بقلم : د.عبد الستار قاسم ... 19.07.2011
من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر. من أراد أن يستعمل هذا المقال للتشهير بالفلسطينيين واتهامهم عليه أن ينظر إلى نفسه وقيادة بلاده وقبائل شعبه. لقد ساهم حكام العرب من رجعيين وثوريين، قبليين وتقدميين، متخلفين ومتطورين ومن لف لفهم من المثقفين والمنافقين والتجار والسماسرة في بيع الوطن العربي في سوق النخاسة وفي دور الشهوة ومقاهي القمار. الحال الفلسطيني ليس فريدا في الساحة العربية، ولا يختلف الشعب الفلسطيني عن غيره من الشعوب العربية، إذ فيه السمسار والعميل والخائن كما هو الأمر في كل البلدان العربية؛ وفيه الوطني والعبقري والطاهر كما هو الأمر في كل البلدان العربية.
تثور ثائرة الفلسطينيين كلما عاتبهم عربي أو أهانهم بقول يتهمهم ببيع وطنهم، أو بيع بعض وطنهم للصهاينة اليهود. ودائما رد فلسطينيون على هذا الاتهام بتعداد أسر شامية (من بلاد الشام) لممتلكاتها الواسعة للصهاينة، وبتعداد جرائم الأنظمة العربية بحق فلسطين، وتسليم فلسطين بأكملها في حربي 1948 و 1967 للصهاينة. يردد الفلسطينيون اتهاما لعائلتي سرسق والتويني اللبنانيتين، وللنظامين الأردني والمصري في عهد الملك فاروق الذي زود الجيش المصري بأسلحة فاسدة. ومؤخرا، شن فلسطينيون هجوما على مفتي لبنان الشيخ محمد رشيد قباني بسبب انتقاده اللاذع لأداء الفلسطينيين تجاه وطنهم، واتهموا عائلته ببيع أراض كانت تملكها في فلسطين للصهاينة. وقد أوسع فلسطينيون المفتي شتما وسبابا.
حتى لا يزايد أحد على آخر، أقول إن عائلات شامية قد باعت أراض في فلسطين للصهاينة ومنها عائلات فلسطينية. لم يكن نقل الأرض بالمال حكرا على إقطاعية شامية دون أخرى، وقد سبق أن كتب المؤرخ سليمان بشير كتابا بعنوان جذور الوصاية الأردنية على فلسطين، وقدم معلومات وفيرة حول تعاون عائلات أردنية ومنها العائلة الحجازية المؤمّرة على شرقي الأردن مع الصهاينة. وقد باعت عائلات شامية أراض للصهاينة قي سوريا الصغرى القائمة حاليا، وفي دمشق بالذات. وتتوفر لدينا معلومات كثيرة حول عائلات إقطاعية قيادية فلسطينية باعت مساحات واسعة للصهاينة في مختلف مناطق فلسطين، وبحوزتنا قيم البيع بالجنيه الفلسطيني الذي كان متداولا في حينه. هذه القيادات كانت تعد الشعب الفلسطيني بالحرية والاستقلال في خطابات النهار، وتبيع الأرض للصهاينة في الليل.
أوسلو والاتفاقيات الاقتصادية
إذا كان بيع بعض الأراضي الفلسطينية للصهاينة قد تم مفرقا قبل عام 1948، فإن البيع قد تم بالجملة في أوسلو وفي وضح النهار وأمام وسائل الإعلام. تلك الأرض التي استشهد من أجلها آلاف الفلسطينيين، وانهمرت من أجلها الدموع، ولفت الأحزان والآلام بسببها شعب فلسطين، تم الاعتراف بها على أنها إسرائيل، وتم الالتزام من الجانب الفلسطيني بمكافحة الإرهاب وملاحقته، وزج أبناء فلسطين بالسجون بسبب شكوك بنواياهم للعمل ضد الصهاينة. والمضحك المبكي أن هذا العمل قد تم تغليفه تحت شعار المشروع الوطني الفلسطيني، وأصبح يوصف من يرفضه بالمتطرف والعدمي والأهوج الذي لا يفقه بالأمور السياسية.
اتفاق أوسلو عبارة عن اتفاق سياسي معرض للإلغاء أو الإهمال فيما إذا حصل تغير على الأوضاع السياسية في الضفة الغربية وقطاع غزة، لكن الاتفاق الاقتصادي والذي وُقع في باريس عام 1994 كان مصمما للسيطرة على لقمة خبز الشعب الفلسطيني في الضفة والقطاع، بحيث يجد الفلسطيني نفسه ملزما بالتخلي عن الوطن مقابل الراتب. طبعا لم تُشر الأطراف الموقعة على الاتفاق إلى أن ما سيحصل عليه الفلسطينيون في الضفة الغربية وغزة من أموال هي ثمن وطنهم، لكن الأيام كانت كفيلة بتوضيح هذه المعادلة.
تقرر وفق هذه الاتفاقية تمويل مؤسسات السلطة الفلسطينية، وتوفير أموال لدفع رواتب الموظفين المدنيين والعسكريين. باختصار، تمت الأمور كالتالي: زيادة عدد الموظفين الحكوميين لدى السلطة الفلسطينية والذين يعتمدون في معيشتهم على الراتب، وضرب المنتجين الفلسطينيين من خلال تكثيف الاستيراد من الخارج. فتحت السلطة الباب للتوظيف، وتهافت الناس على الوظائف بخاصة في الأجهزة الأمنية، وقامت السلطة بفتح باب الاستيراد على مصراعيه. لقد تم ضرب المنتجين من فلاحين ونجارين وحدادين ونعالين ونساجين وحرفيين، وبث الانتعاش لدى الموظفين. هذا عنى أن قدرة الفلسطيني على الاعتماد على الذات أخذت تتهاوى، بينما أخذ الاعتماد على الآخرين يتصاعد. وكلما ارتفع منسوب الاعتماد على الآخرين اضمحلت الإرادة السياسية للشعب وتلاشت.
التهافت على الوظائف
قام العديد من المثقفين والمفكرين الفلسطينيين بالتحذير المتواصل من مخاطراتفاقية باريس الاقتصادية، وكانت جدليتهم واضحة كوضوح الشمس، وقالوا إن شعب فلسطين سيجد نفسه عاريا في المستقبلن وموقفه السياسية ستبقى رهنا بالراتب الذي يأتي جزئيا من الدول المانحة، وجزئيا أيضا من أموال الضرائب التي تجبيها السلطة، وأموال الضرائب التي تجبيها إسرائيل لصالح السلطة الفلسطينية على البضائع المستوردة عبر الموانئ الصهيونية. وبما أن المبلغ الأكبر يأتي من الدول المانحة ومما تقتطعه إسرائيل، فإن الجزء الأكبر من راتب الموظف الفلسطيني سيبقى بيد أعداء الشعب الفلسطيني.
لم يستمع الناس إجمالا لنصائح مثقفيهم، وفضلوا اللهاث وراء الوظائف. نشطت الوساطات، وعمل آلاف الناس على استصدار بطاقات تثبت أنهم ينتمون لحركة فتح للحصول على وظيفة. وهنا أشير إلى أن حوالي 97% من وظائف الأجهزة الأمنية هي لحركة فتح، وحوالي 64% من الوظائف المدنية. وإجمالا، تحظى فتح بحوالي 83% من الوظائف الحكومية. أما ال 17% فيتميزون بحذر شديد من الناحية السياسية حتى لا تغضب عليهم فتح فتطردهم من وظائفهم. هنا سيحتج بعضهم فيقول إن الوظائف هي لدى السلطة وليس لدى فتح. في ظل الأوضاع الحالية، لا يوجد تمييز بين السلطة وفتح من الناحية الفعلية.
بسبب هذا التهافت، ترك بعض الناس أشغالهم وأعمالهم وفضلوا الوظيفة. لقد تركوا العمل المنتج، وذهبوا إلى وظيفة غير منتجة. علما أن أغلب موظفي السلطة لا يقدمون خدمة حقيقية للشعب الفلسطيني بخاصة الأجهزة الأمنية. وكثير من هذه الوظائف تقدم خدمات للأمريكيين وللأمن الإسرائيلي بسبب التنسيق الأمني المنصوص عليه في الاتفاقيات مع إسرائيل.
الدكتور سلام فياض
ملآت حكايات الفساد في عهد عرفات الضفة الغربية وغزة، ويبدو أن الأمريكيين والصهاينة لم يعودوا قادرين على الصمت وعدم معالجة الأمور. لكن هذا لا يعني أنهم كانوا ضد الفساد. على العكس، لقد شجع الغرب والصهاينة الفساد لأنه لا يمكن لوطنيين فلسطينيين لأن ينفذوا الاتفاقيات مع إسرائيل، وكان من الضروري تشجيع الفساد والفاسدين ذلك لأن الفاسد دنيء ونذل ومستعد أن يساوم على أمه وليس فقط على وطنه، ولأن الفاسد متورط ولا يستطيع أن يتمرد على من يكشف فساده ويوثقه. لقد شجعوا الفاسدين، ومنحوهم الرتب العالية، والمواقع المتنفذة، والرواتب المجزية، وثبطوا من حاول أن يكون وطنيا ظنا منه أنه سيكون أكثر ذكاء من أعدائه. لقد عزلوا الوطنيين في وظائف صغيرة، أو في إجازات طويلة، أو في تقاعد مبكر، أو طردوهم.
الفساد كان آلية هامة بالنسبة للإسرائيليين والأمريكيين لتثبيت الاتفاقيات مع إسرائيل، لكن الرائحة الكريهة تؤذيهم في النهاية، وهم يحرصون على الفساد المستتر. فقرر الأمريكيون الدفع بالدكتور سلام فياض على أساس أنه عقلية فذة، وإداري ماهر، ومهني محترف، وفرضوه على عرفات. شعر عرفات بالامتعاض، لكنه لم يكن يملك إلا القبول.
لقد تم التنويه والشرح من قبل فلسطينيين بأن من يرضى عنه الأمريكيون لا يمكن أن يكون جيدا لفلسطين. لكن الزيادة في الرواتب كانت أقوى من كل الحجج الوطنية والمنطقية والسياسية. لقد تم رفع رواتب الموظفين المدنيين في عهد الدكتور سلام فياض، ورفع رواتب الملتحقين بالأجهزة الأمنية بنسب أعلى. ارتفعت أسهم الدكتور سلام الشعبية، بخاصة لدى هؤلاء الذين يشتمونه الآن ويتهمونه بالخيانة. وهنا يندرج عنوان هذا المقال. لقد كان الدكتور سلام فياض مهنيا وعبقريا عندما ارتفعت الرواتب، وأصبح بالنسبة لهم عميلا للأمريكيين والصهاينة عندما تحدث عن أزمة الرواتب، وعن مديونية السلطة.
لقد ربط عشرات آلاف الفلسطينيين تقييمهم للدكتور سلام بقيم مالية وليس بقيم وطنية. ولم يكترثوا بالضغوط الأمريكية أو التفضيل الأمريكي، ولم يكترثوا بالمديح الصهيوني، ولم يكترثوا بمستقبل فلسطين واللاجئين، وإنما اهتموا فقط بالراتب. وإذا كان الدكتور فياض سيوفر الراتب غدا ويرفعه بعشرين دولارا، فإن اتهامه بالخيانة والعمالة سيتوقف، وستعود إليه أمجاده. هذه هي المأساة. فلسطين ليست محور المواقف، والقيم الوطنية لا قيمة لها أمام الدولار.
من أين نأكل
إذا واجهت هؤلاء العشرات من الآلاف بالحقيقة يسارعون إلى السؤال استنكاريا: من أين نأكل إذا كنا سنتخلى عن الأموال الغربية؟ وسؤاله هذا يعني أن الخبز أهم من الوطن، أو كما قال السيد محمود عباس يوما: "الخبز أهم من الديمقراطية." وما كان يعنيه هو أن الرضوخ لمطالب الغرب أهم من الاعتراف بنتائج الانتخابات الفلسطينية لعام 2006. وحقيقة يهتم الإنسان الجائع بلقمة الخبز قبل اهتمامه بالوطن، لكن هل يفضل اللقمة على الوطن؟ من الناحية الفلسطينية، طالما رفع الموقعون على أوسلو وباريس شعار نجوع ولا نركع. ويبدو أن الشعار لم يكن إلا للاستهلاك المحلي، ولم يكن بهدف الحشد الوطني.
كان الناس في الضفة الغربية وقطاع غزة يأكلون قبل أوسلو وباريس، ولم تكن رقابهم على مذبح الرواتب. الوضع اختلف الآن لأن قيادات الشعب الفلسطيني ساهمت مساهمة مباشرة بحشر الناس في زاوية يختارون فيها بين المال والوطن. ولهذا أجاب أحد السفراء الغربيين على سؤال حول حل القضية الفلسطينية بفرك إصبعيه الإبهام والشاهد، مشيرا إلى أن الحل بالمال. إعط الفلسطينيين مالا ينسون حقوقهم الوطنية.
تمت نصيحة الناس بألا يتركوا أعمالهم وأشغالهم، وأن يتمسكوا بإنتاجهم، وقيل لهم بأن الإرادة الحرة تهزم القوى الاقتصادية العظمى. لكن كما يبدو أن الجشع والكسب السهل يستعبدان صاحبهما. وكنت من الذين واجهوا صعابا كثيرة بسبب هذه المسألة. لقد كتبت أكثر من مائة مقال حول مأساة الرواتب ووضع لقمة خبز الشعب بيد أعدائه، وحاضرت أكثر من مائتي مرة، ولم أترك فرصة في وسائل الإعلام إلا وتحدثت حول الموضوع. ورد الفعل لم يكن إلا بالاتهامات والسباب والشتائم. لقد كان الدولار أقوى من كل كلمات المثقفين والمفكرين العرب والفلسطينيين.
طمأنة
الرواتب سيتم دفعها، ولا ضرورة للهلع، ذلك لأن الرواتب لم تستنفذ مهامها بعد. سيتوقف الغرب ومن والاه عن دفع الرواتب بعدما يتم التأكد أن الشعب في الضفة الغربية قد انزوى تماما إلى مصالحه الخاصة، ولم تعد القضايا الوطنية تهمه في شيء. نحن لم نصل هذه المرحلة بعد، وسيستمر دفع الرواتب. فقط المسألة الآن عبارة عن ليّ ذراع للتذكير بان إرادة الناس السياسية في جيب فلان وعلان.
لكن من المهم ألا يتهم الذين يعترفون بإسرائيل وينسقون أمنيا ومدنيا معها ويحملون سلاحا بترخيص منها ألا يتهموا الآخرين بالخيانة.
شعب فلسطين أعظم
لا نستطيع أن نعمم ما أتى في هذا المقال على شعب فلسطينن وإنما نحصره فقط في الذين ارتضوا أوسلو وباريس، وحققوا مكاسب شخصية على حساب القضية الفلسطينية. غالبية الشعب الفلسطيني يعون الآن المعادلة الواردة في هذا المقال، ويدركون جدلية الإركاع والإخضاع التي اتبعها أهل الغرب والصهاينة بالتجاوب من قبل قيادات فلسطينية، لكن الظروف ليست سانحة بعد للتغيير. التغيير قادم، وشعب فلسطين لا يعجز عن صناعة التاريخ.
شعب فلسطين هو أكثر شعب تعرض للتشريد والقتل والهدم والملاحقة والتعذيب والاعتقال والتنكيل سواء من قبل الصهاينة أو الأنظمة العربية أو دول العالم عموما في التاريخ الحديث، لكنه بقي صابرا صامدا. وإن أصابه إحباط الآن، أو زلت بعض أقدامه، فإن المستقبل واعد. غالبية الشعب الفلسطيني يتمسكون بحقوقهم، وليسوا على استعداد للمساومة أو المقايضة أو التنازل، وهم ثابتون عند مواقفهم الوطنية، ولن يفرطوا بحقوقهم. التاريخ في حالة تغير مستمر، وإذا كانت اللحظة لحظة هبوط بالنسبة لشعب فلسطين، فإن زمن الصعود ليس ببعيد. كدنا نفقد الأمل بالشعوب العربية، لكن التاريخ لا يخذل منطقه.