا أمام مواجهة ورفض، وذلك لعدم إدراك الحالة وتشخيصها. بل هناك في أوساط من يرغبون بالتغيير تخبط وشعور عام بالمرارة من عدم قدرتهم على تفسير حالة التروي القيمي والمعنوي رغم معقولية الواقع المادي. وهناك ضغط نفسي وعصبي لدى قطاعات واسعة من الأسرى الجدد مممن يعيشون تنافرًا بين ما كانوا يحملونه من تصور مثالي أو على الأقل إيجابي عن الأسرى والنضال داخل الأسر، وبين ما يواجهونه في الواقع من حقيقة تتناقض وهذه الصورة. الأمر الذي يقودهم لتفريغ هذا الضغط باستخدام العنف تجاه الآخر. والآخر في الواقع الجديد للسجون ليس السجان غير المتواجد ماديًا ومباشرة أمامه، وإنما الآخر تجسد بابن المنطقة الجغرافية الأخرى.. مدينة.. أو مخيم.
بعد أن فقدت الآليات والضوابط الفصائلية قيمتها في حسم الخلافات، أصبح استخدام العنف والضرب بأدوات حادة ظاهرة طالت سجون عديدة. وقد أصبح، بعد أن كان محرمًا في حياة الأسرى لسنوات طويلة، ويؤدي بمستخدميه والملوحين به إلى الفصل والطرد من صفوف الفصيل المعني، أداة حسم للخلافات و "ناظما" للعلاقات الداخلية.
إن العنف الذي أصبح أداة حسم وناظما للعلاقات أسهم في إعادة إنتاج قيم الإنتماءات الأولية من جديد وعزز البلديات والإنتماءات الجغرافية. واصبح الأسرى حتى أولئك الذين يريدون تغيير هذا الحال، أسرى هذه الدائرة التي تغذي نفسها. بعد أن أصبحت البلديات هي الجهة الوحيدة القادرة على توفير الأمن والحماية في ظل هذا، وتقدم للأسير يقينًا على شكل حماية وتفسيرها وقيمها هما الوحيدان اللذان في متناول يد الأسير وعقله.
إن التناقض والضغط النفسي الذي يعيشه الأسير لا يقوده دومًا وبالضرورة اللجوء للعنف كوسيلة تنفيس، فهناك قطاعات من الأسرى لجأت إلى العزوف السياسي والإنطواء على اهتمامات بعيدة عما قد يؤجج التناقضات والتوترات النفسية داخلها. فقد لوحظ تزايد نسبة الأسرى المهتمين على نحو متطرف بلياقتهم الجسدية فيقضون وقتهم ويكرسون جلّ اهتمامهم بممارسة الرياضة، وفي المقابل هناك فئة مهتمة بمتابعة برامج التلفاز التي في أحسن الأحوال برامج بعيدة كل البعد عن السياسة والهمّ الوطني، وفي المجمل لم يعد الأسير الفلسطيني ذاك الأسير القارئ والمنتج أدبًا داخل السجون كما كان في الماضي. ولم تعد الجلسات والحلقات الدراسية والنقاشات الفكرية والأيديولوجية هي سمة هذه الطليعة، بل إن هذه الطليعة في غالبيتها الساحقة لم تعد تقرأ وتبحث عن إجابات للأسئلة والإشكالات الوطنية التي تجابه شعبنا، ولا يوجد إلا قلة قليلة ما زالت تحاول النفخ على الجمرات. صحيح أن هناك أعدادا متزايدة من الملتحقين بالدراسة الجامعية (الجامعة المفتوحة في إسرائيل)، إلا أن الدافع والإهتمام يندرج في الغالب في إطار الإهتمام بقيم الذات ومستقبلها بعد التحرر ولا ينطلق هذا التوجه من قيم المجموع والهمّ الوطني. إنه شكل من أشكال الهروب من الواقع، وإن كان هروبًا محبذًا قياساً بالأشكال الأخرى. لكن المعرفة والدراسة الأكاديمية المكتسبة قلما يوظفها هؤلاء الأسرى الدراسية في خدمة المجموع، خصوصًا عندما يرافقها استنكاف وابتعاد عن قضايا الفصيل وهموم الحركة الأسيرة.
وكجزء من الإستفراد بعقل ووعي الأسرى، ولمنع أي إمكانية لتدفق المعلومات التي من شأنها أن تشوش عملية صهر الوعي، فقد حددت إدارة السجون في الأعوام الأخيرة طبيعة الكتب التي يسمح للأسير إدخالها عبر الأهل بكتب الدين والعبادة أو بعض الروايات، أما الأبحاث العلمية والدراسات السياسية والإجتماعية فيمنع إدخالها للسجن تحت حجة "مواد تحريضية". وعلى كل حال فإن الكتب التي تقرأ بكثافة في الآونة الأخيرة هي كتب قراءة الطالع وتفسير الأحلام أو كتب اختبار المعلومات (بنك المعلومات). الأمر الذي إن دلّ على شيء فهو يدلّ على حجم التشوّه الذي كان من نصيب ثقافة الحركة الأسيرة. هذه الطليعة الفلسطينية التي من المفروض أن تكون أكثر الفئات تسييسًا ووعيًا.
وقد استخدمت إدارة السجون للتشويش على وعي وثقافة الأسرى، منع إدخال الصحف العربية بما فيها الصحف الصادرة في الداخل48، وخصوصًا الصحف الحزبية والسياسية "كفصل المقال" و "الإتحاد" و "صوت الحق" باستثناء صحيفة القدس التي تصل الأسرى بعد صدورها بأسابيع. وفي المقابل يتاح للأسرى قراءة الصحف العبرية التي تصل يوميًا. أما محطات الراديو فيسمح بالتقاط المحطات الإسرائيلية فقط، بعد أن حددت أيضاً التقاط الفضائيات العربية، بعد شطب قناة "الجزيرة". وأبقت المحطات التي تعتبرها ملتزمة بخط "الإعتدال العربي".
لم تكتف إدارة السجون بمثل هذا الحصار الثقافي لمنع ما قد يتسلل من خارج الأسوار. وإنما حرصت أن لا يتسلل أجزاء من الصورة الى الأسرى من القسم المجاور لهم داخل نفس السجن. لئلا يتمكنوا من جمعها في إطار مشهد واحد يقودهم إلى فهم وإدراك الصورة بشموليتها وإدراك الظرف والمرحلة التي يعيشونها. فالأقسام منعزلة عن بعضها البعض وتمثل سجنًا مستقلاً وإدارة السجون تحرص على إبقاء هذا الفصل فصلاً تامًا.
إن توزيع الأسرى الفلسطينيين على السجون وفق تقسيمات مناطق كبرى.. جنوب.. وسط.. شمال وتوزيعهم في كل سجن، كما سبق وذكرنا، على الأقسام وفق تقسيمات صغرى؛ مدينة.. قرية.. مخيم، وإحكام الفصل بقدر الإمكان بين المناطق عن بعضها، وتعزيز فصل الاقسام داخل السجن الواحد.. إن هذا العزل الممنهج يفيد تقليص نقل المعلومات والخبرات بين الأسرى، لكنه وبشكل أساسي يحول ضباط الإستخبارات ليصبحوا الجهة الوحيدة المزودة للأخبار والقناة التي يستقي منها الأسرى معلوماتهم. الأمر الذي يمنح هؤلاء الضباط أداة سيطرة تتمثل في بث الشائعات وتأجيج التناقضات وتغذية الخلافات بين أقسام السجن، ودائمًا على أساس مناطقي وجغرافي مخيم.. مدينة مثلاً، إن كان بين أسرى نابلس ومخيم بلاطة أو أسرى جنين ومخيم جنين. دافعين بهذا لتعزيز وتغذية الإنتماءات وفقًا لهذه الصيغ بحيث يستبدل الولاء للوطن بالولاء للمنطقة حتى تحل الجغرافيا كانتماء محل الهوية الوطنية الجامعة. إن الفصل على نحو محكم بين الأقسام مضافًا له الجوع الطبيعي والتعطش الدائم للمعلومات لدى الأسرى الذين يسعون دومًا في حالة العزلة إلى تحديد مكانهم وزمانهمه والظرف المحيط بهم يحول قوة السجان إلى قوة مضاعفة يستخدمها في تشكيل الوعي لدى الأسرى.
لقد أضاف الحسم العسكري الذي قامت به حركة حماس في قطاع غزة عناصر تعقيدات جديدة وتشابكات جعلت مهمة إعادة صياغة الوعي في السجون، بل وخارجها، مهمة ممكنة ومشروعًا قبل للتطبيق. لقد وفر هذا الحدث فرصة كبيرة ومادة تحريض دسمة لضباط الإستخبارات في السجون لدسّ الأخبار والمعلومات المؤججة للصراعات والمفككة لأي مفهوم وطني أو قيمة من القيم الجامعة للأسرى بصفتهم مناضلين.
إن أبرز تجليات هذا الحدث في حياة الأسرى هو حالات الإعتداء المادي والمعنوي المتبادلة بين أسرى فريقي الخلاف في غزة والتي بقين لحسن الحظ حالات محدودة، وبعضها مفتعل ومقصود من قبل ضباط الإستخبارات. إلا أنها كانت أحداث كافية لتضخيمها وتضخيم البعد الأمني ليتم استغلالها لتطبيق قرار الفصل بين أسرى القوى الإسلامية وأسرى حركة فتح. تحديدًا في سجون المنطقة الجنوبية الأمر الذي نظـَّرت له وتناغمت معه قلة من النفسيات المهزوزة. وفي المقابل ومن "ثمار" هذه السياسة الإسرائيلية، بل وأحد أبرز تجلياتها التي بينت حجم السيطرة على السجون وحجم "الإنضباط الذاتي" للأسرى الذي لم نره أثناء الخلافات الداخلية وأحداث الحسم العسكري في غزة، هو الصمت الذي رافق الحرب على غزة، الصمت المطبق والشامل لكل السجون. حيث جلس الأسرى أثناء هذه الحرب أمام شاشات التلفاز يراقبون الفضائيات العربية التي أغرقت بالدم (في هذه الأثناء كان التقاط الجزيرة مسموحًا به) وتصرفوا كأقل من أي مواطن عربي أو متضامن أجنبي مع الشعب الفلسطيني لم يحرك الأسرى ساكنًا، ولم يقدموا على أي شكل احتجاجي أو تضامني يمكن ذكره. بل تجرأت إدارة السجون وطلبت بوقاحة أن لا تذكر الأحداث في خطب الجمعة لئلا يؤدي الأمر إلى "تحريض" الأسرى.
إن هذا الصمت صدر عن الحركة الوطنية الفلسطينية الأسيرة التي كانت وعلى الدوام وعلى مدار تاريخها تُقدم على خطوات احتجاجية وتضامنية مع أي نضال وحركة تحرر في العالم. لقد كان الأسرى يبدعون في الماضي بأشكال إحتجاجهم لمجرد أن هناك مناضلين أكراد مضربون عن الطعام في السجون التركية، أو تضامنًا مع منديلا وأعضاء المؤتمر الوطني الإفريقي في سجون جنوب أفريقيا العنصرية. لكنهمه وقفوا عاجزين عن إصدار موقف أو اتخاذ خطوة احتجاجية أو رمزية واحدة على مدار ايام الحرب على غزة.
إن حالة العجز هذه لا تعرض هنا للتشهير بالمناضلين ولا حتى للمعاتبة. ليس الموضوع كذلك ولا يعالج بهذا السياق، وإنما جاء لتأكيد على حجم السيطرة الإسرائيلية موضوعيًا على الأسرى. من خلال جملة السياسات والإجراءات والضوابط التي تشكل عملية صهر الوعي، والتي كل واحدة منها منفردة لا تعني الكثير، لكنها تشكل في المجمل أكثر بكثير من حاصل مجموع مركباتها وتشكل مصانع تسمى سجون مهمتها صهر الوعي لجيل بكامله.
إن الواقع في السجون بكل تعقيداته وحجم الإستهداف والجهد العلمي الحديث المبذول به مضافًا إليه التعقيدات والأزمات السياسية على الساحة الفلسطينية ما كان ليتيح للأسرى الخروج من حالة العجز بقواهم الذاتية وأن يتصرفوا بغير ما تصرفوا به أثناء الحرب على غزة. فمهمة الخروج من هذه الأزمة ليست من وجهة نظرنا مهمة الأسرى لوحدهم، بل هي مهمة القوى السياسية ولجان الأسرى وحقوق الإنسان بالدرجة الأولى.
وعلى كل حال، لا تتمثل الخطورة بما حدث في تلك اللحظة أو ذاك الموقف الذي لم يتخذ أثناء الحرب على غزة، وإنما الخطورة هي في التناقض والصراع الداخلي الذي يعيشه كل أسير، حيث جاءت الحرب وكثفته وزادت من حدته. الصراع ما بين ما يتصوره الأسير حول نفسه ونضاله مع ما لا يجد له تفسيرًا في غياب هذا التصور في الممارسة العملية. لا أحد الآن قادرا على تقدير حجم الأضرار النفسية والمعنوية جراء هذا التناقض، أو تقدير حجم التقدير الذاتي المتدني للأسير وتداعيات ذلك على النضال الوطني في المستقبل. لكننا قادرون اليوم أن نشعر بحجم المعاناة بفعل هذا النوع من التعذيب النفسي.
لم يكن من سبيل الصدفة أن تقدم إدارة السجون مباشرة بعد الحرب على غزة على رفع العلم الإسرائيلي في كل ساحة من ساحات السجون، الخطوة التي لا نعتقد بأنها كانت ستـُقدم عليها في ظروف اخرى، لو لم تكن تدرك حجم العجز والتشوّه الذي أصاب الأسرى كما أصاب مجمل قواه وفصائله الوطنية والإسلامية.
إننا وعندما نتحدث عن التعذيب وضرورة أن يُقدم له تعريف جديد، فإنما يجب أن يشمل هذه السياسات وهذه النظم غير الحسيّة وغير المباشرة، التي تهدف للتدخل في تفكير الأفراد في عملية مسح دماغي زاحف ومتدرج وممنهج، وتحاول أن تهندس الجماعة السياسية وتدخل في العمليات الإجتماعية وتسيطر عليها وعلى نتائجها.
إن طموح مدير السجون السابق يعقوف جنوت عبر عن هذا الهدف وهذه الرغبة في السيطرة، ففي حديث له أدلى به في إحدى ساحات سجن جلبوع بعد تسلم وزير الأمن الداخلي جدعون عزرا الوزارة عام 2006 موجهًا حديثه للوزير وعلى مسمع من الأسرى: . عليك أن تكون واثقًا بأنني سأجعلهم (الأسرى) يرفعون العلم الإسرائيلي وينشدون التكفا".
.............
[31] . زيجمونت بويمن، الحداثة السائلة (القدس: الجامعة العبرية، 2007)، ص 101-106.
[32] . حتى النضال خارج الأسوار انطبع بهذا الطابع الجغرافي، لاحظوا كيف تشكلت لجان أسرى لكل منطقة أو مدينة ترفع صور أسراها فقط أثناء الإعتصامات، ولا تتحدث إلا بما يخضهم، دون أدنى تنسيق بين جميع هذه اللجان

*اسير فلسطيني... موجود في الأسر منذ عام 1986 (23 عاماً في السجن) من مواليد باقه الغربيه..فلسطين .