بقلم : د.خالد الحروب ... 3.8.07
كوريا الجنوبية هي الضفة الغربية، وكوريا الشمالية هي قطاع غزة. الأولى تكون مفتوحة على العالم «خاصة الغربي» وتحظى بدعمه لمواجهة «الخطر المحتمل» من الثانية، والتي ستخضع لحصار ومقاطعة دولية. كوريا الشمالية كانت وما زالت تُصنف من قبل الغرب على أنها دولة مارقة، وهو الوضع الذي يوصف به قطاع غزة تحت السيطرة الحماسية الآن. بعيدا عن تحليل أسباب ما حدث وإحالة المسؤولية إلى هذا الطرف أو ذاك أو بناء تسلسل زمني للأحداث التي قادت إلى ما قادت إليه، الوضع الراهن يشكل خطرا كبيرا على فكرة الدولة الفلسطينية ومستقبلها، ووحدة الفلسطينيين. ومخطئون أولئك الذين يقللون من مخاطر الانقسام الفلسطيني الراهن بالقول إن التفتت والاقتتال الداخلي رافق الكثير من حركات التحرر الوطني. وأن ما حدث في قطاع غزة من سيطرة كاملة لحماس على الوضع هناك لا يحتمل كل ذلك الحديث عن المخاطر التي تُدرج في سياق توصيف عمق الاثر الذي تركته خطوة حماس تلك. ويُضاف إلى تلك التحليلات القول بأن الوضع «الأمني» في قطاع غزة أفضل الآن مما كان عليه في أي مرحلة سابقة. ويبدو أن «المنطق الأمني» الذي سيطر ويسيطر على تفكير الجناح العسكري في حماس ويفسر خطوة حماس الخطيرة يحتوي على القليل من الإدراك السياسي لتبعات هذه الخطوة على أكثر من صعيد. فالانفلات الأمني الذي شهده قطاع غزة وصبيانية الميليشيات المسلحة التي حولت القطاع إلى ساحة فوضى كبيرة كل ذلك سيئ، لكن التخلص من ذلك الوضع عن طريق خلق وضع سياسي بالغ التعقيد والانقسام كما الآن هو أكثر سوءاً.
فالآن وبعد مرور أسابيع من «حسم حماس العسكري» وانقطاع خطوط الحوار والتواصل بين فتح وحماس ليس هناك في الأفق أي تصور لآلية الخروج من المأزق الكبير. ومن الواضح أن حماس، أو جناحها العسكري بالتحديد، لا يريد ولا يقبل بالتخلي عن المكاسب التي حققها بعد «الحسم». ومن الواضح أيضا أن فتح، أو قسمها الغالب، لا يريد ولا يقبل بالحوار مع حماس على أساس «الواقع الجديد» الذي تريد أن تفرضه حماس. ومع تمترس الطرفين خلف مواقفهما المتشددة يتكرس الوضع الانقسامي الراهن. ويغذي هذا الوضع السياسة والرغبة الأمريكية والإسرائيلية في الاستمرار في حصار حماس بقطاع غزة، وتحسين الأمور ولو جزئيا في الضفة الغربية. ثم إطلاق حراك سياسي لاغتنام «الفرصة المواتية لاستمرار عملية السلام». ولا أحد يدري ما هذه «الفرصة» الفجائية التي صارت واشنطن تتحدث عنها، وكرر الإشارة إلى وجودها توني بلير في رام الله قبل أيام.
وفي المقابل فإن بعض الذين يقللون من مخاطر الانقسام الضفاوي-الغزاوي الراهن يعتاشون على وهم يقول إن قطاع غزة قد تحرر من السيطرة الإسرائيلية الآن وما الضير في أن يتحرر جزء من الوطن بانتظار الأجزاء الأخرى. وأصحاب هذا الوهم يحبون أن يتغافلوا على حقيقة بادية كالشمس وهي أن إسرائيل ما تزال تسيطر على هواء وسماء وبر قطاع غزة وتتحكم في كل شؤونه الحياتية من ماء وكهرباء وأن بإمكانها خنقه تماما. ليس هناك أي تحرر أو تحرير من دون الحد الأدنى من السيادة على الأرض والحدود والمعابر وانتقال الناس بحرية. وفي الحال الغزاوية تكفي نظرة واحدة لمأساة العالقين على معبر رفح للتأكد من مسألة السيطرة والسيادة والتحرر الوهمي. كوريا الغزاوية إذن لا تحظى بالحد الأدنى من السيادة و«التحرير» برغم سيطرة القوة التنفيذية وكتائب القسام على شوارعها.
وهكذا فإن أحد المخاطر الجدية التي تواجه الفلسطينيين في الوقت الراهن ليس فقط تبعثر بوصلتهم الوطنية وما يقود إليه من تهديدات للوحدة العضوية للشعب الفلسطيني، بل أيضا تفتت الجغرافيا والديموغرافيا الفلسطينية والاختلاف العميق على شكل النظام السياسي وقيادته والثقافة السياسية السائدة. وهذا يتجسد الآن على شكل كتلتين جغرافيتين كبيرتين تختلفان كثيراً في الشكل السياسي المكون لكل منهما، وهناك أيضا بذور كافية لخلق فروقات اجتماعية وثقافية تلحق بكل من الشكلين. التبعثر ابتدأ من لحظة التوقيع على أوسلو عام 1993 وما تولد عنه من انشطارات بين مشروع السلام ومشروع المقاومة. لكن النهاية البائسة لأوسلو لم يكن من المتصور أن تقود إلى مثل هذا الانشطار.
لكن ما يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالتحول الانقسامي هو مسألة المقاومة، ورؤية حماس لها وممارستها إياها وهي مسألة صارت تحتاج إلى تحليل عميق وهادئ بعيداً عن المزايدات والاتهامات. فهذه المقاومة هي الراية التي حملتها حماس وعارضت بها مشروع أوسلو لأنه، أي أوسلو، عرض الحقوق الفلسطينية لمخاطر جدية. لكن أشكالاً عدة من هذه المقاومة جرت على الفلسطينيين والحقوق الفلسطينية كوارث لا تقل خطرا عما جلبة أوسلو. فهذه المقاومة عملت على عسكرة المجتمع الفلسطيني وتناسل مليشيات تنظيمية وغير تنظيمية انتهت إلى حال صارت تشكل فيه تهديداً لأمن الفلسطينيين أكثر منها تهديداً لأمن الإسرائيليين. وسواء في الضفة الغربية أم في قطاع غزة لا أحد يستطيع حصر القصص التي مارست فيها تلك المقاومة فوضاها على الفلسطينيين وأقضت مضاجعهم، بحيث صار الكثير منهم يتمنى عودة الاحتلال الإسرائيلي لإحلال الأمن والتخلص من المليشيات. لكن أسوأ إنجازات «المقاومة» التي تحتاج إلى نقد لا يشوبه التردد هو توفير المسوغ الكبير للسياسة العنصرية الإسرائيلية لإقامة جدار العزل العنصري. فلولا العمليات الانتحارية التي ساهمت في نحر المشروع الوطني الفلسطيني أكثر من نحر أي شيء آخر، لما استطاعت إسرائيل أن تفلت بفكرة بناء الجدار وتقنع العالم بأن أمن أفرادها مهدد يومياً ويفرض عليها إقامة مثل ذلك الجدار. ورغم أن فكرة إقامته قديمة وراسخة في التنظير الصهيوني كما يعرف كثيرون لكن لم تجرؤ أي من الحكومات الإسرائيلية على إقامته في السابق، حتى جاءت «المقاومة» ووفرت لها المسوغ.
وهكذا تنتهي المقاومة في قطاع غزة وراء «جدار إيريز» المخيف وتنطوي على نفسها حتى لا تستفز ردود فعل إسرائيلية، كما تنتهي في الضفة الغربية وراء الجدار بعد أن تقطع التواصل الفلسطيني بين المدن والديموغرافيا بشكل يهدد ليس فقط الكيانية الفلسطينية بل وأيضا الهوية الفلسطينية التي صارت تتحوصل حول الانتماءات إلى المدن والمناطق التي تفصلها الحواجز من عام 2000، بداية الانتفاضة الثانية، وحيث صارت كل من نابلس، وجنين، والخليل، ورام الله «ناهيك عن القدس وقطاع غزة ومناطق 48» جزرا معزولة وشبه دويلات. وبين عنجهية وعنصرية الاحتلال الإسرائيلي، والعناد الفتحاوي-الحمساوي، وعماء المقاومة التي أضرت أكثر مما نفعت، تواجه الحقوق الفلسطينية مخاطر بالغة لا يريد أن يراها كثيرون.