أحدث الأخبار
السبت 23 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
المنشورات الإلكترونية تنشر رقاب الطغاة!!

بقلم : د.فيصل القاسم ... 03.04.2011

هذا المقال الذي بين أيديكم ليس جديداً، بل كتبته قبل سبع سنوات تقريباً للتعليق على مدى خطورة الشبكة العنكبوتية الإنترنت على الأنظمة العربية الحاكمة. وقد توقعت وقتها أن يتجاهل الحكام العرب في البداية المقاومة الإلكترونية، ثم يسخرون منها، ثم يتصدون لها، ثم تنتصر، تماماً كما قال غاندي عن العمل المقاوم بشكل عام. وها هي الأيام تثبت أن المقاومة الإلكترونية بدأت تنتصر فعلاً. والآن أترككم مع هذا المقال الذي كان استشرافياً ثم أصبح حقيقة.
اعتاد النشطاء السياسيون العرب في الماضي اللجوء إلى توزيع المنشورات السياسية بطريقة سرية جداً لإيصال أفكارهم ومشاريعهم وخططهم من بعضهم البعض وإلى الناس. وكانوا يمضون وقتا طويلا في نقل المنشورات من مكان إلى آخر تحت جنح الظلام كي لا تكشفهم كلاب المراقبة السياسية المتحكمة بالمسرح السياسي في معظم الدول العربية. لقد كان توزيع المنشورات السياسية والحزبية عملية بطولية بكل المقاييس. وكم سمعت بعض الحزبيين العرب يتحدث بكثير من الانتشاء والنشوة عن فتوحاته العظيمة المتمثلة بوضع منشور تحت أوراق شجرة أو تحت حجر كي يأتي زميله وينقله إلى مكان آخر بالتتابع حتى يصل في نهاية المطاف إلى بقية "المناضلين" أو الناس. لكن هذا النشاط السياسي والإعلامي كان جريمة لا تغتفر، فقد أمضى ممارسوه عشرات السنين وراء القضبان في غياهب السجون العربية الغراء. بيد أن الزمن الأول تحول.
كم أصبح سهلا ويسيرا العمل السياسي المعارض هذه الأيام، فهو أسهل من شرب الماء بفضل ثورة المعلومات والاتصالات. فقد حدثني أحد المعارضين العرب ذات مرة أن جماعته كانت تحتاج أحيانا إلى ستة أشهر لإيصال خبر ما إلى الناس. لكن الأمور بدأت تتيسر أكثر فأكثر عندما ظهر جهاز الفاكس، فأخذت بعض الجماعات تستخدمه لإرسال آلاف المنشورات من الخارج إلى الجماهير في بلد معين. وأثبت هذا التكتيك على بساطته نجاعة كبرى جعلت بعض الدول تتململ خوفا من تأثيره على المتلقين. لكن الخوف زاد أضعافا مضاعفة لدى بعض الأنظمة الحاكمة عند ظهور وسائل اتصال أسرع وأكثر تأثيرا. ولا أقصد الفضائيات أو الراديو هنا لأن تلك الوسيلتين محكومتان بقيود كثيرة كونهما تخضعان لقوانين وشروط البلدان التي تبثان منها. ما أقصده هو الإنترنت تحديدا التي وفرت لمستخدميها مساحة تحرك وحرية لم يحلموا بها من قبل. فقد حولت الإنترنت بفضل هُلاميتها مثلا كل إنسان إلى ناشر وموزع للمنشورات بعد أن كان مجرد حمل منشور سياسي ما جرما خطيرا.
ودعوني هنا أختلف تماما مع الذين يهزءون مما يسمونهم بمعارضي الإنترنت. فهؤلاء المعارضون أصبحوا يشكلون قوة لا يستهان بها وهم في تصاعد مستمر مع ازدياد عدد المشتركين في خدمة الشبكة الدولية. فرغم ارتفاع نفقات هذه الخدمة وصعوبة الحصول على جهاز كمبيوتر في بعض البلدان إلا أن جماعات المعارضة في الداخل والخارج بدأت تلتف على هذا الأمر بأن يساهم عدد من الأشخاص في حساب إنترنت واحد ومن ثم يتناوبون على استخدامه كل حسب دوره. يحدث هذا مثلا في بعض دول المغرب العربي.
صحيح أن بعض الدول العربية تأهبت منذ البداية لكبح جماح هذا القادم الجديد المسمى الإنترنت. فبعضها مثلا اشترى أجهزة متطورة جدا بملايين الدولارات لمراقبة وحجب مواقع الإنترنت التي تعتبرها معادية. وقد سمعت من أحدهم أن إحدى الدول العربية التسلطية دفعت أكثر من عشرين مليون دولار للحصول على تلك الأجهزة الكمبيوترية العملاقة بينما يتضور الآلاف من شعبها جوعا ولا يجدون ما يسترون به مؤخراتهم العارية. زد على ذلك أن بعض الدول العربية أصبح لديها أجهزة أمنية خاصة لمراقبة الإنترنت ومستخدميها. لكن كل هذه المحاولات الفاشلة لا تستطيع أن تقف في وجه هذا الطوفان الإعلامي الجديد مهما أنفقوا من ملايين، فمستخدمو الإنترنت يزدادون بالألوف حتى في العالم العربي الذي يعتبر أكثر بقاع الأرض تخلفا في استخدام الكمبيوتر والشبكة الدولية.
ولا ننسى أن هناك ملايين العرب المغتربين في أوروبا وأمريكا وبقية بقاع العالم، فنسبة هائلة من هؤلاء تمتلك الكمبيوتر ولديها اشتراكات في شبكة الإنترنت نظرا لانتشارها بشكل هائل، ففي أمريكا مثلا يدخل إلى الإنترنت أكثر من خمسة وسبعين بالمائة من السكان. ولا ننسى أيضا أن جماعات المعارضة العربية في الخارج بدأت تعتمد اعتمادا كبيرا على الإنترنت في التحريض على الأنظمة الحاكمة ونشر برامجها ومشاريعها وبياناتها السياسية البديلة مما اضطر بعض البلدان إلى حجب المواقع والصحف الإلكترونية المعارضة، لكن الشعوب المتلهفة إلى الحقيقة والكلمة النظيفة داخل هذا الوطن العربي المكبل تعرف كيف تحبط ألاعيب وقيود الأنظمة على مواقع الإنترنت، فكم اندهشت عندما سمعت بعض الأشخاص في بعض الدول العربية يقولون لي إنهم قرأوا هذا أو ذاك الخبر على الموقع الفلاني فقلت لهم، لكنه موقع محجوب، فقالوا لي وهل تعتقد هذه الحكومات العربية المتخلفة أنها أذكى منا، فنحن لدينا ألف وسيلة ووسيلة للوصول إلى مواقع المعارضة ومنشوراتها الإلكترونية في الخارج.
لقد ولىّ زمان تكبد المخاطر والويلات لمجرد نقل منشور سياسي صغير من قرية إلى أخرى أو حتى من حي إلى آخر. إن بيانات جماعات المعارضة تظهر على الشبكة العنكبوتية الآن بسرعة البرق خارقة كل الحواجز والقيود والحدود لتصل إلى زوايا العالم الأربع بلمح البصر. وعلى ما يبدو هناك تضامن من نوع ما بين مستخدمي الشبكة، فهم دائما يرشدون بعضهم البعض إلى وسائل فك شفرات البروكسي للدخول إلى المواقع الممنوعة.
لقد بدأ البعض يشن هجمات تجريح إلكترونية عنيفة جدا ضد الحكام لا بل يتلذذون في هجائهم وسلخهم وفضحهم. فالحاكم العربي صاحب عشرات الألقاب الفخمة و"الطنانة" لم يعد مقدسا بل مدنسا في منتديات الإنترنت. وبينما كان مجرد التلميح إلى الحاكم جريمة نكراء يختفي مقترفوها وراء الشمس أو يقضون نحبهم وراء القضبان، أصبح إذلاله وتسخيفه و"شرشحته" في غاية السهولة. وبما أن لدى الإنسان العربي إرثا طويلا من الكبت السياسي المقيم فإنه يبدو من خلال كتاباته في منتديات الإنترنت كالوحش الضاري الخارج للتو من القفص يستمتع إلى أقصى درجة بحريته المكتسبة حديثا. ولا داعي هنا لذكر الألقاب البديلة التي يغدقها معارضو الإنترنت على الزعماء العرب.
قد يقول قائل إنني متفائل أكثر من اللازم بمعارضة الإنترنت، فهي ليست أكثر من مواقع للبذاءة والتنفيس في أحسن الأحوال وليس لها أي تأثير يُذكر على الأنظمة الحاكمة التي تتصرف كما لو أنها ما زالت تعيش في الستينات. وهذا غير صحيح، فالأنظمة العربية التي تبدو صماء لما يدور حولها تدرك أكثر منا جميعا أنها تخوض معركة خاسرة ضد الإعلام الحديث وعلى رأسه شبكة الإنترنت وأنها مهزوزة في داخلها رغم أنها قد تبدو قوية في الظاهر. فالنظام الذي يحارب موقعا إلكترونيا بسيطا ويجند كلابه البوليسية ليل نهار ويبذر أموال الشعوب من أجل التصدي لموقع إنترنت نظام متهاو أو آيل للسقوط. ولا ننسى أن بعض المواقع أصبحت تشكل صداعا مرعبا لبعض وزارات الداخلية العربية. فكما هو معلوم فإن ملف الإعلام بأيدي أجهزة الأمن لا بأيدي وزراء الإعلام في العالم العربي. فهم في معظم الأحيان مجرد شهود زور أو نواطير لا أكثر ولا أقل. لا عجب إذن أن نرى من يسمون أنفسهم بمسؤولي الأمن الإعلامي يتقاطرون على تونس الخضراء بين الفينة والأخرى لتنسيق موقفهم المتناسقة أصلا في مواجهة الخطر الإعلامي الجديد الذي يقض مضاجعهم ليل نهار. وهناك مثل عربي بسيط قد يبعث الأمل والمثابرة في نفوس معارضي الإنترنت. يقول المثل: (هناك ضربات قد لا تقتل لكنها "بتطووووووووووووش).
انتهى المقال المكتوب قبل سبع سنوات. ومن الواضح الآن أن المقاومة الإنترنتية بعد كل هذا الوقت لم تعد "تطوّش" فقط، بل تزلزل الأرض تحت أقدام الطغاة.