أحدث الأخبار
الأحد 24 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
دروس من كأس العالم!!

بقلم : د.فيصل القاسم ... 04.07.2010

صحيح أن اليابان استطاعت على مدى العقدين الماضيين أن تغزو معظم بيوت العالم بمنتجاتها الإلكترونية العظيمة. وصحيح أيضاً أنها تحظى بسمعة عالمية مدهشة في العديد من المجالات الصناعية والتكنولوجية، لكنها لا تحظى بنفس القدر من الشهرة والبريق على الصعيد الرياضي. ولا شك أن الكثير من المشاهدين العرب يتعاطفون مع فريق كرة القدم الياباني في مباريات كأس العالم لأنه فريق مستضعف بالمقارنة مع الفرق العريقة التي لعب معها كفريقي هولندا والدنمارك. بعبارة أخرى فإذا كانت اليابان عملاقاً اقتصادياً وتكنولوجياً فهي ليست بذات المستوى رياضياً. لكن الأمم الحية كاليابان وكوريا الجنوبية والصين تأبى أن تتقدم في مجال وتتأخر في آخر، فالنهضة غالباً ما تكون شاملة في الأمم الناهضة.
لقد سخر مثلاً بعض المعلقين الأوربيين من الفريق الياباني قبيل المباريات. وقد غمز أحدهم من قصر قامات اللاعبين اليابانيين مقارنة بلاعبي الدنمارك ممشوقي القامات. لكن، كما يقول المثل الشعبي، فإن الحجر الذي لا يعجبك قد يقتلك. وبالرغم من أن الفريق الهولندي يعتبر بالمقارنة مع الفريق الياباني عملاقاً، إلا أن الأخير قلب الطاولة على رؤوس الساخرين، فقد استطاع الفريق الهولندي الرهيب بشق الأنفس الفوز بهدف دون مقابل على الفريق الياباني الذي فاجأ الجميع بمهاراته الرائعة. فقد لعب فريق الساموراي بطريقة ذكــّرت المشاهدين بدقة التكنولوجيا الرقمية اليابانية. وقد كانت الطامة الكبرى في مباراة الفريق الياباني مع فريق الدنمارك الشرس، فقد استطاع اليابانيون أن يسيطروا على اللعب معظم الوقت، لا بل تمكنوا من هز الشباك الدنماركية بثلاثة أهداف عظيمة، وبذلك يكونون قد أخرجوا الفريق الدنماركي من مباريات كأس العالم مطأطأ الرأس. ناهيك عن أنهم صمدوا وأبدعوا مقابل الباراغواي. ولا يضيرهم الخروج من التصفيات بضربات جزاء.
إن العلم في الأمم المتقدمة ينسحب على كل المجالات، بما فيها المجال الرياضي، وأذكر أن الفريق الياباني بعد هزيمته في تصفيات التأهل إلى كأس العالم قبل سنوات، أرسل إلى البلد الذي جرت فيه التصفيات لجنة درست طبيعة الملعب والاستاد، وحرارة الجو التي لعب تحتها الفريق، وعدد المشجعين، وغيرها من المعطيات لتتفادى الخسارة في المرات القادمة. وهذا من شأنه أن يدفع الرياضة اليابانية قدماً.
وفعلاً فقد تقدمت كرة القدم اليابانية بشكل لافت جداً، وكذلك أيضاً مثيلتها في كوريا الجنوبية، فصناع ماركتي "السامسونغ" والـ "إل جي" الإلكترونيتين وغيرهما من ماركات السيارات التي تغزو معظم بيوت الدنيا أبوا بدورهم إلا أن يوائموا بين تقدمهم الصناعي والتكنولوجي العظيم وصعودهم الصاروخي في عالم الرياضة، ليصبح فريقهم رقماً صعباً في مباريات كأس العالم، حتى لو لم يفز بالكأس، فالأيام قادمة.
بعبارة أخرى، لا يمكن أن تكون في مؤخرة العالم حضارياً، وتكون في المقدمة رياضياً. مستحيل، وإلا كانت نتيجة خمسة زائد خمسة تساوي تسعة آلاف ومائتين واثنين وعشرين، وهو غير ممكن حسابياًً. عليك أن توفق بين التقدم على مختلف الصعد.
إن الأداء العربي الهزيل جداً في الفعاليات الرياضية الدولية يجب ألا يشكل صدمة لأحد، فما كان بالإمكان أبدع مما كان. فلا يمكن لأي دولة في العالم أن تتطور إلا شمولياً، وأعني هنا التقدم الشامل على كل الأصعدة. صحيح أن فرنسا كانت ذات يوم متخلفة في كل شيء ومتقدمة في مجال الفلسفة فقط، إلا أن هذه الحالة نادرة جداً تاريخياً وليست مقياساً، فكيف للرياضة العربية أن تزدهر وترفع رؤوسنا عالياً في المحافل الرياضية الدولية إذا كان كل شيء لدينا متدهوراًً سياسياً واقتصادياً وثقافياً واجتماعياً ودينياً؟ لا يمكن أن يقبل اليابانيون والكوريون الجنوبيون أن يتقدموا في مجال وأن يتقهقروا في آخر، مثلهم في ذلك مثل الصين التي حصدت في الأولمبيات معظم الميداليات من قبل.
لقد أصاب نيكولاس كريستوف المعلق في صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية كبد الحقيقة عندما قال إن: "نهضة الصين تتجاوز الميداليات الذهبية في الحقل الرياضي.. صحيح أن الصين أبهرت العالم بهذه الطفرة الرياضية العظيمة التي أزاحت الولايات المتحدة لتصبح الفائز بمعظم الميداليات الذهبية، إلا أنه ستكون للصين بصمة أكبر في الفنون والتجارة والعلوم والتعليم.. إن نهضة الصين في الأولمبياد ممتدة إلى كافة مناحي الحياة تقريباً". بعبارة أخرى، فإن الريادة لا تأتي في مجال وتتخلف في آخر. وكم كانت الباحثة والكاتبة في الشؤون العلمية صفات سلامة محقة عندما ربطت بين التفوق الرياضي والتقدم العام لتؤكد على ما ذهب إليه كريستوف.
بعبارة أخرى، فإن الرياضة يمكن أن تكون مرآة المجتمع، فحصاد الدول المتفوقة رياضياً "لم يأت من فراغ، فالرياضة منظومة متكاملة، تشمل قائمة طويلة من الموارد، والمعدات والأدوات الرياضية المناسبة، والكفاءات والخبرات، والتدريب الجاد، وجوانب نفسية منها الإصرار والعزيمة والقدرة على التحمل، والعمل الجماعي، والتعلم والاستفادة من تجارب الآخرين، والثقافة الرياضية في المجتمع، إلى غير ذلك، ويأتي على رأس قائمة هذه المنظومة التخطيط الجيد والإدارة الفعالة."
كيف لنا أن نطبق المعايير المذكورة آنفاً على الرياضة إذا كانت غائبة تماماً عن باقي مناحي الحياة العربية. هل وفرنا المعدات والموارد والأدوات والكفاءات والخبرات والتدريب الجاد والثقافة والتخطيط الجيد والإدارة الفعالة لأي من مؤسساتنا التعليمية والصحية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية كي نوفرها للرياضة؟ بالطبع لا، فما ينسحب على التعليم والصحة ينسحب على الرياضة. وقس على ذلك.
الرياضة في بلداننا، وللأسف، هي بنت السياسة العربية، فإذا كانت سياساتنا فاسدة، فلا يمكن إلا أن ينعكس ذلك الفساد السياسي على الرياضة والرياضيين. فالرياضة هي إحدى ممتلكات النظام الشمولي العربي، مثلها في ذلك مثل مصلحة الصرف الصحي والفلاحة وجمع الزبالة والصناعة والسباكة والطبابة والثقافة والفن والعلم والتجارة والقضاء والتعليم وبقية القطاعات. ولا عجب أبداً أن من بين أسماء الحاكم العربي الحُسنى اسم "راعي الرياضة والرياضيين". فحتى الرياضة التي تعتمد بالضرورة على القدرات الجسدية هي تحت إمرة النظام العربي الرسمي ومن فضاءاته السلطوية.
لا يمكن لرياضيينا أن يتفوقوا لا داخلياً ولا خارجياً إذا كانت الرياضة عندنا تدار بعقلية الواسطة والمحسوبية والانتماءات الضيقة. فالمؤسسة الرياضية في الكثير من البلدان العربية هي مؤسسة حزبية أو سلطوية أو عائلية. ولا عجب أن ترى على رأس بعض المؤسسات الرياضية العربية أشخاصاً مؤهلهم الوحيد أنهم قريبون من السلطة أو متحزبون أو مخبرون، ويفهمون بالرياضة كما أفهم أنا بالانشطار النووي ما بعد الحداثي. فكيف للرياضة العربية أن تزدهر إذا كانت مسيسة من رأسها حتى أخمص قدميها ومدارة بعقلية قبلية أو عائلية أو طائفية أو حزبية أو حتى عشائرية؟
صحيح أن بعض الدول الخليجية والمغاربية كالجزائر استثمرت مشكورة في الرياضة، وأنفقت الملايين على النهوض بالمجال الرياضي عربياً وعالمياً من خلال استقدام رياضيين عالميين للعب والتدريب، إلا أن هذا هو الاستثناء وليس القاعدة.
لا رياضة مزدهرة من دون ريادة حضارية شاملة!