
*تستمر ظاهرة زواج الأقارب في العراق رغم ما يرافقها من مخاطر صحية على الأبناء، وانتشار الكثير من الحالات لأطفال يحملون أمراضا وراثية أو إعاقات خطيرة، بسبب التزام الكثير من العائلات والعشائر بعادات اجتماعية تفرض هذا النوع من الزواج، مهما كانت نتائجه.
بغداد - يعد العراق من الدول ذات النسب المرتفعة بزواج الأقارب، بسبب التقاليد والأعراف السائدة فيه، والتي تشمل الحضر والريف على حد سواء ورغم تزايد حالات الولادات المشوهة والإعاقة والتحذيرات التي تطلق من المتخصصين، إلا أن هذا الزواج لم يتوقف.
وتقول سجى، سيدة عراقية، “لدينا في العائلة عرف ثابت بعدم الزواج من خارج العائلة حتى أصبح الجميع يشبهون بعضهم مما جعل مستوى تعليمهم وذكاء أطفالهم أقل والكثير منهم يعاني من فقر الدم وما يسمى بالفوال وهو نقص في أحد الأنزيمات يؤدي إلى فقر دم انحلالي.”
وتثبت الدراسات العالمية ما تتحدث عنه سجى بشأن مستوى الذكاء المنخفض للأطفال المولودين في عائلات معتادة على زواج الأقارب، فقد وجد باحثون في بريطانيا أن الأشخاص يكونون أكثر طولا وذكاء وتحصيلا علميا كلما كان الأبوان أكثر بعدا من ناحية القرابة، وذلك بعد واحد من أكبر الأبحاث في مجال التنوع الجيني شمل 110 دراسات جينية ضمّت أكثر من 350 ألف شخص من أربع قارات، وكانت النتيجة أن الأطفال المولودين نتيجة زواج أولاد عم من الدرجة الأولى أقصر بـ1.2 سم، وأقل بالمستوى التعليمي مقارنة مع الذين ولدوا من أزواج لا تربطهم علاقات قرابة، وخلصت هذه الدراسة إلى أن ارتفاع مستوى الذكاء من جيل إلى جيل، والذي تم توثيقه في القرن العشرين، يعود إلى تطوّر وسائل التعليم وطبيعة التغذية بشكل أساسي ولكن التنوع الجيني لعب دورا في ذلك أيضا.
وعلى الرغم من نصائح الأطباء، لم يتوقف أحمد عن إنجاب الأطفال. تؤكد زوجته منيرة أن الأطباء نصحوها منذ أن أنجبت الطفل الأول الذي يعاني من مشكلات صحية جعلته من ذوي الاحتياجات الخاصة بالكف عن الإنجاب، لكن الرغبة في إنجاب طفل معافى جعلها تكرر المحاولة بعد الأخرى، لكن ذلك أنتج على الدوام أطفالا معاقين.
انتشار ظاهرة زواج الأقارب رغم المخاطر الصحية يعود إلى رغبة الأسر والعشائر في التماسك والتقارب في ظل ظروف سيئة
وتشير إحصائيات صحية إلى أن زواج الأقارب في العراق سبب رئيسي في انتقال الأمراض الوراثية، مخلفا الكثير من حالات التخلف العقلي والإعاقة بين الأطفال. ورغم النتائج السلبية تلك إلا أن العادة الاجتماعية هذه ما زالت قائمة دون التنبه لخطورة تعرض الأجيال الحديثة إلى إعاقات دائمة.
وبلغت نسبة المعاقين في العراق الحد الذي يحتاج فيه الأمر إلى إجراءات ملموسة لتقليل نسب زواج الأقارب لاسيما في المناطق الريفية حيث تسود الأعراف والتقاليد الاجتماعية التي تشجع زواج الأقارب. وأحمد المتزوج من ابنة عمه هو واحد من بين الكثيرين الذين يعانون من نتائج زواج الأقارب حيث رزق بأطفال كلهم معاقون.
ويمكن الاقتراب من حجم الظاهرة من خلال شهادة حسين من كربلاء، الذي يقول إن نصف الزيجات في عائلته بين أبناء الأعمام من الدرجة الأولى أو الثانية. ويرجع حسين الظاهرة إلى رغبة الأسر والعشائر في التماسك والتقارب، في ظل ظروف أمنية سيئة وأزمات متكررة تؤجج العنف العشائري وحاجة الناس إلى بعضهم البعض.
وبحسب التجارب العلمية، فإن زواج الأقارب تنتج عنه أمراض متوارثة مما يحتم توعية الناس بمخاطر ذلك. ويقول الأطباء إن أغلب الناس يدركون مخاطر ذلك لكنهم لا يتصرفون بموجبه لأن العلاقات الاجتماعية والعشائرية تفرض هذا النوع من الزيجات.
ويسمح زواج الأقارب للصفات الوراثية السلبية والمتنحية أن تعبّر عن نفسها بسهولة أكبر، فإذا كان الزوج مثلا مصابا بفقر الدم المنجلي وابنة عمّه تحمل هذا المورّث فإن نصف أولادهما سيكونون مصابين بالمرض، والباقون سيكونون حاميلين له. أما إذا كان الطرفان حاملين للمرض دون الإصابة به فإن نصف الأولاد سيكونون حاملين للمرض وربعهم سيكونون مصابين به والباقون سيكونون خالين منه، وفقر الدم المنجلي من الأمراض التي قد تؤدي إلى حدوث مضاعفات خطيرة.
وتروي أم عصام الصعوبات والآلام التي تعتريها بسبب طفلها المصاب بالصرع، حيث تزوجت من ابن عمها بعد إعجاب متبادل. وتقول إنهما توقفا عن إنجاب الأطفال بعدما نصحت الفحوصات الطبية بالكف عن ذلك.
ومثل أم عصام هناك الكثير من زيجات الأقارب غير (الصحية)، لكن إنجاب الأطفال يستمر بين الأزواج على أمل إنجاب طفل معافى.
وتكشف إحصاءات العام 2011 عن ارتفاع نسبة الولادات المشوهة في العراق بشكل كبير ويرجع أسباب الكثير منها إلى زواج الأقارب.
ويشير الأطباء إلى أن المورثات المشتركة بين الأعمام والأخوال تبرز العيوب الخلقية المشتركة وتقويها مما ينتج عن ذلك أطفال غير أصحاء.
ويروي عصام السلطاني وهو وجه عشائري من المحمودية (15 كلم جنوب بغداد) كيف أن أغلب سكان هذه المناطق يفضلون للشاب زواجه من ابنة عمه، لتجنب دخول شخص غريب إلى حلقة العشيرة أو العائلة. ويقول هناك حاجة اقتصادية أيضا فابنة العم هي خادمة وعاملة وزوجة، وتلبي جميع الطلبات.
من جهتها ترجع الناشطة في شؤون المرأة كميلة حسن ازدياد زواج الأقارب إلى الرغبة في توطيد علاقات الأقارب مع بعضهم لكن على حساب صحة الفرد والمجتمع.
ويعد العراق من الدول التي ينتشر فيها زواج الأقارب، في حين تعد الدول العربية من أكثر الدول التي تروج بين شعوبها هذه الظاهرة.
وفرض إجراء تحاليل مختبرية قبل الزواج منذ أكثر من عقد، لكن هذا ما يطلب عند عقد القران الرسمي أي في المحاكم، إلا أن ظاهرة انتشار الزواج خارج المحكمة في تزايد، وخاصة خلال السنوات الماضية، ويكون تصديق الزواج بعد أشهر من الزواج الفعلي.
كما أن هناك أمراضا أخرى غير مشمولة بتحاليل ما قبل الزواج رغم أنها قابلة للانتقال من جيل إلى آخر، مثل السمنة والسكّري والتي تتواجد في دول الخليج بمعدلات عالية، وكذلك هناك دور للعوامل الوراثية في قابلية الإصابة ببعض حالات السرطان مما يضيف محاذير جديدة لزواج الأقارب.
وبينت الطبيبة المختصة بالأمراض النسائية والعقم رسل محمد العزاوي أن “زواج الأقارب ينتج الكثير من الأمراض، حيث يكون الضرر الأكبر للجينات التي تنتقل إلى الأطفال، ومن أبرز الأمراض هي الثلاسيميا والسكري وتشوهات القلب والفقرات والأعصاب وضمور الدماغ والسرطان، وغالبا ما يتوفى الطفل المصاب بأحد هذه الأمراض بعد ولادته.”
ضحايا
وتابعت أن “الفحوصات البروتوكولية التي تجرى عادة للرجل والمرأة قبل الزواج كتحديد زمر الدم، لا تكفي للتأكد من سلامة الجينات، فهذه الفحوصات لا تقدم صورة دقيقة عن مدى تطابق الأنسجة بين الجنسين، لذلك فمن الأفضل عمل فحوصات تبين نسبة توافق الكروسومات لإظهار الجينات والأمراض المتوطنة فيها، ومن ضمنها الأمراض الوراثية.”
ولفتت إلى أنه “يجب إجراء دراسة شاملة للأمراض الوراثية في كل جين، وهو ما يتطلب جهدا ووقتا، فضلا عن كون هكذا فحوصات مكلفة ماديا.”
وكانت دراسة نشرتها مجلة التلوث البيئي والسُمّي في العام 2012 أشارت إلى أن نسبة التشهوات الخَلقية في العراق ازدادت من 23 حالة من كل 1000 ولادة حية عام 2003 إلى 48 حالة عام 2009، وهي آخر إحصائية بهذا الشأن صدرت إلى غاية الآن.
وفي مدينة بابل (100 كم جنوب بغداد) يشير الطبيب علي الحلي إلى نصيحته لفتاة بعدم الزواج من ابن عمها لأن نتائج الفحص لا تشجع على الزواج، لكن الحب بينهما كان أقوى مما أسفر عن طفل مشوه خلقيا بسبب “خلل كرموزومي”. ومازال الكثير من العراقيين لا يولون اهتماما لتحليلات ما قبل الزواج لمعرفة ملاءمة الجينات والكروموزومات لبعضها بغية تجاوز التشوهات الخلقية.
ويفتقر العراق حاليا إلى أي حراك حكومي من قبيل الندوات وحملات التوعية بشأن تقليل زواج الأقارب، سواء عبر توجيهات رسمية أو تطوير الفحوصات الخاصة به، بينما تقول وزارة الصحة إن “هناك حملات توعية مستمرة لعلاج هذه المسألة، وتوجد فحوصات مختبرية يجريها المقبلون على الزواج”.
وخلال احتفالية نُظّمت في كنيسة القلب الأقدس وسط مدينة كركوك، بمناسبة اليوم العالمي لمرضى “الثلاسيميا”، حذّر مختصون في مجال الصحة من تفشي أمراض الدم الوراثية، وعلى رأسها “الثلاسيميا”، نتيجة استمرار ظاهرة زواج الأقارب في العراق ودول الشرق الأوسط.
وقال مدير عام صحة كركوك أرجان محمد رشيد لوكالة شفق نيوز إن “دائرة الصحة توفر الأدوية الخاصة بمرضى الثلاسيميا عبر مركز متخصص، وتُقدم خدمات متكاملة لجميع المراجعين.”
والثلاسيميا مرض وراثي خطير ينتج عن خلل جيني ينتقل من الأبوين إلى الأبناء، ويُعد زواج الأقارب من أبرز أسبابه.
وكانت كركوك قد شهدت في العام 2024 افتتاح أول مركز طبي متخصص لمعالجة اضطرابات الدم الوراثية، بدعم من منظمة فرنسية.
ويقع المركز داخل مستشفى الأطفال وسط المدينة، ويستقبل يوميا بين 30 و40 طفلا مصابا بالمرض، فيما يبلغ عدد المصابين في المحافظة نحو 1250 حالة.
وقال رئيس الكنيسة الكلدانية في كركوك يوسف توما إن “المركز تم افتتاحه بعد جهود استمرت منذ 2021، وتم إنجازه بفضل تبرعات من محسنين ودعم المنظمة الفرنسية.”
وأكد الناشط في جمعية “الثلاسيميا” بكركوك عباس فاضل أن “الاحتفالية جاءت بالتعاون مع الكنيسة الكلدانية والجمعية الخيرية بمناسبة اليوم العالمي للثلاسيميا.” وأشار إلى “وجود 385 مصابا بالمرض في كركوك، يعاني عدد كبير منهم من ارتفاع أسعار الأدوية أو اختفائها من الأسواق.”
وكشف فاضل عن وجود نحو 22 ألف مصاب بـ”الثلاسيميا” في العراق، مبينا أن “العديد من العائلات لا تملك القدرة المالية لتوفير الدم والأدوية.”
وأوضح رئيس نقابة الممرضين المختبريين في كركوك حيدر الكناني أن “الانتشار الواسع لأمراض الدم في العراق يعود إلى الحروب والتلوث البيئي، فضلا عن زواج الأقارب الذي يؤدي إلى انتقال الجينات الوراثية من الآباء إلى الأبناء ويؤدي إلى أمراض مزمنة.”
ولا تقل الآثار الاجتماعية لزواج الأقارب أهمية عن الآثار الصحية، فقد قال عالم الأنثروبولوجيا في جامعة هارفارد جوزيف هنريتش إن الغرب تقدّم وهيمن على العالم ليس بسبب جينات أبنائه أو لون بشرتهم ولا نتيجة الدين أو المذهب البروتستانتي بل نتيجة تجنّب زواج الأقارب.
وتابع أن الكنيسة الرومانية شنت حملة متواصلة منذ القرن السابع الميلادي لمحاربة زواج الأقارب القريبين والبعيدين ما أدّى إلى تغيير التنظيم الداخلي للمجتمعات الأوروبية وأنهى بنيتها القبلية، وقال الكاتب البريطاني جيمس كرابتري إن الأسرة الكبيرة أو العشيرة بعد أن كانت عماد المجتمعات الغربية أصبحت العائلة المصغّرة المكونة من الوالدين والأبناء هي الأساس وبدأ الناس يشكلون تجمعات حسب المصالح والمعتقدات المشتركة بدل القرابة مما أدى إلى ولادة المجتمعات الحديثة.
