بقلم : رشاد أبوشاور ... 11.02.2010
ارتفعت الأمواج، وعلا ضجيج البحر، ومن بعيد أخذ جسد بشري يرتفع مع الأمواج ويده ترتفع عاليا، وكأنه ينذر الناس الذين سعدوا بأفول أيّام الشتاء الذي مرّ قاسيا ببرده القارس، واضطرهم للاعتكاف بملل في بيوتهم.
تساءل بعض المصطافين عن سّر ذلك الجسد الذي يرتفع مع الأمواج، والذي يبدو نصفه العلوي عاريا ـ نصفه السفلي يختفي في ماء الموج ـ إن كان حيّا، أم ميتا حملته الأمواج إثر تحطّم زورقه، أو سفينة كان أحد أفرادها، أم شخصا ضربته الأمواج بينما كان يسبح مبتعدا عن الشاطئ.
فجأة تبدّل الطقس. ظهرت غيمة سوداء كثيفة بدأت تزحف من الغرب، كما لو أنها ستارة ضخمة تسحبها يد هائلة، وتغطّي بها السماء المشمسة التي أغوتنا بالخروج من بيوتنا، والتنعّم باللعب، نحن وأسرنا، على رمال الشاطئ، ومع الأمواج اللطيفة.
تأمّل الناس السماء بدهشة، ثمّ بخوف، وبدأوا في لملمة أغراضهم، وجّر أطفالهم بسرعة، بينما كان الجسد يقترب، رافعا يده كأنما يطلب النجدة، ولكن أحدا لم يتوقف ليستجلي الأمر، فحالة الناس صارت كما يقول المثل: اللهم أسالك يا نفسي...
ارتفعت أصوات:
ـ الطوفان آت لا ريب فيه...
ـ لينج كل بجلده...
ـ هذا يوم غضب الرّب...
ـ نحن في آخر الزمن...
ومن هول الرعب ترك كثيرون على رمال الشاطئ أغراضهم: من طعام، وفراش، وأدوات لعب الأطفال، وعجلات تساعد الأطفال، ومن لا يجيدون السباحة، وزجاجات مرطبات ومياه صحيّة، وملابس شخصيّة، وطاولات زهر، ومسجلات وأشرطة مكومة بجوارها، وشماس ملونة...
اقترب الجسد الذي كانت الأمواج ترفعه عاليا حتى ليكاد يبلغ برأسه الغيمة السوداء التي أخذت تخفي صفحة السماء، وتنشر عتمة ما كان لأحد أن يتوقعها في هذا اليوم المشمس المبشّر بصيف جميل، وبحر هادئ، وأيام مبهجة للجسد والروح...
ارتفعت أصوات بعض المتريثين الذين لم ينل الخوف منهم تماما:
ـ يا ناس : هذه غيمة عابرة ...
ـ تعالوا ننقذ ذلك الرجل...
ردّ صوت متوتر :
ـ اذهب وأنقذه وحدك. من قال له أن يتوغّل في البحر؟
ـ يا أخي وما أدرانا أنه توغّل ..ربما .ربما.. بعد إنقاذه سنعرف سرّه.
ـ إنه يشير لنا أن نهرب...
ـ لا، بل يطلب منّا أن نساعده، فثمّة خطر يتهدده غير الأمواج.
ـ يعني إذا كانت أسماك قرش تطارده، فهل تقترح علينا أن نلقي
بأنفسنا إلى التهلكة؟ دعه لمصيره يا رجل...
وهكذا، هكذا خلا الشاطئ، ولم يبق ثمّة أحد.
بينما الأمواج تحمل الجسد الذي بدا واضحا، فلا المنقذون، ولا حرس الشواطئ، ولا رجال الإسعاف، لبوا استغاثته.
مُنذ ذلك اليوم، وحتى يومنا هذا لم يعد أحد يقترب من ذلك الشاطئ، فالجميع يتجاهلون أنهم رأوا إنسانا يستغيث، وأنهم لم يلبوا استغاثته، وكأنهم جميعا تواطأوا على نسيان ما حدث، وانشغلوا بدورة حياتهم اليوميّة، وانتقلوا إلى شاطئ آخر...