بقلم : صالح النعامي ... 26.12.2010
منذ انطلاقها عام 1979 وحتى الآن، تأثرت مواقف الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة من الحركة الإسلامية في فلسطين 48 بسلسلة من العوامل والمتغيرات التي أملت طابع التعامل الإسرائيلي مع الحركة. فمنذ انطلاقها وحتى عام 1996 غضت المؤسسة الحاكمة في إسرائيل الطرف عن الحركة الإسلامية وأنشطتها، وسمحت لها ببناء مؤسساتها التعليمية والدينية والاجتماعية والإعلامية، وأتاحت لقادتها هامش مرونة كبير في التحرك والتفاعل مع الجماهير الفلسطينية، والتواصل مع الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة.
ويعزى السلوك الإسرائيلي المتساهل هذا إلى عدة عوامل، منها رغبة المؤسسة الإسرائيلية في إيجاد منافس أيدلوجي للحركات السياسية العلمانية ذات التوجهات القومية التي نشطت في ذلك الوقت في أوساط فلسطينيي 48، حيث وجدت السلطات الإسرائيلية في الحركة الإسلامية العنوان الصحيح لتحقيق معادلة التوازن بين القوى القومية والاشتراكية من جهة وبين القوى التي تقوم على الفكر الديني من جهة ثانية. ويقول الباحث الإسرائيلي مئير توماس أن إسرائيل تعاملت الحركة الإسلامية في فلسطين 48 بنفس الأسلوب الذي تعاملت به مع جماعة الإخوان المسلمين في الضفة الغربية و قطاع غزة، حيث غضت حكومة الليكود عام 1977 الطرف عن نشاط جماعة الإخوان المسلمين في الضفة و القطاع التي لم تتبن بعد الكفاح المسلح ضد الاحتلال، وذلك من أجل أن تكون منافساً قوياً للحركات الفلسطينية العلمانية التي كانت تمارس العمل المسلح، وقدمت لها أكبر خدمة على الإطلاق عندما سمحت لها ببناء الجامعة الإسلامية في غزة التي تنظر إسرائيل إليها حالياً كـ " معمل لانتاج الإرهابيين ".
ومن العوامل الهامة في إرساء هذا الطابع من التعامل مع الحركة الإسلامية هو حقيقة تزامن انطلاقها مع نجاح الأجهزة الأمنية الإسرائيلية بالقضاء على تنظيم إسلامي مسلح نشط لفترة وجيزة في أوساط فلسطينيي48 وكان يطلق عليه " أسرة الجهاد "، وقد خطط هذا التنظيم ونفذ سلسلة من العمليات العسكرية ضد أهداف إسرائيلية.
ويرى الباحث الإسرائيلي البرفسور إيلي ريخس أستاذ الدراسات الشرقية في جامعة تل أبيب أن نجاح الأجهزة الأمنية الإسرائيلية في القضاء على " أسرة الجهاد " دفع قادة الحركة الإسلامية " الوليدة " إلى توخي أقصى درجات الحذر عندما شرعوا في ممارسة أنشطتهم الاجتماعية والدينية والثقافية، حيث خشي قادة الحركة أن يتم تفسير المؤسسة الأمنية الإسرائيلية سلوكهم على نحو يبرر ضربهم. ولعل الذي يدلل على الحذر الذي ميز عمل الحركة الإسلامية هو تجنب الحركة إبراز إنشغالها في العمل السياسي، فلم تول الحركة في هذه الفترة اهتماماً خاصاً بإحياء المناسبات الوطنية الكبيرة مثل النكبة ويوم الأرض، في حين حصرت نشاطها في العمل الاجتماعي والثقافي والدعوي.
كما يعزى الهدوء في العلاقة بين إسرائيل والحركة الإسلامية إلى حقيقة أنه حتى العام 1996 لم تكن الحركة الإسلامية قد بلورت بشكل نهائي موقفها الأيدلوجي من إسرائيل بسبب وجود اختلافات أيدلوجية داخلها تتعلق بالمشاركة في الانتخابات التشريعية الإسرائيلية، حيث حسمت هذه الخلافات بإنقسام الحركة إلى تيارين، التيار الكبير الذي يقوده الشيخ رائد صلاح الذي رفض المشاركة في الانتخابات التشريعية لكنه تحمس للمشاركة في الانتخابات المحلية، وقد أطلق على هذا التيار " الجناح الشمالي "، وتيار آخر بزعامة الشيخ عبد الله النمر درويش، الذي يطلق عليه " الجناح الجنوبي "،والذي دافع بقوة عن مبدأ المشاركة في الانتخابات التشريعية.
ومنذ العام 1996 بدأت مرحلة جديدة في تعامل إسرائيل مع الحركة الإسلامية، حيث أخذ صناع القرار في تل أبيب ينظرون للحركة الإسلامية كتهديد إستراتيجي. و حدثت عدة تطورات أدت الى تحول في الطرح الأيدلوجي للحركة الإسلامية، بشكل دفعها لتبني خطاب سياسي يعتمد المواجهة مع السطات الحاكمة. وكان على رأس هذه التطورات فوز اليمين واليمين المتطرف في إنتخابات عام 1996، ومجاهرة الأحزاب التي شاركت في الحكومة الإسرائيلية في ذلك الوقت بدعواتها باتباع سياسة متشددة ضد فلسطينيي 48، حيث برزت الدعوات لتشريع التمييز ضد هؤلاء الفلسطينيين بحجة أنهم لا يشاركون في تحمل عبء الدفاع عن الدولة من خلال رفضهم التجند في الجيش الإسرائيلي.
وأسهم فوز اليمين بشكل كبير في إفساح المجال أمام المنظمات اليهودية المتطرفة لترفع صوتها للمطالبة بتدمير المسجد الأقصى وبناء الهيكل الثالث على أنقاضه، مما شكل تحدياً صعباً للحركة الإسلامية استدعى منها رداً يخرج عن نطاق ردودها السابقة، سيما وإن هذا يعد اختباراً لصدقية التوجهات الدينية للحركة في نظر أتباعها وخصومها، حيث أن الحديث يدور عن مخاطر تتهدد البقعة التي تحتل المكانة الثالثة من حيث القدسية بالنسبة للمسلمين. وإثر هذه التطورات عكفت الحركة الإسلامية على تنظيم حملة للدفاع عن الأقصى تحت شعار " الأقصى في خطر " التي تتوج كل عام بتنظيم مهرجان جماهير حاشد يحمل هذا الشعار، وهو ما جعل السلطات الإسرائيلية ترى في مثل هذا السلوك تحريض فج على المس بأمنها. وكان للحركة الإسلامية جهد مميز في ربط الأقصى بالهم الوطني لفلسطينيي 48، مع العلم أن الحركة لم تقتصر في هذا الجهد على الجانب الإعلامي فحسب بل أشرفت على برنامج عملي إعماري تعبوي إعلامي أدى إلى تأصيل علاقة فلسطينيي 48 بالمسجد الأقصى.
ومما لا شك فيه أن الزيارة الاستفزازية التي قام بها رئيس المعارضة الإسرائيلية أرئيل شارون في أكتوبر 2000، والردود الشعبية الغاضبة عليها، وإندلاع انتفاضة الأقصى في إثرها، بالإضافة للتطرف الكبير الذي طرأ على المجتمع الإسرائيلي ولد ردة فعل لدى الحركة الإسلامية للإصرار على مواقفها وتبنيها أجندات أهملتها في الماضي.
ويعتبر بروز التيار القومي ممثلاً بحزب التجمع الذي يقوده الدكتور عزمي بشارة عام 1996 سبباً رئيساً آخر أسهم في التحول الأيدلوجي وزيادة الفاعلية السياسة للحركة الإسلامي. فسرعان ما اكتشفت الحركة الإسلامية أن حزب بشارة القومي العلماني بات يستحوذ على تأييد قطاعات واسعة في أوساط فلسطينيي 48، سيما في أوساط الشباب، وذلك بسبب موقف بشارة الحاد من إسرائيل وسياساتها.
علاوة على ذلك، فإن الإنشقاق الذي شهدته الحركة عام 1996 عندما أصر تيار فيها بقيادة الشيخ عبد الله النمر درويش على المشاركة في الإنتخابات الإسرائيلية، ترك لدى التيار المركزي للحركة بقيادة الشيخ رائد صلاح رغبة جامحة في التمايز عن جناح درويش. والذي أغرى قيادة الحركة الإسلامية بالتمايز عن الخطاب الذي تبناه درويش هو كيل تل أبيب المديح لهذا الخطاب. فقد نظرت إسرائيل للتيار الذي يقوده درويش على أنه تيار برغماتي يشارك في الانتخابات الإسرائيلية، ويحافظ على تمثيل دائم في الكنيست منذ عام 1996 وحتى الآن، إلى جانب إعلانه التأييد غير المتحفظ للإتفاقيات التي توصلت إليها منظمة التحرير مع إسرائيل، وتنديده الواضح بالعمليات الاستشهادية التي تنفذها حركات المقاومة الفلسطينية داخل إسرائيل، وابتعاده عن تأييد الدعوات التي تصفها إسرائيل بـ " الإنعزالية " الصادرة عن بعض الحركات السياسية العلمانية التي تمثل قطاعات من فلسطيني 48. ولا يتردد الشيخ درويش في طمأنة الإسرائيليين بكل صورة ممكنة، حيث أنه حرص على تعريف نفسه خلال مشاركته في أحد البرامج الحوارية التي تبثها قنوات التلفزة الإسرائيلية بأنه " عربي إسرائيلي فلسطيني "، ثم عدل عن هذا التعريف ليعرف نفسه بأنه " مسلم فلسطيني إسرائيلي ". ولا يألوا كبار المسؤولين الإسرائيليين جهداً في التدليل على رضاهم عن الخط الذي يتبناه درويش وجناحه، حيث قام الرئيس الإسرائيلي شمعون بيرس وعدد كبير من كبار المسؤولين بزيارته في بيته، فضلاً عن أنه تتم استضافته بشكل دوري في ديوان الرئيس للمشاركة في حفلات الاستقبال التي ينظمها الرئيس لكبار زواره.
بواعث القلق الإسرائيلي من سلوك الحركة الإسلامية:
لقد رأت إسرائيل في الحركة الإسلامية خطراً استراتيجياً " عليها، ليس فقط بسبب مواقفها السياسية ومنطلقاتها الفكرية، بل وممارساتها العملية. ففي وثيقة قدمها مجلس الأمن القومي الإسرائيلي لحكومة أرئيل شارون في مارس 2004 جاء أنه " وفق كل المعايير، فإن الحركة الإسلامية بقيادة رائد صلاح تمثل خطراً إستراتيجياً على دولة إسرائيل ومستقبلها، وذلك لحرص الحركة الدؤوب على نزع الشرعية عن إسرائيل، وتماثلها مع أعداء الدولة ".
وسنعرض هنا لبواعث القلق الإسرائيلي من سلوك الحركة الإسلامية.
أولاً: تعزيز التوجهات الانفصالية لفلسطينيي 48
رصدت السلطات الإسرائيلية عدداً من التحركات التي تقوم بها الحركة الإسلامية والتي ترى المؤسسة الأمنية الإسرائيلية أنها تهدف إلى دفع الفلسطينيين للإنفصال عن الدولة ومؤسساتها.
فقد أبدت المؤسسة الإسرائيلية الحاكم حساسية شديدة إزاء أيدلوجية " المجتمع العصامي " التي أرساها الشيخ رائد صلاح والتي تدعو إلى إقامة مجتمع عصامي لديه القدرة على الإكتفاء ذاتياً على جميع الأصعدة والمستويات وذلك لكي يتمكن من مواجهة تبعات سياسة التمييز العنصري التي تمارسها إسرائيل ضد فلسطيني48. وقد نشطت الحركة الإسلامية في إقامة مؤسسات اجتماعية وتعليمية وثقافية وخيرية تعنى بملء الفراغ الناجم عن تقصير مؤسسات الدولة المتعمد في توفير الخدمات لفلسطينيي 48، الذين يعيش 58% منهم تحت خط الفقر وفق إحصاءات مؤسسة التأمين الوطني في إسرائيل. ويرى الكثير من الإسرائيليين أن الحركة الإسرائيلية تستغل حالة انعدام الثقة في مؤسسات الدولة لدى فلسطينيي 48 من أجل تكريس التوجهات الإنفصالية لديهم. لكن الإسرائيليين يتجاهلون حقيقة أن هناك ما يبرر موقف الفلسطينيين من المؤسسات الرسمية الإسرائيلية بسبب سياسة التمييز الممنهج المتبعة ضدهم من قبل جميع مؤسسات الدولة، حتى من تلك المؤسسات التي يفترض أن تكون ملاذ لفلسطينيي 48 الأخير. فحسب دراسة قامت بها الباحثة ببيت تورجمان، وصدرت عن كلية العلوم الاجتماعية في جامعة تل ابيب بتاريخ 27-7-2006 تبين أن القضاء الإسرائيلي يفتقر للنزاهة ويصدر أحكاماً مبنية على التمييز، خصوصا ضد العرب.
ويتهم صناع القرار قادة الحركة الإسلامية بالتخطيط المحكم لدفع الفلسطينيين نحو الانفصال من خلال توظيف المؤسسات التي يديرونها لتحقيق هذا الهدف.ويزعم آفي ديختر وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي والرئيس السابق لجهاز المخابرات الداخلية " الشاباك " أن النظام التعليمي الخاص الذي تديره الحركة الإسلامية يعمل على غرس الميول الانفصالية لدى الشبيبة الفلسطينية، من خلال تصويره الدولة كعدو.
ويرى الجنرال عاموس جلبوع الذي شغل في الماضي منصب رئيس قسم الأبحاث في شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية أن حرص الحركة الإسلامية على " أسلمة " المجتمع الفلسطيني يؤدي بشكل تلقائي إلى تكريس عوامل الإنفصال لدى فلسطينيي 48، على اعتبار أن تشرب الفلسطينيين قيم الإسلام يقود حتماً إلى موقف عدائي من الدولة، وبالتالي يولد رغبة جامحة للانفصال عنها.
وتقر النخب الحاكمة في تل أبيب أن الحركة الإسلامية في إسرائيل كان لها دور كبير وحاسم في إفشال محاولات إسرائيل المتتالية لـ " أسرلة " الوعي الجمعي لفلسطينيي 48، وصهينة أجندتهم السياسية والاجتماعية. فمنذ العام 1966، عندما اضطرت الحكومة الإسرائيلية الى إنهاء الحكم العسكري الذي كان مفروضاً على فلسطينيي 48، حاولت مؤسسة الحكم العبرية استخدام القوة الناعمة في تدجينهم ودفعهم نحو الأنصهار في الدولة، والقضاء على المركبات الإسلامية والعربية والفلسطينية التي تشكل هويتهم الوطنية. ومن أجل ذلك عمدت دولة الاحتلال، على تشجيع المثقفين من فلسطينيي 48 على الإندماج في الأحزاب الصهيونية القائمة، والتي حاولت اغراء هؤلاء الفلسطينيين بالانضمام اليها بزعم أن هذه هي الوسيلة المثلى للقضاء على عدم المساواة التي تمارسها الدولة ومؤسساتها ضدهم. وبالفعل فقد وجدت جميع الأحزاب الإسرائيلية في فلسطينيي 48 احتياطياً انتخابياً لها، فكان معظم فلسطينيي 48 يصوتون لحزب العمل والأحزاب التي تقع على يساره، والتي كانت تخصص مقعد مضمون لممثل عن فلسطينيي 48. وقد شكل مشروع الأسرلة في بداية تطبيقه بعض النجاح، إذ أن نسبة من فلسطينيي 48 كانت تصوت حتى للأحزاب اليمينية مثل الليكود والمفدال وشاس. وإستطاعت مؤسسة الحكم ايجاد نخبة سياسية داخل فلسطينيي 48 تتعاطى مع مشروع الأسرلة وعملت على تسويقه والدفاع عنه. ومن المعايير التي وضعتها المؤسسة الحاكمة في إسرائيل لقياس مدى نجاح مشروع الأسرلة كان حرصها على قطع وشائج التقارب بين فلسطينيي 48 واخوانهم في الضفة الغربية وقطاع غزة، وأتبعت وسائل عدة من اجل تحقيق ذلك. من ناحية ثانية، عملت الدولة على التعامل مع فلسطينيي 48 وفق شعار " فرق تسد "، وتجاهل الرابط القومي والوطني الذي يجمع هؤلاء، حيث عمدت الى ايجاد مؤسسات تتعامل مع المسلمين فقط، وأخرى من البدو، مع العلم أنهم مسلمون، ومؤسسات تتعامل مع المسيحيين، واخرى مع الدروز والشركس.
ولقد تبين لمؤسسة الحكم في إسرائيل أن مشروع الأسرلة لم يفشل فقط في تحقيق أهدافه، بل أنه دفع فلسطينيي 48 عملياً إلى تبني أجندة متحدية للدولة ومؤسساتها.
ويجزم موشيه شاحل الذي شغل في السابق منصبي وزير الأمن الداخلي والقضاء أن أحد أهم مظاهر فشل الأسرلة هو بروز الحركة الاسلامية، معتبراً أن مجرد انطلاق هذه الحركة واتساعها وتمثيلها لقطاعات كبيرة جداً من فلسطينيي 48 يشكل دليلاً قوياً على فشل مشروع الأسرلة. ويشير إلى أن هذا لا يرجع فقط للأجندة التي تتبناها الحركة، بل لأنها طرحت مشروع " الأسلمة " البديل.
ويرى كثير من الباحثين الإسرائيليين أن مواظبة الحركة الإسلامية برئاسة رائد صلاح على رفض المشاركة في الانتخابات التشريعية الإسرائيلية على الرغم من أن أعضاءها يتمتعون بحق المشاركة في هذه الانتخابات يأتي ضمن مشروع تعزيز الأسلمة والقضاء على الأسرلة. ويرى يوسي بن أهارون الذي شغل منصب مدير عام مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق اسحاق شامير أن اهتمام الحركة الإسلامية بالانتخابات المحلية يمثل صورة من صور "التوجهات الانفصالية" التي تحكم عمل الحركة الإسلامية.
والذي يثير مخاوف صناع القرار في تل أبيب من تداعيات " التوجهات الإنفصالية " للحركة الإسلامية هو حقيقة تعاظم قوة الحركة في منطقتي المثلث والجليل التي يتفوق فيها الفلسطينيون على اليهود من ناحية ديموغرافية الأمر الذي يجعل بواعث الإنفصال أكثر خطورة.
لكن المثال الأبرز الذي تسوقه النخب اليهودية المثقفة للتدليل على عمق نجاح الحركة الإسلامية في تعميق التوجهات الانفصالية لدى فلسطيني 48 هو نجاحها في إقناع معظم الشباب البدو الذين يقطنون في صحراء النقب بالتوقف عن التجند في صفوف الجيش الإسرائيلي. فقد تمكنت السلطات الإسرائيلية من إقناع الكثيرين من الشباب البدوي بالخدمة العسكرية، حيث تطوع الشباب البدو في العمل كقصاصي أثر، حيث لعبوا دوراً كبيراً في تعقب آثار المقاومين الفلسطينيين الذين يتسللون إلى إسرائيل لتنفيذ عمليات مقاومة، وبعد ذلك انتقال بعض الشباب البدوي للخدمة في الوحدات القتالية التي تقوم بالدور الأكبر في قمع أخوانهم الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة. وبعد أن كان معدل الشباب البدوي الذي يتجند للخدمة العسكرية 3600 شاب في العام مطلع الثمانينات من القرن الماضي انخفض ليصل 390 شاب عام 2006. وتنقل صحيفة " يديعوت أحرنوت " عن شعبة القوى البشرية في الجيش الإسرائيلي اتهامها المباشر للحركة الإسلامية بأنها هي التي تقف وراء حملات التحريض في التجمعات السكانية البدوية لحث الشباب على عدم التطوع للخدمة في الجيش، حيث يدعي الجيش أن الحركة الإسلامية تمارس ضغوطاً على عائلات الشباب البدو لمنعهم من الخدمة. ويقر وزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق موشيه أرنس بأن سياسة التمييز التي تمارسها السلطات الإسرائيلية ضد فلسطينيي 48 هي التي مهدت لتأثير الحركة الإسلامية الطاغي على البدو. ويضيف " يسقط الشباب البدوي تحت تأثير الحركة الإسلامية نتيجة المرارة والاحباط، فبعد استكمال خدمتهم العسكرية يجد هؤلاء الشبان صعوبة في العثور على فرص عمل، الامر الذي يغذي الاحساس بالاهمال بل وبالتمييز العنصري، ويوفر الأرضية الخصبة للحركة الاسلامية لايجاد طريقها نحو هذا الوسط الذي ابتعد طوال سنوات طويلة عن هؤلاء المتطرفين الإسلاميين ".
ولا يثير حفيظة صناع القرار في إسرائيل على الحركة الإسلامية هو فقط نجاحها في دفع الشباب البدوي لعدم التطوع في الجيش، بل لأن التجمعات السكانية البدوية أصبحت معاقل قوية للحركة الإسلامية، وهو ما يعد دليلاً آخر على تهاوي الأسرلة. وبعد أن كان الشباب البدوي رصيد بشري للجيش الإسرائيلي أصبحوا جزءً من النواة الصلبة للحركة الإسلامية، وهو ما دفع مؤسسات الدولة للشروع في حملة لتقليص عدد الولادات في لدى النساء البدويات. وقد اعترف الجنرال غيورا آيلاند رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي الأسبق أنه شكل طاقم من الباحثين لدراسة سبل خفض الولادات في الوسط البدوي على اعتبار أن " البدويات يلدن أكثر مما ينبغي "، محذراً من أنه في حال بقيت وتيرة الولادة على حالها، فان عدد السكان البدو سيتضاعف في غضون 15 سنة..
ثانياً: المس بأمن الدولة
وترى السلطات الإسرائيلية في الحركة الإسلامية خطراً على الأمن الإسرائيلي. ويدعي جهاز " الشاباك " أن الكثير من حركات المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة استعانت بعناصر من الحركة الإسلامية في تنفيذ عملياتها في العمق الإسرائيلي، رغم عجز المؤسسة الأمنية الإسرائيلية عن اثبات توجه الحركة نحو عسكرة نضالها ضد إسرائيل.
وتعزو المؤسسة الأمنية الإسرائيلية ارتفاع عدد فلسطينيي 48 الذين ينضمون للجهد المقاوم الفلسطيني على نحو عام إلى الأفكار والفتاوى، والخطب في المساجد ومقالات التحريض التي التي تصدر عن شخصيات إسلامية في الضفة الغربية وقطاع غزة وفي الدول العربية، معروفة بعلاقاتها الوثيقة بالحركة الإسلامية. ويؤكد تقرير صادر عن جهاز " الشاباك " أن معظم فلسطينيي 48 الذين ثبت تورطهم بالمشاركة في تنفيذ عمليات عسكرية ضد إسرائيل أو أدينوا بتقديم مساعدات لمنفذي العمليات الذين يفدون من الضفة الغربية وقطاع غزة هم من أنصار الحركة الإسلامية. وقد شملت العمليات التي تورط فيها أنصار الحركة الإسلامية مهاجمة قاعدة " جلعاد " العسكرية عام 1992 وقتل أربعة من الجنود، فضلاً عن طعن متنزهين يهود حتى الموت في الغابة التي تقع في محيط مستوطنة " مجيدو "، شمال إسرائيل عام 1999، فضلاً عن تنفيذ عملية استشهادية نفذها أحد أنصار الحركة في مدينة نتانيا عام 2003. لكن مما لا شك فإن على الرغم من أن السلطات الإسرائيلية تدرك تماماً انتماء الكثير من المتورطين في العمليات ضد إسرائيل للحركة الإسلامية إلا أنها فشلت في تقديم أي دليل على أن الحركة الإسلامية على علاقة بمثل هذه العمليات.
وتدعي المؤسسة الأمنية الإسرائيلية أن هناك مستوى كبير من التنسيق والتكامل وتبادل الأدوار بين الحركة الإسلامية داخل إسرائيل وحركة حماس. وزعم جهاز " الشاباك " أن المؤسسات الخيرية والإجتماعية التي تشرف عليها الحركة الإسلامية تسهم إلى حد كبير في إيجاد بيئة إجتماعية في الضفة الغربية وقطاع غزة لدعم العمل المقاوم من خلال تبنيها برامج كفالة الأيتام وأبناء الشهداء والأسر الفقيرة، معتمدة في ذلك على التبرعات التي يقدمها الموسرون من فلسطينيي 48. وعلى الرغم من أن الحركة تمارس هذه الأنشطة بشكل علني ووفق القانون الإسرائيلي، إلا أن المؤسسة الأمنية الإسرائيلية لم تتردد في إغلاق الجمعيات الخيرية التابعة للحركة وشنت حملات اعتقالات في صفوف قادتها وكوادرها، بزعم أن هذه الأنشطة تعزز " الإرهاب ". ويزعم وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي السابق آفي ديختر أن الحركة الإسلامية توظف عملها الخيري لخدمة " الجهد الإرهابي " لحركة حماس، معتبراً أن عمل الجمعيات الخيرية التي تشرف عليها الحركة بأنه " مكمل " لعمل للأذرع العسكرية لحركات المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، على اعتبار أن الفلسطيني الذي يدرك أن هناك من سيهتم بعائلته في حال قتل أو أعتقل بسبب نشاطه " الإرهابي " فإنه لن يتردد في مواصلة هذا النشاط..
وتعتبر المؤسسة الأمنية الإسرائيلية أن حمل الحركة الإسلامية راية الدفاع عن المقدسات الإسلامية في القدس وتحديداً إشرافها على حملة " الأقصى في خطر " التي تبلغ ذروتها كل عام بتنظيم مهرجان سنوي، أحد أخطر مصادر التحريض غير المباشر على " الإرهاب ". ويقول شاؤول موفاز الذي شغل منصبي رئيس هيئة أركان الجيش ووزير الدفاع في حكومة أرئيل شارون أن اتهامات الشيخ رائد صلاح لإسرائيل بالتخطيط لتدمير المسجد الأقصى تمثل تحريضاً على المس بأمن الدولة، محذراً من أن الحملات التحريضية التي تنظمها الحركة الإسلامية من شأنها أن تدفع ليس فقط الفلسطينيين، بل الكثير من الشباب العربي والمسلم للإنضمام إلى دائرة العداء لإسرائيل.
وترى السلطات الإسرائيلية أن الذي يفاقم خطورة التحريض الصادر عن قادة الحركة الإسلامية وكوادرها هو حقيقة سيطرة الحركة على معظم المساجد التي يؤمها فلسطينيو 48. فعدد المساجد التي تديرها نشطاء الحركة الإسلامية يفوق عدد المساجد التي تمولها وزارة الأديان الإسرائيلية، في نفس الوقت فإن 41% من أئمة المساجد يتلقون رواتبهم من الحركة الإسلامية. وخلال الخمسة عشر سنة الاخيرة تضاعف عدد المساجد في اسرائيل اربعة اضعاف ونصف، من 80 مسجد في العام 1988 الى 363 مسجد في العام 2003، حيث يعزى الارتفاع الحاد إلى ظهور الحركة الاسلامية.
ومن مظاهر التهديد الأمني الذي تمثلها الحركة الإسلامية كما تدعي السلطات الإسرائيلية هو علاقة الحركة بإيران. فقد شن جهاز " الشاباك " عام 2003 حملة اعتقالات ضد قادة الحركة الإسلامية وعلى رأسهم الشيخ رائد صلاح بدعوة إقامة اتصالات مع المخابرات الإيرانية. لكن كما بات واضحاً فإنه بعد عامين من الاعتقال تبين أن الاتهامات التي وجهت لرائد صلاح ورفاقه تفتقر الاستناد إلى أدلة دامغة لدرجة أن لائحة الإتهام التي قدمت ضد قادة الحركة قد خلت من معظم الاتهامات التي وجهت للحركة عند انطلاق الحملة ضدها. لكن رغم ذلك، فإن الحملة الإعلامية المنفلتة قد أثرت بشكل كبير على اتجاهات الأغلبية اليهودية نحو فلسطينيي 48. فحسب دراسة أجراها البرفسور سامي سموحا من جامعة حيفا تبين أن 68% من الجمهور اليهودي يخشون من امكانية أن يشرع فلسطينيي 48 بتمرد شعبي و 63% قالوا أنهم يمتنعون عن الدخول الى القرى والمدن العربية في اسرائيل.
ويرى الباحث الإسرائيلي بن دورون يميني أن قيادة الحركة الإسلامية المظاهرات المؤيدة لحزب الله خلال حرب لبنان الثانية تحمل رسالة تضامن مع أعداء
إسرائيل رغم أنه يدور الحديث عن مظاهرات مشروعة من ناحية قانونية.
ثالثاً: اعاقة التوصل لتسوية تضمن مصالح إسرائيل
ترى المحافل الإسرائيلية الرسمية أن تبني الحركة الاسلامية لقضية المسجد الأقصى وإطلاع زعيمها رائد صلاح بالجهد الأكبر في الحملة ضد المشروعات الإسرائيلية الهادفة لتهويده يسهم إلى حد كبير في دفع الرأي العام العربي والفلسطيني على وجه الخصوص لتبني مواقف " متطرفة " من الصراع، وبالتالي احباط جهود إسرائيل في إملاء التسويات التي تخدم مصالحها. وقد عبر ذلك بشكل واضح المستشرق الإسرائيلي لئيف أُرغاد عندما قال أنه حتى لو كانت الدول العربية صادقة وجدية في طموحها الى انهاء النزاع العربي الاسرائيلي، فإن مواقف وجهود الحركة الإسلامية في إسرائيل تجعل هذا الأمر بالغ الصعوبة، حيث أن هذه الحركة تفرض على الرأي العام العربي أجندة " بالغة الخطورة، مع تركيزها على التصدي للحملات التهويد التي تستهدف الأقصى ".
آليات التحرك الإسرائيلية ضد الحركة الإسلامية
في محاولتها مواجهة ما تعتبره " الخطر الكبير " الذي ينطوي عليه نشاط الحركة الإسلامية، حرصت السلطات الإسرائيلية على اتباع الخطوات التالية:
أولاً وثانيا: الوسائل الأمنية
تعكف الأجهزة الأمنية الإسرائيلية بين الحين والآخر على مداهمة مؤسسات الحركة الإسلامية على أمل أن تعثر على مواد تشكل دليلاً على تجاوز الحركة القانون الإسرائيلي، وتحديداً رغبة المؤسسة الأمنية الجامحة في الاستناد إلى قرائن تربط بشكل قوي بين الحركة الإسلامية والجهات التي تعتبر حسب القانون الإسرائيلي معادية مثل حركة حماس وحزب الله وإيران. ويعتبر آفي ديختر رئيس جهاز " الشاباك " السابق أنه على الرغم من أنه لا يوجد أدنى شك حول علاقة الحركة الإسلامية بالجهات " المعادية " إلا أن الأجهزة الأمنية الإسرائيلية فشلت في تقديم قرائن دامغة تصلح لإدانة الحركة أمام المحاكم الإسرائيلية، مشيراً إلى أن المؤسسة الأمنية حرصت على تكثيف العمل الاستخباري ضد الحركة وذلك من أجل الحصول على معلومات تؤدي الى بلورة هذه القرائن.
لم يمنع عدم توفر الأدلة الدامغة لدى السلطات الإسرائيلية من التحرك ضد الحركة الإسلامية، حيث أن هذه السلطات استعانت بالصلاحيات المخولة لوزير الداخلية والتي لا يجوز تقديم اعتراضات ضدها أمام محاكم الصلح أو المحاكم اللوائية من أجل شن حملات الاعتقال والتضييق على الحركة وقادتها، واستهداف مؤسساتها. فوفق هذه الصلاحيات هذه قام وزير الداخلية بإغلاق صحيفة " صوت الحق والحرية " الناطقة بلسان الحركة عام 2002 لعامين بحجة نشر مواد تحريضية. في نفس الوقت قام وزير الداخلية بإصدار مراسيم حظر بموجبها على بعض قادة الحركة، وعلى رأسهم الشيخ رائد صلاح مغادرة إسرائيل لفترات محددة بحجة أن الحظر يتعلق بأمن الدولة.
ثالثاً: دراسة إخراح الحركة عن القانون
يدور داخل المؤسسة الحاكمة وفي أوساط النخب الإسرائيلية جدل عميق حول جدوى نزع الشرعية القانونية عن عمل الحركة الإسلامية عبر تمرير مشروع قانون في الكنيست تعتبر بموجبه الحركة الإسلامية حركة غير قانونية يحظر نشاطها بحكم القانون. وهناك خلاف عميق داخل المستوى السياسي والمؤسسة الأمنية والنخب المثقفة حول هذه الفكرة. فبعض الساسة وكبار الجنرالات والباحثين والصحافيين يرون أن الخطوة الأولى التي يتوجب اتخاذها من أجل مواجهة الحركة الإسلامية بنجاعة تتمثل في إخراجها عن إطار القانون، ومنعها من المشاركة في الانتخابات المحلية. أحد المتحمسين لإخراج الحركة الإسلامية عن إطار القانون هو الجنرال المتقاعد ايهود ياتوم، الذي شغل في السابق منصب رئيس قسم العمليات في جهاز " الشاباك " الذي يستهجن أن تطالب إسرائيل بإخراج الحركات الإسلامية في البلدان العربية بحجة أنها تقدم الدعم للمقاومة الفلسطينية في الوقت الذي تغض فيه تل أبيب الطرف عن وجود الحركة الإسلامية التي تقدم الدعم لحركة حماس التي تعتبر أكثر أعداء إسرائيل وحشية، مشدداً على الخطر الهائل الذي يكمن في عمل الحركة الاسلامية.أما وزير الأمن الداخلي السابق، عوزي لنداو، والذي يشغل حالياً منصب، فقال ان "اخراج الحركة الاسلامية عن القانون هو جزء لا يتجزأ من الحرب ضد الارهاب"، معتبراً أنه كان يجدر بإسرائيل استغلال الأجواء التي سادت في أعقاب تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر من أجل إخراج الحركة الإسلامية عن ناطق القانون. ومن الأهمية بمكان الإشارة هنا إلى بإخراج الحركة الإسلامية عن إطار القانون تأتي في إطار تعاظم التوجهات الشعبية اليهودية المطالبة بنزع الشرعية عن مشاركة فلسطينيي 48 بشكل عام في الانتخابات التشريعية. فحسب استطلاع للرأي العام تبين أن 40% من اليهود يطالبون بنزع حق الانتخاب عن فلسطينيي 48. ومن أجل تسويغ تحمسه لفكرة إخراج الحركة الإسلامية عن إطار القانون يقول الجنرال عاموس غلبوع " تعاظم شأن الحركة الإسلامية يعبر عن رغبة فلسطيني 48 في مواجهة الدولة ومؤسساتها ولا يعبر بحال من الأحول عن إرادة في الإندماج في المجتمع ومؤسسات الدولة، ويجب على الدولة ومؤسساتها المختلفة مواجهة التحدي الذي تمثله هذه الحركة بكل الوسائل المتاحة لديها، فمن حق النظم الديموقراطية الدفاع عن نفسها ".
لكن في المقابل هناك من يرى أن إخراج الحركة الإسلامية عن إطار القانون سيعود كسهم مرتد إلى عنق إسرائيل ذاتها. ويشارك في هذا له الرأي أوساط عسكرية وسياسية. فقد كشفت الإذاعة الإسرائيلية باللغة العبرية النقاب عن أنه خلال مداولات سرية أجراها رئيس الوزراء الإسرائيلي أرئيل شارون في مارس 2004 حول مسألة إخراج الحركة الإسلامية عن إطار القانون اعترض قادة شعبة الاستخبارات العسكرية وبعض قادة " الشاباك " على هذه الفكرة على اعتبار أن مثل هذا الإجراء سيدفع الحركة الإسلامية للعمل السري بشكل يجعل من الصعب على مؤسسات الدولة متابعتها، إلى جانب أن مثل هذه الخطوة ستؤدي إلى تعاظم شعبيتها في أوساط فلسطينيي 48، وقد يدفع الحركة للانتقال للعمل العنيف ضد أهداف الدولة.
رابعاً: تبادل الأراضي
يدعو حزب " إسرائيل بيتنا " المتطرف الذي يقوده وزير الخارجية الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان إلى تبادل الأراضي بين إسرائيل والكيان الفلسطيني الذي من المفترض أن يتشكل بعد التوصل لتسوية سياسية للصراع مع الفلسطينيين. وحسب هذا الأقتراح الذي ورد في البرنامج السياسي والإنتخابي للحزب عشية الانتخابات الأخيرة تقوم إسرائيل بالتنازل عن السيادة على منطقة المثلث التي تتواجد فيها معظم التجمعات السكانية الخاصة بفلسطينيي 48 وتحول السيطرة عليها للكيان الفلسطيني، في حين يوافق الكيان الفلسطيني على ضم التجمعات الاستيطانية في الضفة الغربية لإسرائيل. ويعترف ليبرمان أن تحمسه لـ " تخليص " إسرائيل من منطقة المثلث لأنها تضم أكبر تجمع لمناصري الحركة الإسلامية.
خامساً: محاولة تدجين الحركة
وإلى جانب العصا التي تلوح بها إسرائيل في وجه الحركة فقد تبين أنها حاولت إغراء قادة الحركة بالتوصل لتفاهمات سياسية معهم تلتزم فيه بالتحول عن الأجندة السياسية التي تعكف عليها حالياً سيما فيما يتعلق بتركيزها على قضية القدس والمسجد الأقصى. وقد أبلغ توفيق العرعير رئيس تحرير صحيفة " صوت الحق والحرية "، الناطقة بلسان الحركة كاتب هذه السطور بأن المؤسسة الأمنية أرسلت له المستشرق الإسرائيلي مردخاي كيدار المحاضر في جامعة بار إيلان والمعروف بعلاقاته العميقة مع المؤسسة الأمنية في يناير 2002 لمقر الصحيفة حيث طلب كيدار من العرعير فكرة التوصل لمثل هذا الإتفاق وحذره من أن رفض هذا الاقتراح ومواصلة برنامجها الحالي سيكون مقترن بردة فعل قاسية من قبل السلطات. وأكد العرعير بأنه في أعقاب رفض الحركة مجرد تداول الإقتراح تم اغلاق الصحيفة لمدة عامين بعد شهر على زيارة كيدار.
مسؤولية إسرائيل عن تدهور العلاقات مع الحركة الإسلامية
تحاول النخب الحاكمة في إسرائيل شيطنة الحركة الإسلامية من خلال محاولة لصق الكثير من التهم بها للتغطية على موقفها العدائي من فلسطينيي 48 بشكل عام على خلفية عنصرية كونهم يشكلون أقلية وطنية، يخشى صناع القرار في تل أبيب أن تنمو لتهدد الطابع اليهودي للدولة. وترفض السلطات الإسرائيلية مناقشة المسوغات التي تسوقها الحركة الإسلامية وبقية الحركات والأحزاب التي تمثل فلسطيني 48 للإحتجاج على سلوك الدولة تجاههم. فإسرائيل تصور سعي الحركة الإسلامية لتحقيق اكتفاء ذاتي لفلسطينيي 48 عبر إقامة المؤسسات الاجتماعية والتعليمية والإغاثية بأنه دليل على التطلعات الانفصالية للحركة، وكان الأجدر بصناع القرار في تل أبيب أن يعملوا على وقف سياسة التمييز العنصري في تقديم الخدمات لفلسطينيي 48، فقد تخلت إسرائيل عن دورها كدولة في تقديم الخدمات لفلسطينيي 48 الذين تعتبرهم الدولة من ناحية دعائية جزءً لا يتجزأ من مواطنيها. اللافت أنه لا خلاف حتى بين أقطاب اليمين في إسرائيل على أن الدولة تقدم خدماتها للسكان بناءً على الانتماء الديني. فحسب معطيات جمعية " سيكوي "، وهي جمعية إسرائيلية تعنى بتشجيع التعايش بين اليهود وفلسطينيي 48 فإن الحكومة تنقق بالمتوسط السنوي 379 شيكل ( 87 دولار ) على كل يهودي، مقابل 246 شيكل ( 60 دولار ) على مواطن من فلسطينيي 48. وقد توصلت لجنة " أور " التي حققت في الهبة الشعبية التي قام بها فلسطينيو 48 في مطلع العام 2000 احتجاجاً على تدنيس المسجد الأقصى من قبل زعيم المعارضة الإسرائيلية في ذلك الوقت أرئيل شارون، وهي الهبة التي قتل فيها 13 شاباً من فلسطينيي 48، إلى استنتاج مفاده أن السبب الحقيقي وراء اندلاع هذه الأحداث هو التدهور العميق والمتواصل في مكانة فلسطينيي 48 وغياب مساواة حقيقية بينهم وبين اليهود، حيث اتهمت اللجنة بشكل صريح كل الحكومات الإسرائيلية بالتقصير في معالجة المشاكل التي يعاني منها فلسطينيو 48. ويحمل المفكر الإسرائيلي الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة المسؤولية عن فقدان فلسطينيي 48 الثقة بمؤسسات الدولة، منوهاً إلى أنه تبلورت في أوساط فلسطينيي 48 حالة من العدمية المدنية، حيث فقدوا ثقتهم بالدولة كإطار يحرص على رفاه مواطنيه.
وإذا كانت رانية جبران، الدبلوماسية في وزارة الخارجية الإسرائيلية، و ابنة سليم جبران الذي يشغل منصب قاضي في المحكمة الاسرائيلية العليا، تجبر على التفتيش المهين من قبل دوائر الأمن الإسرائيلية لمجرد أنها عربية، عندما تنتقل من بلد الى آخر في عملها المهني خدمة لإسرائيل، بينما لا يتم تفتيش اليهود المدانين بالجرائم الكبيرة، فأن هذا يدلل على أن هناك ما يبرر افتقاد فلسطينيي 48 الثقة بمؤسسسات الدولة، فهي تسئ التعامل مع فلسطينيي 48 الذين يقدمون لها الخدمات.
في نفس الوقت لا يمكن من ناحية منطقية اعتبار تبني الحركة الإسلامية أجندة الدفاع عن المسجد الأقصى، ولا يمكن تجريم خطها الدعائي في هذا المجال في الوقت الذي تعبر فيه حتى المؤسسات الأمنية الإسرائيلية عن خشيتها من أن يقوم نشطاء اليمين المتطرف في إسرائيل باستهداف المسجد الأقصى. وكان الأولى بالسلطات الإسرائيلية أن تتصدى للجهات الإسرائيلية التي تصب الزيت على النار بدعواتها المتكررة لتدمير المسجد الأقصى جهاراً نهاراً، مع العلم أن الذين يدعون لتدمير المسجد الأقصى أصبح لهم ممثلاً في الكنيست هو عضو الكنيست الحاخام سيمون بن آرييه الذي يمثل حزب الإتحاد الوطني اليميني، وهو يكرر دعوته في تصريحاته لوسائل الإعلام، ولم يعترض عليه أحد، بل أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين يحاول خطب ود حزبه من أجل إقناعه بالإنضمام للحكومة لتوسيع دائرة التأييد لها في البرلمان.
وليس من الإنصاف اتهام الحركة الإسلامية بمحاولة المس بأمن الدولة في الوقت الذي فشلت المؤسسة الأمنية في تقديم دليل قانوني يربط الحركة بأي عمل عسكرى واحد استهدف مؤسساتها. وإذا كانت السلطات تأخذ على قادة الحركة الإسلامية تحريضهم على إسرائيل، فلماذا لا تحرك هذه السلطات ساكناً ضد الحاخامات والمرجعيات الدينية اليهودية التي تواصل إصدار الفتاوى العنصرية التي تدعو لذبح العرب، والكثير من هذه المرجعيات هم حاخامات يتلقون رواتبهم من الدولة، مثل الحاخام مردخاي إلياهو الذي أفتى بجواز قتل حتى شيوخ الفلسطينيين ونسائهم وأطفالهم وبهائمهم.وليس بوسع السلطات من ناحية قانونية تجريم تعاطف الحركة الإسلامية مع الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة واعتبار ذلك مؤشراً على توجهات الحركة الانفصالية، فإسرائيل التي تتبنى قضايا اليهود في شتى بقاع العالم لا يحق لها الاعتراض على مظاهر التكافل الاجتماعي بين فلسطينيي 48 والفلسطينيين الذين يعيشون في الضفة الغربية وقطاع غزة.
خلاصة
قصارى القول، أن الحملة التي تشنها إسرائيل على الحركة الإسلامية، أنما تأتي تعبيراً عن خيبة أمل المؤسسة الحاكمة في الدولة العبرية لفشل مشروع " الأسرلة "، والذي حمل منذ البداية بذور فشله. أن إسرائيل تقوم بتضخيم دور الحركة الإسلامية في إفشال مشروع " أسرلة " فلسطينيي 48، مع أنه كان من الطبيعي أن يفشل هذا المشروع، لأنه كان يحمل في طياته العديد من التناقضات البنيوية التي جعلت فرص نجاحه تؤول إلى الصفر. ولقد أخطأت القيادة اليهودية منذ البداية عندما اعتقدت أنه بالإمكان تدجين مجموعة قومية، وأسرلتها ودفعها نحو التخلي عن مركبات هويتها الوطنية والدينية والحضارية، لمجرد اغرائها بمكتسبات وهمية.
لكن إسرائيل بدلاً من محاولة إرساء إعادة تقييم علاقتها مع الأقلية العربية فيها، وضمنها المنتمين للحركة الإسلامية إثر فشل مشروع الأسرلة، فإنها تتبع في مواجهة هذا الفشل سياسة " الهروب للأمام " عبر تكثيف تصعيدها ضد القيادات السياسية لفلسطينيي 48، في مؤشر واضح على العودة الى أسلوب " القوة الخشنة " لتحجيم فلسطينيي 48، وهذا ينذر بخروج الأمور عن نطاق السيطرة.
أن مبعث الاحباط لدى الأوساط الإسرائيلية الحاكمة مرده إدراكها أن الحركة الإسلامية قد تجاوزت الطور النخبوي وتمكنت من تعميق تفاعلها الجماهيري، فضلاً عن إدراك الكثير من النخب في إسرائيل أن حملات المطاردة والملاحقة التي تقوم بها إسرائيل ضد الحركة الإسلامية ستؤدي في الأغلب إلى نتائج عكسية.