بقلم : د. فيصل القاسم ... 8.7.07
لماذا أصبحت كلمة "وطني" أو "وطنية" مفردة مقيتة وأحياناً بذيئة في الغرب، بينما ما زالت ظاهرياً في عالمنا العربي معياراً للجودة والشرف والانتماء، بالرغم من اختفائها من الحياة الواقعية وتحولها إلى مجرد شعارات جوفاء؟ ففي الوقت الذي أصبحت فيه الأحزاب والأفكار والشعارات الوطنية في الغرب منبوذة ومحدودة التأثير ومثاراً للقرف والاشمئزاز، نرى أن العرب مازالوا يتشدقون بالوطنية ومشتقاتها ليل نهار، ويستخدمونها أداة لقياس مدى استقامة الناس . فما زالت كلمة "وطني" تستعمل في بعض الأنظمة كمفردة للمدح والإطراء. وما برح البعض يستخدمها للحكم على ولاء الناس وانتمائهم السياسي. والويل كل الويل لمن تتهمه السلطات الحاكمة بأنه غير وطني ، فيتم تجريده من كل حقوقه " الوطنية " ويصبح منبوذاً حتى يوم الدين، هو والذين خلفوه وخلفهم، فالوطنية، وللأسف الشديد، ما زالت سلاحاً فتاكاًً بيد مدعي الوطنية من الأنظمة الحاكمة لملاحقة معارضيها والتنكيل بهم واستئصالهم، مع العلم أن هذه الأنظمة قد تكون في كثير من الأحيان أقل الناس وطنية، هذا إن لم تكن فاقدة لأي شعور وطني حقيقي. وربما تستخدم فزاعة الوطنية للتغطية على لا وطنيتها. فقد عانى مفهوم الوطنية على أيديها معاناة شديدة على مدى القرن الماضي لكثرة ما استغلته لأغراض دنيئة. وقد تبين على مدى السنين أن تلك الأنظمة ربما تكون من أكثر أنظمة العالم متاجرة بالوطنية وشعاراتها الخلابة . فالكل يعرف أنها بمعظمها استطاعت على مدى نصف قرن من الزمن تجريد شعوبها من آخر ذرة من الوطنية لديها من خلال تصرفاتها التي لا تمت للوطنية بصلة. لماذا فقد الناس أي شعور حقيقي بالوطنية؟ لأن الطبقة الحاكمة استأثرت بالوطن ومقدراته وثرواته وخيراته وحولته في كثير من الأحيان إلى متاع خاص إن لم نقل مزارع خاصة .
إن مشكلتنا تكمن في وجود طبقات حاكمة نفعية بالدرجة الأولى لا يهمها سوى مصالحها، وليذهب الوطن إلى الجحيم، وليأت من بعدي الطوفان، فمعظم الذين حكموا من خلال الشعارات الوطنية تحولوا فيما بعد إلى طغاة، وصادروا ثروات الأوطان، وحولوها إلى حساباتهم الخاصة. وبما أن الشعوب على دين ملوكها أو زعمائها عادة، فلا بد من أن تحذو حذوهم في كل شيء تقريباً، فالحاكم المستأثر بالوطن من ألفه إلى يائه لا بد وأن يحفـّز المواطن إلى الكفر بالوطن والوطنية. إنها معادلة بسيطة للغاية ، نظام نفعي تسلطي يؤدي إلى خلق مجتمع نفعي طفيلي لا يهمه من الوطن سوى سلبه ونهبه، بحيث يقول المواطن بما أن الطبقة الحاكمة تستأثر بكل شيء تقريباً، فما الذي يدعوني إلى التضحية أو الحفاظ على هذا الوطن، فليذهب في ستين ألف داهية، وهكذا دواليك، قمة النظام تسرق الوطن، والحكومة تتتبعها، والمسؤول الأدنى رتبة ينهب، والموظف الصغير يتحين الفرصة كي يمارس اللصوصية، والمواطن العادي ينهب، فيتحول الوطن إلى بقرة حلوب، الكل يحلبه حتى يجف ضرعه. وبذلك يصبح شعار الجميع " كل مين يده له" أو بالأحرى " ما حدا لحدا".
ومما يزيد الطين بلة أن السواد الأعظم من مسؤولي الدولة العربية التي ترفع لواء الوطنية لا يتمتعون بأي وطنية، فقد أصبح شعارهم "اللهم نفسي". الكل يداري على مصالحه الخاصة، وما أن تطلب منهم شيئاً حتى يمطروك بوابل من العبارات والقذائف الوطنية، فيحثونك مثلاً على التضحية بكل ما تملك من أجل الوطن، بينما هم ليسوا مستعدين لإرسال أبنائهم للقيام بأي مهمة وطنية بسيطة، هذا إذا كان أبناؤهم موجودين في البلد أصلاً، فمعظمهم يتسكع في أمريكا وأوروبا. لهذا فإن العمل الوطني لا يجد من يكافئه أو يثني عليه في الدولة العربية " الوطنية" . وإذا أخذت مثلا أعضاء البرلمانات العربية الذين من المفترض أنهم يمثلون الشعوب، فستجد أنهم لا يمثلون إلا أنفسهم، فهمهم الأول والأخير من الوصول إلى البرلمان هو الحصول على الامتيازات التي يوفرها المنصب لا أكثر ولا أقل. وكم من الأعضاء الذين ترشحوا للدفاع عن العمال والفلاحين مثلا بينما هم لم يلتقوا بفلاح أو عامل في تاريخهم. وإذا كان الثلم الأعوج دائما من الثور الكبير، فكيف للإنسان العادي أن يدافع عن وطن سليب ليس له فيه لا ناقة ولا جمل؟ كيف يحب الوطن بعدما أصبح فيه صفراً على الشمال؟ ألم يقل أحد المفكرين أيضاً إن الوطن حيث الحرية؟ ألم يتحول الكثير من الأوطان إلى معسكرات اعتقال جماعية؟ الوطنية، يا جماعة الخير، ليست فكرة رومانسية مجردة بل هي حقوق ومكتسبات.
لم نعد أبداً بحاجة لما يُسمى بالحاكم الوطني الذي يزعم أنه يقطر مشاعر وطنية، ويهيج الجماهير بشعاراته الجياشة، ويدّعي أنه حريص على الوطن والمواطنين ومصالحهم ، خاصة بعد أن عاث هذا الحاكم فساداً وخراباً ودماراً في الكثير من الدول، مما جعل الشعوب تحن، لا بل تتوق، لعودة الحاكم اللا وطني المتمثل بالاستعمار والتدخل الأجنبي. ومما زاد في نفور الناس من الوطن أن العديد من الحكام اختصروه في شخوصهم. وبما أن الحاكم العربي في الكثير من الأحيان ممقوت ومكروه إلى أقصى درجة، فلا بد إذن أن يصبح الوطن الذي اختزله بشخصه مكروهاً لدى الناس.
ومما يثير الضحك والسخرية في عالمنا العربي أن الإنسان يُعتبر وطنياً فقط إذا هادن النظام. فإذا كنت عبدا للنظام فأنت وطني حتى النخاع، أما إذا كنت معارضاً له وتعشق تراب الوطن، فأنت عميل حقير جدير بالتصفية، ولا ضير في أن تصبح طعاماً للكلاب ، فحب الأرض لا يشفع لك حتى وإن كانت ذرة تراب من أرض وطنك تساوي عندك الدنيا وما فيها. ليس مهماً أن تكون محباً للوطن، المهم أن تكون عاشقا لحاكم الوطن. هكذا يقيسون الوطنية فيما يُسمى بالوطن العربي.
لم يعد ممكناً أن تحكم المجتمعات على أساس المشاعر الوطنية، فقد تغير الزمان، وتغير معه تعريف الوطنية، فالوطنية الحقيقية لا تعني فقط أن تحب الوطن إلى أقصى حد، وتنظم الشعر في تمجيده، بل غدت الوطنية الصحيحة صنواً للديموقراطية. لقد أصبحت الديموقراطية في هذا العصر هي قمة الوطنية، لا بل مرادفاً لها. فما الفائدة أن تصدّع رؤوسنا بالتفاخر بحب الوطن، وتدّعي الوطنية، ومن ثم تقمع الشعوب، وتحاربها بلقمة عيشها، وتشردها في المنافي، وتدوس كرامتها ليل نهار، وتبدد ثروات الأمة، وتقوم بعملية خصخصة لموارد الوطن لصالح الطبقة الحاكمة، ثم تتشدق في نهاية النهار بأنك وطني؟ هل هذه هي الوطنية؟ لم تعد تنطلي على أحد الشعارات الوطنية الجوفاء التي ترفعها الأنظمة العربية، فقد أصبحت مكشوفة ومفضوحة كعين الشمس، لا بل إن الناس راحوا يتهكمون على كل ما هو وطني لكثرة ما تاجروا بهذا الشعار وأساءوا إليه.
المشاعر الوطنية غدت في وطننا العربي ، وللأسف الشديد، كالمنتجات الوطنية التي تُعتبر عادة رديئة النوعية. لاحظ كيف أن البريطانيين مثلا يشترون المنتج البريطاني ويفضلونه على غيره من المنتجات الأجنبية، بينما يسخر الإنسان العربي من المنتج المحلي، ويشتري الأجنبي. وهكذا الأمر بالنسبة للشعور الوطني ، فقد غدا برخص المنتج الوطني وردائته. لقد أصبح الإنسان العربي ربما أقل شعوب الأرض وطنية. لماذا أمسى عدد الذين يريدون هجرة الوطن العربي أكبر بعشرات المرات من الذين يريدون البقاء فيه؟ لماذا أصبحت كلمة "وطن" بالنسبة لبعض العرب مفردة بالية أحيانا؟
لماذا انقطع نتاج أدباء المهجر؟ ألم يتحفنا هؤلاء من قبل بأروع الشعر وأعذبه في حب الوطن والتغني بجماله؟ ألم تصبح أعمالهم الأدبية التي ألفوها في ديار الغربة في أوروبا أمريكا الجنوبية والشمالية وغيرها جزءاً لا يتجزأ من الأدب العربي الحديث؟ أين أمثال إيليا أبي ماضي وجبران خليل جبران وشفيق المعلوف وفوزي المعلوف وبدوي الجبل ونسيب عريضة؟ هل مات الأدب المهجري بسبب العولمة وسهولة الاتصال والسفر بين الدول فقط، أم لأن العديد من الأوطان العربية أصبح طاردا لمواطنيه؟ لماذا لم يعودوا يتذكرون الوطن بأشعارهم العذبة مثل ذلك البيت الشعري الرقيق لرشيد أيوب: "يا ثلج قد هيّجت أشجاني ..... ذكرتني أهلي وأوطاني... بالله قل عني لجيراني.... مازال يرعى حرمة العهد؟" هل تبلدت أحاسيسنا الوطنية؟ لماذا لم نعد نسمع أبياتاً تقطر شوقاً وحنيناً إلى الأهل والأوطان؟ لنستمع إلى الشاعر اللبناني المهاجر فوزي المعلوف قبل الرحيل إلى بلاد الاغتراب:
مناديلُ من ودعّتُ يخفِقن فوقهم........ فلا ترهقيهم يا سفينة ُ اقلعي
بَعُدن فغشّاهن دمعي.......كأني أرَهن من خلفِ الزجاج ِ المُصدع ِ
لماذا انعكست الآية الآن؟ لماذا " تغرورق " الأعين بالدموع عندما يريد العربي أن يعود إلى أرض الوطن؟ ربما لأن المنفى تحول إلى وطن حقيقي والوطن إلى منفى!