أحدث الأخبار
السبت 23 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
المخيم الفلسطيني.. ركام الذاكرة ويقين العودة!!

بقلم : هيثم محمد أبو الغزلان ... 01.02.2011

منذ التشريد ونصب الخيام، بات اللاجئ الفلسطيني سفر حكاية اللجوء من أول التشريد، مروراً بالصمود والعذابات المتواصلة، حتى اليقين بالعودة الأكيدة..
وتحولت خيمة اللجوء إلى خيمة للمقاومة، وشكل المخيم حاضنة حقيقية للحلم الفلسطيني ورمزاً من رموز هذا النضال باعتباره شاهداً على أفظع جريمة ارتكبت في حق هذا الشعب المظلوم.
ومنذ نشأة المخيم مرت على أبنائه مآس كثيرة؛ فقر وجوع وحصار وافتقار إلى أدنى شروط الحياة الكريمة، ورغم هذا شكلت المخيمات خزان الدم للثورة الفلسطينية المعاصرة منذ انطلاقتها الأولى، وبسبب ذلك كان المخيم الفلسطيني دائماً هدفاً لأعداء الشعب والقضية الفلسطينية وفي مقدمتهم العدو الإسرائيلي الذي وجّه العديد من الضربات وعمليات القصف لتلك المخيمات: عين الحلوة، تل الزعتر، الرشيدية...
ونقلت وسائل الإعلام المختلفة أقوالاً للعديد من اللاجئين والنازحين من مخيم نهر البارد في طرابلس إلى مخيم البداوي مثلاً تأكيداً على صلابتهن وصمودهن، تقول إحداهن «أنا مستعدة لرفع ركام بيتي المهدم بيدي... لكن دعوني أعود»، وامرأة أخرى تقول «أنا لا أريد سوى العودة إلى المخيم حتى لو اضطررت للعيش في خيمة فوق الركام، لأن المخيم يختزل ذكرياتنا وطفولتنا وهو عنوان نضالنا من اجل العودة إلى فلسطين».
وصارت الخيمة شيئاً آخر، صارت كما قالت أم سعد بطلة رواية غسان كـنفاني الـتي سـمَّاها على اسمها، قالت أم سعد: «خيمة عن خيمة ... تفرق».
ويقول الكاتب إبراهيم العسس: «أغلبكم ـ كما أظن ـ رأى تلك الصورة النمطية القديمة للمخيم الفلسطيني، عجوزٌ جالسٌ على باب خيمة، واضعٌ خدَّه على كفِّه، قد أجرى الزمن في وجهه حفراً، ينظر إلى الأفق، وكأنه ينتظر شيئاً أو أحداً ! هكذا وجد الفلسطيني نفسه، بعد رحلةِ عارٍ قطعها شرقيَّ النهر، أو ضرَبَ شمالاً إلى جنوب لبنان، ثم انتهى به المسيرُ إلى المخيم، وأصبح بلا وطن ! بلا بيت! فقط يملك الملابس التي عليه، لأنَّهم قالوا له إنَّه مجرد إجراء مؤقت فلن تلبث أن تعود، فلا داعي لزيادة حمولتك، حتى إنَّ كثيراً لم يصطحب معه مفتاح منزله ! فليس من المعقول أنْ ينتصر أولادُ الميتة ـ يعني اليهود ـ على سبعة جيوشٍ عربية ! وإذن وجد نفسَه يفترِشُ الأرض، ويلتحِفُ السماء، ولا تُـؤويه إلا شريطة اسمها خيمة حضَّرتها له هيئةُ الأمم مُسبقاً، فقد كانت على علمٍ بالمؤامرة.! لن يُزعج أحداً، وبالطبع فكلُّ هذا يهون في سبيل فلسطين!
وعلى الرغم من كل المذابح، ، ومن كلِّ الصراعات، ومن كلِّ التضحيات التي قدمها المخيم في سبيل التحرير، أو في سبيل مشاريع التغيير والنهضة؛ على الرغم من كلِّ ذلك فإنَّ: النسيان يليقُ بكلِّ الأسماء لكنَّه لن يكون المخيم، ولن يكون فلسطين. وستبقى فلسطين خازوقاً يضطر العالمَ كلَّه إلى الوقوف ! إنَّ المخيم لعنةُ هذا الزمان، إنَّه لعنةٌ على من باع فلسطين، وعلى من اشترى، وعلى من قام بدور الوسيط.
وسيقول التاريخ ـ وقد بدأ يقول ـ: إنَّ العالم تغيَّر من المخيم ! وسيندم، نعم سيندم العالمُ لأنَّه صنع المخيم ! وسيندم اليهود على أنْ جاؤوا لفيفاً إلى فلسطين، إذ إنَّه وعدُ الآخرة الذي سيُـتـبَّـرُ فيه كـلُّ ما بَـنوْه، ويقتـل كل من جاء إلى الأرض المباركة». وأحد اللاجئين الفلسطينيين كتب على «الفيسبوك»: «منزل اللاجئ الفلسطيني وحده يشدني بعنف وقوة ويحرك في نفسي ذلك الوجع التاريخي الرهيب الذي رافق الإنسان العربي منذ أن دجنوه وجعلوا منه هامشاً من هوامش الحياة بعد أن كان أصلاً وجوهراً وفاعلاً... في المخيم الفلسطيني تشعر بأن كل القصائد… كل الأناشيد.. كل المقالات تافهة جداً أمام هذا المنزل المسقوف بـ «الزينكو» وتتواصل معه من خلال الزواريب.. إنه وحده الذي يخص الآلام… ويوجز العذابات ويضع القضية في موضعها الصحيح.. لقد خيل إلي أن منزل المخيم يشبه إلى حد بعيد كيس الساحر… ذلك الكيس الذي يخرج منه صاحبه الذهب والتراب معاً...
ومن هذا المنزل تخرج أشياء كثيرة.. النار والقوة والشعر والحبّ والصبر، كلها تنطلق من المخيم نحو عالم يحتاج إلى أن يتطهر بالنار والحب.
وإذا كانت كل البيوت في العالم متشابهة فإن بيوت المخيمات ليست كذلك… لكل واحد منها حكايته الخاصة جداً… وأسراره الذاتية… ولكن جميع البيوت تلتقي عند نقطة واحدة… كلها تقع على حافة نهر الحزن تغتسل بمائة وتشرب منه… وتعيش به وعليه»…
ألم يوحدنا...
بكيت قانا، وبكيت صبرا، والفرق بين هذا البكاء وذاك الألم أن الأولى رأيناها مباشرة بعد قصفها بدقائق، فشاهدنا الجثث والأشلاء والأسود القاتم. أمّا مجزرة صبرا وشاتيلا، فقد كنت لم أتجاوز الثامنة من العمر، لكنّني سمعت أمي تقول: «اليهود وعملاؤهم قاموا بارتكاب مجزرة كبيرة في صبرا وشاتيلا».. لم أدرك آنذاك معنى المجزرة، ولم أعرف ما طعم الحزن والألم، فكان كل حلم الطفولة الاختباء؛ فإذا كان في صبرا وشاتيلا مجزرة ويهود وعملاء، فهنا في مخيمنا أيضاً يوجد يهود وعملاء وقد يرتكبون مجزرة!!
ما زلت حتى الآن أذكر أن أمي كانت حائرة، تريد السؤال والاستفسار عن الأقارب في شاتيلا، ماذا حلّ بهم؟! هل هربوا أم قضوا أم ماذا؟! كنت أرى الحركات والسّكنات وأراقبها، لكني لم أدرك معناها إلا متأخراً!!...
هناك في المجزرة كان الأطفال يُذبحون كالخراف، كما الآن يُذبحون في غزة/ فلسطين، وفي العراق.. فالنساء لم يعدن قادرات على ندب حظهن، لأنّهن قُطّعت أيديهن وأرجلهن وألسنتهن، وشُوّه الوجه الجميل. والرجال أصبحوا عاجزين عن واجب الحماية، وقتلهم صوت الأنين...
الأشلاء الممزّقة في كل شارع، وكل زاروب، وكل منزل، لقد لطخت الجدران الجميلة الملونة بلون العلم الفلسطيني المطرّز بالدّم القاني الذي رشقه الطفل بوجه الغاصب ليدل على الجريمة، إن حاولوا طمسها، أو نسيان معالمها. قال :«لا تبكي أمّاه، إن قتلونا ذبحاً أو بالرصاص، لا يهم، فالشهادة هي نفسها، وألمنا حصدناه منذ زمن»، ويضيف أريد السؤال: «أمّاه لماذا يريدون قتلنا؟ أَليسوا يزعمون أنّهم يحافظون على حقوق الطّفل والإنسان؟ فلماذا يريدون قتلي وأنا لم أفعل لهم شيئاً ولم أكبر حتى؟!!». ولم تستطع الأمُّ الإجابة على أسئلة طفلها البريئة. ببساطة، كان السفّاحون قد أنهوا مهمّتهم وقتلوهما معاً.
صمْت رهيب يُخيّم على الأجواء، الحركات تتّسم بالحذر، والناس يخفون أنفاسهم، والضّجّة هدأت فلكأنهم يكتبون في ظل هذا الصمت قصيدة سوداء محشوّة بالدّم، ومشتعلة بالبارود...
حدود الطرقات لوحة سوداء يرسمونها بالدم والأشلاء، ويحفرون في الوجدان الأنواء، يأخذونها فتتمرّد على السماء. ذاكرتنا تُحفر كل يوم بآلاف آلاف الشهداء يعافون كل شيء ويتمردون على الكلمات الخرساء. رعب يسري في الأوصال، يُنسيهم حتى الأسماء، يركضون في كل اتجاه، ويحركون الأصدقاء ماذا يقولون؟ ماذا يفعلون؟ فقد أصابهم الإعياء، والراحة تعني الموت والظمأ لا يرويه الماء فكل شيء أصبح في الطرقات؛ أطفال، متاع، نساء يفترشون الأرض نياماً، لا، نظُنُّهم نياماً لكنّهم شهداء.
... لم نكن نعلم أن العالم حضاريُّ إلى هذا الحد يترك الدم يجري كالماء ويعطي شهادة سلوك حسن بحرب داحس والغبراء، ويعيدنا إلى أعماق الجهل، ليُسْمعنا سيمفونية الموت السوداء.
... لم يعد مشهد الموت يُثير فينا الخوف. فلقد نسينا الكلام والآمال والحضارة وعدنا إلى الصحراء، نسير فوق الجثث والأنقاض؛ فهم يختلفون في الملابس
والألوان، لكنهم يضحكون علينا، لأننا نحن الأموات، وينظرون إلينا من سماء زرقاء.. لم يناموا، لم يفرحوا، لم يتعبوا ولم يصبهم الإعياء.. الدائرة بدأت تضيق الآن، والحنان أصبح يُشترى ويباع... اسألوهم عن الهواء من منعه؟ من أخذه؟ من قتل الأطفال الأبرياء؟ والحوامل من النساء؟ اسألوهم، اسألوهم من صادر البكاء... سألت أمّ أين طفلي؟ وسْط ركام القهر أين أجده؟ ملامحه اختلطت عليَّ، لم أعد
أميّزه، بل أشعر به أتنفّسه، هذا رامز، هذا سامر، ربّاه لا أعرف ما أقول؟! حطّموا قلبي، دمّروا عقلي...
سال الدم، سال الدم غطّى شوارعنا، غطّى الحقول والأبنية، زرع الخوف، وأنبت الرعب بخنجر وسكين ورصاصة، وجعل مشاعرنا طوفان غضب، وبحرنا لا ترسو فوق سفنه النوارس...
هذا ليس نزق الثورة والثوار، لا وليست براءة الأطفال، وليس فعل من يستحق لوماً.. إنه الإجرام، فهل نعي معنى الإجرام؟ فيكتب الشاعر مروان محمد الخطيب (1) متذكراً: «.. تتذكر أوراقك وخواطرك وقصائدك الأولى في الحب والحياة، الحالمة بعناق فلسطين السليبة، تتذكرها وهي مركونة هناك في البارد الحزين، بين لسع النيران وحمّى الهجر، أو تحت وطأة الريح والسحائب الداكنة، والمطر الممزيج بالأسود والغبار!! تتذكر مخطوطاتك التي لم تنشرها: «أوراقك الدمشقية» و«ما الحياة؟»، وقصائد كنت تعدها لإصدارك الشعري الثالث، تتذكرها، كأنها تناجيك: أنقذني من الفراغ والضياع، كأنها ولد من أولادك، يبكي، يصرخ بأعلى نبرات براءته: ماذا جنيت يا أبي، حتى أحرق أو يطمرني الغبار والسحاب الأسود،.. أنقذني يا أبي، ألست قطعة من لحمك ودمك، ألست صوتك الذي تعبر به إلى فضاء العدل المشتهى والحب الأرحب؛ ألست أنا أنت؛ ماذا حل بك، أميت أنت يا أبي حتى تتركني للعراء والخواء والدمار والنار والموت؟!!!».
لاجئ على حدود الوطن..
..عندما هممت بالكتابة عن المخيم، ذهبت بي ذاكرتي إلى عمل أدبي تناول المخيم في فترة ما بعد النكبة. فغسان كنفاني يكتب عن المخيم بعد النزوح: "إن هذا المطر لن ينتهي الليلة وهذا يعني أنه لن ينام، بل سيظل منكباً على رفشه، يحفر طريقاً تجر المياه الموحلة بعيداً عن أوتاد الخيمة" (الأعمال الكاملة، ص 784).
فرغم ذهاب الخيمة بقي المخيم، وبقي أناسه يحفرون في صخر الجبال قصة جديدة لفجر سيأتي بالتأكيد.
ويكتب الشاعر مروان الخطيب مخاطباً ابنته الصغيرة "يارا"، وكأنه مخاطباً كل أطفال فلسطين في المخيمات والشتات «غداً يا حبيبتي، تعود لأبيك أوراقه الحزينة بسّامة، يلعن مدادها لصوص الليل والفراغ المدوي.. غداً ينتصر الحرف على المدى، والوعي على اللاوعي، ويعرف الابن أباه، والضليل سيدرك سبيله عند لمعان الفضة تحت الشمس!! غداً يا "يارا" تدركين أن عكا تقترب منا، كلما حاولوا إبعادها عنا، وستعرفين أن تعلقنا بـ "البارد"، ما كان إلا كتعلق البحار بشاطئ يفضي به إلى قاربه..».. (2)
***
هنا وقفت.. هنا مشيت، هنا انسكب عرق والدي من أجل بناء كوخ من الإسمنت تعلوه «ألواح الزينكو».. هنا سارت جدّتي، والدتي، والدي، سميّة، ربيع، خالد، خولة... هنا «نبعة الميّة» كانت تروي العطاشى... هنا بوابة الحديد... وهنا شجر التوت والتين.. هنا سرت في الطرقات الضيّقة والمتعرّجة... وهنا صعدت التلال.. رأيت البحر.. وتنفّستُ هواء فلسطين...
ويكتب مروان: «.. سنبني يا صغيرتي أقماراً من طين، وسنزرع رماناً من نزف العيون، لن ننام إلا في كنف البرقوق والندى. سنجعل للصفصاف أسيجة تقية من نواظر الحواسد، وحقد الغيرة الأسود.. سنقول للسفرجل: تمهل، وللغرقد لا، وللرمادي: لا مكان لك في مطرزاتنا، وفي مدى صهيل خيولنا وأخيلتنا.!!»..
ويضيف: «..سنرسم لوحات لقهرنا المنسي، حتى لا تغادرنا الذاكرة إلى هوليوود.. فاصغي بنيتي إلى دمعتي وقبضتي وشهقتي الحبيسة منذ مئة عام، واغسليني بطهر البراءة في نبضك كي أبقى قوياً.. واحفظي عني يا لون أمي وصوتها..: لا يمكن للذئب أن يغدو إنساناً، ويستحيل أن يصبح الثعلب قاضيا»..
وبلوعة المكسور الملتاع المشتهي للذكرى ونيران المدى فـ : «ألوذ إلى الذكر طمعاً بالطمأنينة، منتظراً نوماً عزّ في زمن انكسار الذاكرة، وانصهار خيوطها تحت وابل النيران والجرف وامّحاء الأعيان المقروءة والمسموعة والمحسوسة والمرئية، التي كانت شاهداً على الماضي.. ».
والمخيم عند الخطيب: «.. حاضن الطفولة، وسياج الأحلام، والصورة المكانية والزمانية لذلك الآتي المؤجل، لتلك الأنسام التي تهب من بحر عكا وسورها العظيم، فتنتعش البيادر في عمقا والغابسية وكويكات، وتنسرح الأخيلة على الجرمق وصفد، ممتطية صهوة الآمال والرغاب، بالغة أوجّها الفضّي في أحضان الأمان والطمأنينة، لتعرّج على الناصرة، مستذكرة المسيح عليه السلام، قبل أن تؤوب إلى القدس منزرعة إلى أعلى، كتلك الصخرة التائقة إلى فوق، منذ معراج محمد صلى الله عليه وسلم منها إلى السماوات العلى» (3)..
ومخيم «البارد» عند الخطيب أيضاً لم يكن لحظة عابرة في حياتنا ووعينا الاجتماعي ـ السياسي،. بل كان «مزيجاً مكانياً وزمانياً ذا دلالات تشرف على الماضي النكيب، وعلى الآتي الحالم بالنصر والعودة إلى أرض الآباء والأجداد، ما جعله يجّر الغربة واللجوء نحو الفجر في تشكل صاعد إلى ذاكرة مشبعة بالعزيمة والاصرار، والرغاب النابضة بذاك الأمل المغسول بماء التبلور والبروز الفذ المحاكي همّة اليقين وإطلالة القضاء».
***
هنا انقلب حائط منزلنا، وتصدّعت الجدران المتبقِّية... هناك صديقنا استشهد تحت ركام منزله... وهنا أطبقت الجدران على أربعة أطفال مع أمّهم... هنا، هناك انمحت «حارتنا»، وغدت أكواماً من حجارة وتراب، «يُزيِّنها» الشهداء، وقرقعة طبول النشامى العرب!!
ويعبّر مروان عن رفض الفلسطيني خوض ما يهدم مخيمه، أو يبعده عنه، ـ باستثناء العودة إلى فلسطين ـ، ويعلنها صريحة: « إن بسطت يدك إلي بغير الحب، فإني لا أملك سوى قلبي وحبي وحرفي الجميل ومخيمي الحزين»..
ويضيف : «.. كانت طرابلس في رابع أيام صومها، يحاكي نصفها المجلبب والشهي، طيف عكا..، وكنت أنت وحدك سيدة اللحظات قبل الغروب وبعده، يشاطرك "البارد" الحزين وأكوام الدمار والدخان المصّاعد إلى سمائه المزروعة بعلامات التعجب والاستفهام، متعة الاستقصاء الجنوني، والتحري الفطري، عن موجبات هذا الحب وهذا القهر المندغمين معاً، في هذه الفسيفساء الغريبة العجيبة»!
***
هنا مشيت على أرض المخيم... هنا ذاكرتنا «الفولاذية القوية» باتت في خطر... هنا الأرض لم تعد أرضاً... هنا النشيد كان ولا زال كالزلزلة: أطلِق اليدين والحجر.. إنزع الأسلاك الشائكة.. دُس الشوك بأقدامك العارية، وانطلق لعينيها أملاً، وأمضِ لحضنها شهيداً؛ فما يفصلنا عنها مساحة أمتارٍ وجنود وكلاب عاوية.. فلا تبك إلا قليلاً، فالدمع عند العرب بحورٌ ويزيد!!
أطلق يديك والغضب، أطلق شعلة النار ولهيب الألم.. احمل الروح تقذفها... احمل كلّ أماني الطفولة، ودموع النساء والأحبَّة والأطفال، اجعل الجسد جسر عبور بين الوطن والوطن.
دع الأمل يَعْبرُ عبر حقيبة الشظايا، دَعْها تلوّن: سماءنا، أشجارنا، زهورنا، أسماءنا... دعها تنتفض عبر خيوط الصباح تجتاح نهارنا المسبي... وتصل للقدس رسالة وعنوان...
يكتب مروان «.. لا يا نشواي ونسمتي..، لا أرتضي لنفسي المهانة ولا أرتضيها لعينينك الأليقتين بالنبل والطهر..، كما لا أرتضي "لباردي" الحزين أن يعرى ويسقط أهلوه ثانية في البؤس والضياع وتيه الذاكرة وانعدام الجهات أمام النواظر والقلوب»..
***
جميل أن يتقن الإنسان الكلام، وجميل أن يتقن فن الكتابة، والأجمل من ذلك أن يتقن ـ الإنسان - التعبير عن دمعة طفل، شقت وجهه سهولاً وودياناً، وعن بسمة شهيد، اختار الموت/الحياة حضوراً مكثفاً لوجوده، يعطي أرواحنا من خلالها ثورة قوية، وعطاءً لا محدود، يعبر عن وطن سليب محاصر بين أنقاض اللوعة وغربة الأبناء.
وفي مجموعته الشعرية «صهيل الأرجوان» (4)، حاول مروان الخطيب أن يُعبّر عن تواري الحزن في غياهب الليالي؛ غضباً وثورة وروحاً وثابة. فكانت بلاد الزيتون محوراً يمتد من ليالي الحزن الغاضبة إلى فرح الانتصار القادم يزينه الشهداء؛ ورداً وصوراً ونهجاً لا يحيد؛ يقول: «... فصرخت ملتاعاً، أقول: /آه أيا برقوقة الحقل الرحيب... / يا دمعة رقراقة قد بثها قلبٌ خصيبْ / يا نغمة في دفئها قد صاهرت، أصداءَ لحن من لحون العندليب... / قد زينت من حسنها تلك الوجوه الغابرة... / وتدثرت بسنائها تلك العيون الضامرة... / وتقزمت بصفائها تلك النفوس الفاجرة»...
وتُرسم جراح الوطن ورداً وعوسجاً ووطناً شريداً منفياً، تقهره جراح أبنائه، تتقاسمه اللوعة حيناً، والجراح أحياناً، ويتسربل بالدم، والأحلام الندية التي لا تخفق إلا بالرزايا، لترسم حلم الوطن بسيف الكلمة وجمرها...: «تقهر الليل، وتأتي /ترسم الحاء نصولاً... /تبعث الباء سيولاً وخيولاً... / أرجوانا وتماضِرْ... / وتجاهر... / كل من يكتب ذلاً، / كل من يكتب صلحاً، /مع يهود فهو خائن»...
هنا، يعاد ترتيب المواقف لتكون واضحة في مرحلة يراد فيها بيع القدس وفلسطين، فتتوحد النداءات الصادرة عن القدس بلسان الشاعر، لتتداخل فيها الرموز مع التاريخ، والفكر مع العقيدة، والتراب المروي بالدم مع سماء المجد في عليائها، ومتحدة بالموقف الواضح وضوح الشمس في عز النهار...
... فأنا القدس/ أنا الطهر / أنا أم المدائن... / كل من باع تراباً من بلادي... / من سماء الطهر في عكا وحيفا / من خليل الله / في أرض المجامر / فهو زان / وهو خائن/ مثل نيرون المفاخر / بانغراس القبح في رحم الجواهر/.
ويحاول الشاعر التعبير عن آمال شعبه وأمته، فيختار الصراخ بأعلى الصوت، علَّ البعض يسمع، فيستجيب. وكأنه يريد استحضار المعتصم أو صلاح الدين ليشعلا الأرض تحت أقدام الغزاة؛ فيموت ليل الأمة، وتصعد من جديد إلى فجر الانتصار، فيتساءل:
من يرفع ظلماً عن حيفا عن عكا، عن بحر الأحلام
عن قدس ما برحت تبكي آثار الذلة والعدوان
ولا يكفي الشاعر بدعوة أمته إلى النهوض، بل يبين لها ضرر سكوتها عن حقها، ويحثها إلى النهوض لتأخذ مكانها بين الأمم، وتعيد مجد عزتها، فهي لا تستطيع أن تكون إلا بقوتها وحضورها:
كيف النكبات نقصّلها إن تاهت يافا عن نجران؟
إن باتت أجزائي ثكلى من سامراء إلى بيسان؟
قومي خنساء من الأكفان واريقي ملحاً في الوجدان.
علَّ الخذلان يغادرنا فتثور الروح على الأوثان.
ويمضي يدلنا على طريق الشمس التي ستشرق يوماً، ويسكب في أعماقنا الروح المشرقة أملاً بالأحلام الندية، ليؤكد أن الفجر القادم سيكون جميلاً:
فتموز الندى آت، / فتى الأصداف والأبحر، / يُقِلُّ الغيم في يده، /وفي عينيه مبخرة، /وفي عطفيه أرماح وأشواقٌ، / وفي الترياق من دمه، / نشيد هادر أبداً لخيل الصبح لا تقهر.
ونعود هنا لنؤكد أن الشاعر، لا يعتمد على صرخته الثائرة التي تدعو الأمة إلى النهوض، بل يتعدى ذلك إلى محاولته طرح أسباب العجز والفشل والإلحاق والتبعية للآخر المتمثلة بالتجزئة:
«بيكو» يخطط والفئران تتبعه تمزق الستر ثوب السؤدد القَشبِ .
ونكتوي بسياط العَسْفِ ما برحت تغيب عنا دنا الأبطال في الكتب .
وهنا، يستعيد الشاعر ماضي الأمة المجيد. والذي يعني بحضوره موت المشروع الصهيوني؛ لأنه عندما تستعيد الأمة حياتها، فإنها تمضي بقافلة السلام الحقيقي، تنشره بين الناس حقيقة واقعة، لا سلام الخوف والقتل، والسلام المزروع بدم الأطفال وأشلائهم...
فهنا لحظة الحقيقة تتجلى ببنادق الثوار، وتتكثف معاني بطولاتهم عبر الجراحات قوة وإصراراً وعزيمة لا تلين، وبشهادة توصل العرب والمسلمين إلى مراحل العزة وقوة اليقين. فالشهداء وحدهم يجعلون لكلماتنا معنى، ويعطونا مزيداً من القوة، ومزيداً من الانتصار، ومزيداً من الحرية. فيقرر الشاعر هنا أنه مهما بلغت قوة الأعداء إلا أن قوة الحق ستغلب لأنه:
إن ماتت عكا، مات العرش/ إن ضاعت حيفا، ضاع القدس / إن سقطت يافا، سقط الهمس، /
وهيهات، هيهات إن تبقى القدس أسيرة بأيدي العدى، أو ينسى الشعب مقدساته:
أبا عبيدة قم للسيف لا أحدٌ يحمي السيوف من الأغماد والعَطَبِ
الاَّك أنت وأفراس الأُلى سبقوا من الأباة، حماةِ الحق عن كثب.
أيلول ثوِّر فما في العمر متسع صيّر حجارة بيسانٍ إلى شهب.
وبحر حيفا، أرِقْ في جوفه قَبَساً فيستحيل إلى موجٍ من اللهب.
يجتاح أبناء صهيون ويخلصها أرض القداسة من عكا إلى النقب.
فتتواصل أجيال المقاومة للعدو الغاصب، فتتقرر قاعدة أساسية أن الحق سيغلب، وان الباطل سيندحر بفعل أولئك الذين يكتبون بدمهم ملحمة الصمود والتحدي، ويدافعون عن جدار الأمة الأخير، فتغمر دموعهم أيامنا، وتتجرح قلوبهم، ويصبح دمعهم عصياً، ويستحضر الشاعر النبي طالوت، فيقول:
أكتب يا طالوت اليوم / كتاب العهد الأول / إن العمر صراع / بين العين وبين المخرز /...
ويقول فاشهر حسامك يا ابن أمي، لا تنمْ النوم في زمن المروءة منكر.
والعَزْف عن درب الشهادة فاجعٌ ما دام يحيا في بلادي الغادر.
وأخيراً، سنون تمر، وأيام العمر تتشابه، والذئاب وحدهم قادرون على البقاء؛ فلا ورد يزهر، ولا عمر يكبر عند طغيان، وفي المنفى وحده يصبح الوطن بلا تضاريس، ولا عنوان ... ويضيع فيه الإنسان.
حاولت استعراض ما كتب الشاعر الخطيب في عدد من كتبه عن المخيم الفلسطيني، بأمل الواثق بالنصر الأكيد، والمتيقن بالعودة إلى أرضه مهما طال الزمن؛ فالأعداء يمكن أن يُحاصروا القمر، ويأخذوا كل نور الشمس، ويكسّروا عظام الأطفال، ويدمّروا المنازل، ويحطّموا الأبواب، ويجعلوا الدنيا سجناً للأبطال، ويمزّقوا أكفان الشهداء، ويحرقوا كلّ شيء كما التّتار، لكنهم لن يستطيعوا منعنا من عشق الأرض والتّشبث بالتراب فنحن «نحب الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلاً».
هوامش
(1): مروان محمد الخطيب، شاعر وإعلامي، مواليد مخيم نهر البارد (1965)، مجاز باللغة العربية وآدابها من الجامعة اللبنانية، وله عدة كتب: «صهيل الأرجوان»، «وجع الذاكرة»، «وانشق القمر»، و«المتنبي متوجعاً»..
(2): «وجع الذاكرة»، مروان محمد الخطيب، (صادر عن مكتبة الحوار، طرابلس، لبنان ط. أولى: تموز/ 2009)..
(3): «المتنبي متوجعاً»، مروان محمد الخطيب، (صادر عن مكتبة الحوار، طرابلس، لبنان ط. أولى: تموز/ 2009..)..
(4): «صهيل الأرجوان»، مروان محمد الخطيب، (صادر عن مكتبة الحوار، طرابلس، لبنان ط. أولى: آب/ 2001..)..

*كاتب فلسطيني