بقلم : سعيد نفاع ... 10.10.2011
الوقفة 1: تقدمة
عندما كنّا على مقاعد الدراسة الثانوية حبانا الله بمعلم للغة العربيّة حوّل المختارات والنصوص المدْحيّة والغزليّة التي أتخمنا بها المنهاج الدراسي المؤسساتي لنشبّ مدّاحين، وغزّالين بمعنييها، حوّلها وحوّل حتّى قواعدها إلى قنابل سياسيّة موقوتة يوم كان خوض المعلّم في السياسة ولقمة عيشه عدوين لدودين دونهما حرب ضروس.
علّمنا المرحوم (الشاعر شكيب جهشان) أن المثقّف هو الرّمح المشحوذ وكلّما كان تثقيفه جيّدا كلّما كانت إصابته في الأجساد أعمق وأمضى، وعلى ذمته من هنا جاءت صفة "المثقّف" للإنسان الذي ثقّفته ميادين الحياة ليرمي القلوب والعقول وكلّما كان تثقيفه أحدّ كلما أدمى القلوب وآلم العقول أكثر، وما زلت اعتمد ذمّته مصدرا ولم أجد حاجة للعودة إلى المعاجم.
وقد أضاف عليها تعريفا تقنيّا إذ علّمنا أن المثقّف هو "الذي يعرف كلّ شيء عن شيء وشيئا عن كلّ شيء"، وأمّا الأيام فعلمتني أن المثقّف كلّما كان تثقيفه "ميدانيّا" يقرأ بين الناس ويكتب مع الناس ويصرخ بين الناس ويتألم مع الناس، وليس "مكتبيّا" يقرأ بين الأرائك ويكتب مع المكيّفات ويصرخ في الندوات ويتألم على الشاشات، فإصابته للعقول وكذا للقلوب أعمق وأمضى تماما كما أصاب سقراط العقول والقلوب حين تُجُرِّع السّم.
كلمة تُكتب أو تُقال في الميادين مدفوعة الثمن قمعا ومعاناة قبلتها أم لم تقبلها، أشرف بما لا نهاية من نفس الكلمة عندما تُكتب أو تُقال في أبراج عاجيّة، فكم بالحري في باحات القصور أو ساحات الجامعات مقبوضة الثمن دولارا وريالا.
أحترم المثقّفين المثّقفين وافقتهم أم لم أوافقهم، وحقيقة لم تشغلني كثيرا التصنيفات التي بدأت تجول في الأدبيّات منذ مدّة ليست قصيرة عن "مثقفين نُخبٍ " و"مثقفين غير نخب" و"مثقفّين مفكّرين" و"ومثقّفين متلقّين"، وكأننا أمام طبقة أو شريحة هي صفوة اصطفت نفسها دون أن يصطفيها أحد راح ضحيّتها الكثير من المثقفين الذين اصطفتهم وعرة الميادين.
هذه الشريحة في نظر نفسها هي النقاء الإنسانيّ وهي الصفاء الإنسانيّ وهي الحريصة على القيم الإنسانيّة لا بل هي مصدر القيم الإنسانيّة تضعها من على أرائكها الوثيرة وعظا، وما عليك أنت إلا أن تتعظ حتى لو كنت قائد دولة قائما على لقمة حياة الملايين، وإن لم تتعظ فالويل والثبور وعظائم الأمور.
وإذا قلبَ هذا "المثقّف النخبويّ-الصفويّ" يجب أن تقلب معه فهو العارف بما لا تعرف والعليم بما لا تعلم ووو...(ربّما يحتاج المرء هنا إلى أن يستغفر الله العارف العليم) وإذا لم تقلب معه فأنت الكافر والمشرك والجاهل والعاقر وباختصار "الفاعل التارك".
الوقفة 2: ما وراء التقدمة
لمّا انبلج "الربيع العربيّ" أو على الأصح "الشتاء العربيّ المدرار إذ أنك لا تعرف بعد ما ستنبت أمطاره رغم الخير الذي في المطر"، وانبلجت معه تصنيفاتهم ال"تظليميّة" وال"تنويريّة" وجدت نفسي مع كلماتهم عندما وصل الأمر إلى سوريّة، بين الظلاميين أعداء الحريّة، فبدأ هذا التصنيف الذاتويّ يشغلني إذ وجدت نفسي في مواجهة ما علّمني إياه معلّمي من تعريف للثقافة والمثقّف وخصوصا عندما كان "يتغزّل" بسقراط وهو يتجرّع السم في أثينا رغم أن أثينا إلهة الحكمة !
الوقفة 3: لله درّ سوريّة كم خلطت من الأوراق!
قلت في تناول سابق للحالة السوريّة "لله درّ سوريّة كم أسقطت من أقنعة" وها أنا أقول "لله درّها كم خلطت من أوراق". عندما تقرأ لمثل هؤلاء أو تسمعهم والحقّ أقول أني أقرأ لبعضهم وأسمعهم جريا على الحكمة "إن لم تقرأ وتسمع ما لا تحبّ فلن تتعلّم أو قل تتثقّف"، فترى أعينهم أثقب من "شهود عيان" فضائيّات الملوك والأمراء، يصفون لك الحاصل مثلا في القرى السوريّة من قتل وتنكيل على يد النظام للناس المسالمين طلّاب الحريّة بأدقّ التفاصيل حتى لتكاد تعتقد أنهم من حملة الشعار "الشعب يريد إسقاط النظام" في صدر المظاهرات وعلى ظهورهم آثار السياط وعلى صدورهم آثار الرصاص، علما أن القاعدة القانونيّة كذلك في واشنطون وباريس وأورشليم التي يجب أن يعرفوها كونهم "نخبة المثقّفين" تقول: "أن في الوقائع لا تُقبل الشهادات السمعيّة" ولكن كما الشعراء ما يحقّ لهم لا يحقّ لغيرهم !
لا يرون غضاضة في اتخاذ مواقف تتقاطع مع أوباما وأشتون وما خلفها وما أمامها ونتانياهو والظواهريّ والعرعور والملوك والأمراء والأجراء، لا بل يروحون يبررونها باختلاف المنطلقات وأكثر من ذلك بدمع على الحقوق الإنسانيّة المداسة والحريّة المراقة في ساحات سوريّة المصونة في الساحات الأوروبيّة وكل ذلك من على موائد الكافيار في الشامزيليزيه أو في الحيّ اللاتيني. والأنكى عندما يكتبون عن التدخّل الأجنبي تراهم يقولون: "نحن ضدّ التدخل الأجنبي ولكن إذا حدث (!) فالمسؤوليّة على النظام".
وأمّا أنت الرافض أن تكون في هذا التقاطع فإنك متحجرّ فكريّ لا بل عاجز فكريّ أو عاقر أيديولوجيّ هذا وإن "الله ستر" ولم تكن عاقرا إنسانيّا ومع القمع وعدو الحريّة، وباختصار لست مثقّفا!
وللممانعة والمقاومة وللمحاور وللمشاريع وللمواخير في الخليج وللدم الأفغاني والعراقيّ والليبي والفلسطينيّ والكرديّ، وللجوع في الصومال وفي حواري باريس ولندن وشيكاغو عندهم معان غير كلّ التي تعرفها، وستصير تفهمها فقط عندما يُصلب الأسد ويصير غليون والغادري حكّام سوريّة، وعندها فقط ستصير من عداد المثقفين النخبويّين.
وإن انتصرت سوريّة الإصلاح، ستبقى بين الظلاميّين لأنه حينها سيقلبون ولن يفتقدوا الحجّة، ولن يُبقوا لك مطرحا.
فلله درّك يا سوريّة الإصلاح ألم تكتفي بكل الأقنعة التي أسقطت فرحت تتطاولي كذلك الأوراق وتخلطيها؟!