بقلم : سهيل كيوان ... 25.02.2010
كلما حكيت لوالدي عن منام ما رأيته قال مداعباً: أنت مثل خالك! ويقصد أنني أختلق القصص! ثم يتساءل...لماذا ترى أنت المنامات ولا أراها أنا!
- لا بد أنك ترى ولكنك تنسى!
قبل شهرين رأيت صديقاً له رحل منذ سنوات، كان أعز أصدقائه، عملا معا لسنوات طويلة في مقالع الحجارة، واشتركا في السراء والضراء، رأيته وقد استعاد شبابه، شامخاً بقمبازه وعقاله وحطته البيضاء وشاربيه العزيزين المتعوب عليهما، مبتسماً يلوّح لوالدي بالتحية! لم أحدّث والدي عن المنام لأنني أعرف رده! ثم انني خشيت أن تكون هذه دعوة لزيارته...إلى العالم الآخر! ولهذا فضلت السكوت! ولكن بعد أيام قليلة جاء أبناء صديقه ووالدتهم الأرملة لزيارته بعد انقطاع سنوات....
حينئذ أخبرته بمنامي فتنحنح وقال لي ...أنا أيضاً رأيت مناما ليلة الأمس...إنها من المرات النادرة التي أتذكر فيها مناماً...
- وأخيراً رأيت وتذكرت!...ماذا رأيت!
- هذه المرة رأيتها بوضوح...امرأة عجوز كانت تسكن في الزقاق القريب رحلت منذ حوالي خمسين عاما..اسمها (حجلة الوحش)....رأيتها تتحدث معي فهل لديك تفسير لهذا...
- لا أعرف...ماذا يمكن أن يعني منام كهذا! ماذا قالت لك؟
- لا أذكر ما قالته بالضبط، ولكن أذكر وجهها جيداً!
بعد أيام وبسبب سعال اشتد عليه، أرسله الطبيب لإجراء صورة للرئتين وتبين أن هناك شكوكاً حول مرض خبيث انتشر في رئته..وفوراً نقلناه الى المستشفى وبدأت عملية تشخيص (ذرّية) أكثر دقة للمرض..نعم إنه مرض خبيث، أصيب به كثيرون في البلدة ورحلوا بسببه، وهو من أكثر الأمراض فتكاً بالرجال على مستوى العالم....
رقد والدي في المستشفى وبدأ الناس بعيادته بأعداد كبيرة، فأهل بلدنا عندما يسمعون بمريض من هذا الطراز الخطير يتناقلون الخبر بسرعة عجيبة ويعلم أكثرهم بدقائق المرض ومراحله حتى قبل المريض نفسه وأهل بيته...' شو مع الوالد..' يسألك من لا تتوقعه في الشارع أو في الدكان..' الحمد لله ان شاء الله أحسن'...' سمعت أن الفحص طلع مش مليح'!...هذا رغم احتياطات الخصوصية والسرية التي تتخذ في المستشفيات وإصرار الأطباء على تسليم المريض أوراقه بنفسه! وقد يلتقي أثناء عيادة المريض في غرفة المستشفى عشرة أو خمسة عشر نفرا ً وخلال النهار يعوده العشرات، لأن كل من يأتي لعيادة مريض يخصه يرى من واجبه زيارة جميع المرضى من أبناء البلدة ولو لدقائق وبدون تكليف...حتى أولئك الذين لا تربطه بهم أي علاقة سابقة!
كثر حديث الزائرين عن المصابين بالمرض الخبيث وأعدادهم المتزايدة في السنوات الأخيرة وخصوصا بالرئتين، وكان كثيرون يتهمون هوائيات الهواتف الخلوية الضخمة وحتى الصغيرة المثبتة سراً على سطوح بعض البيوت والفضاء المكتظ بالموجات الكهرومغناطيسية وتيار الكهرباء العالي الذي يمر بمحاذاة بيوت البلدة...وطبعا سيرة التدخين..وهي أطول بكثير من سيرة الحب! ذكروا أسماء كثيرين من المرضى والراحلين كان آخرهم من عائلة (سلامة)، عرج أبناؤه لزيارة والدي...وأثناء الحديث عن المرحوم والدهم الذي صارع المرض سنوات قال كبيرهم مبتسماً 'مسكين والدي في الفترة الأخيرة كان يرى منامات غريبة...حكى لنا أنه رأى في المنام عجوزاً
تدعى (حجلة الوحش) تتحدث إليه كانت تسكن في الزقاق' .....
صدمت....والتفتُ إلى والدي الذي بادلني نظرة دهشة كأنه لا يصدق ما سمع! إنه نفس المنام الذي رآه! كيف ولماذا رأى والدي والرجل الذي لا يقربه بشيء نفس العجوز في المنام نفسه وكلاهما مصابان بالمرض نفسه..!
إنها أمور غريبة عصية على التفسير! بعد فحوصات عديدة دقيقة في قسم 'الطب الذري' في حيفا، انتقل والدي للعلاج بالأشعة وأنا مرافقه، كل قسم في المستشفى كتب عليه أسماء المتبرعين به، على مدخل أحد الأقسام مكتوب 'أسس من أموال التعويضات من ألمانيا'. سألني والدي 'ما هذا القسم'!...قلت..'هل سمعت ما تحدث به أحمدي نجاد عن مليون إيراني بحاجة لتخصيب اليورانيوم للاستخدام الطبي...! هل تذكر مئات آلاف العراقيين الذين حرموا من هذا بسبب الحصار الطويل..وغزة!...الدور على غزة الآن..'!
بعد ليلة أو ليلتين رأيت في المنام سيدة عرفتها منذ سنوات بعيدة، رأيتها تجلس قرب والدي وتنتظر دورها في القسم نفسه، ولكنها بدت أصغر سناً مما عرفتها! شككت أنها أجرت عملية تجميلية فصارت تبدو أصغر سناً! في صبيحة اليوم التالي ترددت..هل أتصل بها الآن بعد قطيعة سنوات لأخبرها بهذا المنام السخيف! سوف تظن أنني أبحث عن حجة واهية كي أتصل بها! ولكنني متأكد من وجود أمر ما! فتحت دفتر أرقام الهاتف القديم واتصلت. رن هاتفها، وها هو صوتها يأتي من بعيد وما أن نطقتُ...هالو....حتى عرفت صوتي ..ما الذي ذكّرك بي الآن!
- كيف الحال..ما الذي فعلتيه!.....هل أجريت عملية تجميلية أم ماذا..بالتأكيد أنك صرت تبدين الآن أصغر سناً!
فقالت بصوت مرهق:.....لا...حالي ليس على يرام....
- خير..ما الذي حصل.....!
- ابنتي ..لقد اكتشف عندها مرض خطير ....
- خطير....!
- نعم خطير...وبدأت بتلقي علاج بالأشعة...
- هذا غير معقول ......
- ما هو غير المعقول...
- لا ولا شيء......فقط أردت أن أطمئن عليك..مؤسف أن أسمع مثل هذا الخبر......
البعض يقول إنه الحدس ...ربما كنت سأقتنع بقصة الحدس هذه..فقد حدث ورأيت مرة أنا وزوجتي نفس المنام، ولكننا زوجان ننام على نفس السرير ونتناول نفس الطعام والأمور المشتركة بيننا كثيرة جدا، يومها حكت لي منامها وأنا أستمع مذهولاً وكأنها كانت تقرأ ما رأيت في منامي في ذات الليلة!
ولكن كيف يرى شخصان مختلفان لم يلتقيا منذ زمن بعيد يحملان نفس المرض نفس العجوز التي رحلت قبل نصف قرن في منام واحد!....ولماذا هي بالذات...! وما علاقتها بالورم الخبيث في الرئة!
ترددت كثيرا بالكتابة عن موضوع كهذا، لأن البعض يرى فيه نوعاً من الهذيان وعدم الفائدة، ولكن لم لا نكتب ما دام أن الأمر حدث ويحدث بالفعل! سأحاول أن أسأل بعض المسنين، عن عجوز اسمها حجلة كانت تعيش في الزقاق ورحلت قبل نصف قرن..فلا بد من وجود سر ما، إما بها أو بالحجل......