أحدث الأخبار
السبت 23 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
عندما تنخرط فئات الشعب المسحوقة في جبهة أعداء الثورة في تونس..!!

بقلم : شكري بن عيسى*  ... 29.07.2011

لم تمض الدقائق القليلة على وضع الدكتاتور بن علي رجله الأولى خارج قصر قرطاج يوم 14 جانفي 2011، حتى هرعت كل الأطراف والقوى المجرمة والمتنفذة والحائزة على الامتيازات العالية وكذلك الخونة والعملاء بالتآمر مع قوى الهيمنة والوصاية العالمية إلى التحرك الفوري لمناهضة الثورة والتصدي للثوار وإيقاف المد الثوري بكل ما أوتوا من قوة وعدد وعتاد وآليات جبارة سخّروها للغرض. وكيف لا والمعركة باتت منذ الوهلة الأولى معركة حياة أو موت بالنسبة للكثيرين منهم.
فانطلقوا منذ اللحظات الأولى في إتلاف أدلة إدانتهم وطمس معالم جرائمهم للهرب من العقاب وتقليص الخسائر في مرحلة أولى، ثم الانطلاق في مرحلة ثانية إلى المحافظة على المكاسب وإعادة إنتاج الظروف الجديدة التي تضمن استمرار مصالحهم المتنوعة وحتى تعزيزها، ولجأوا في سبيل ذلك إلى التكتل حتى تكون فعالية التحركات عالية الدرجة والعملية في مجملها مضمونة النتائج.
وإذا كان هذا حال أعداء الثورة المباشرين والذين لهم مبرراتهم (وليس أعذارهم)، فان ما لم يكن مستساغا هو أن تتحول معظم شرائح الشعب بصفة واعية في شق ولا واعية في شق آخر إلى جبهة أعداء الثورة مساهمين بفاعلية مرتفعة بذلك في كبح جماح حركة التغير والمساهمة بذلك في إعادة إنتاج الدكتاتورية والفساد والارتهان للخارج.
ولم يكن غريبا والحال هذه أن تجهض كل أهداف الثورة بتعطيل تفكيك نظام الدكتاتورية والفساد من كشف الجرائم والاخلالات وتطهير المؤسسات من الفاسدين والمجرمين وتحريرها من سيطرة الحكومة اللاشرعية ورأس المال المتنفذ والمحاسبة والمحاكمة الفعلية العادلة ولم نصل بعد إلى التأسيس للبناء في اتجاه إحداث التغيير الحقيقي نحو الحرية والعدالة والكرامة والنهوض، في ظل وجود قوى مناهضة للثورة تمتلك كل آليات القوة والمال والعتاد والاتحاد لتحقيق هدفها الاستراتيجي.
فأزلام التجمع وأركان الدكتاتورية وبارونات المال والفساد وقوى الهيمنة الامبريالية والصهيونية والأنظمة العربية المتضررة من نجاح الثورة التونسية وأعمدة البيروقراطية الإدارية والنقابية وما تبقى من عصابة الطرابلسية ووسائل الإعلام الفاسد المتآمر وجهاز البوليس السياسي والنظام العسكري والقمعي بالاشتراك مع الحكومة اللاشرعية بدبلوماسيتها وجدوا أنفسهم في خندق واحد لاستعمال كل الوسائل بشراسة عالية من اجل ضمان البقاء والإجهاز التام على الثورة ولم يكونوا قوة هينة لتحقيق أهدافهم الحيوية خاصة وأن تصميمهم كان عاليا واللعبة لديهم أصبحت لعبة 'كسر عظم'، كما استعملوا الحيلة والتضليل والردع والترهيب لحمل شق كبير من الشعب على الانصياع لحركتهم مستغلين كل عوامل الضعف والهشاشة لدى الشعب ومكامن الاختراق لديه.
وكان التركيز على كل الفئات المرتبكة والقانعة والخائفة والقلقة والخانعة والانتهازية كذلك لتحويلها إلى صفها في معاداة الثورة أو في مستوى اقل إلى أطراف محايدة مهادنة والإلقاء بها خارج المعادلة تماما. وأستغل أعداء الثورة المباشرين لتنفيذ مخططهم الدقيق جهل الكثيرين ونقص وغياب الوعي لدى عديد الفئات والرهبة لدى البعض ولعبوا على تغذية المطامع لدى آخرين وتوصلوا إلى التوظيف الأمثل لهذه الموارد البشرية للدفع بها إلى الركون إلى الواقع والرضى والقنوع والتسليم بالموجود وإخضاعها للابتزاز والمساومات والتهديد بضرب حقوقها وصولا إلى خنق وتضييق هامش الحريات والتعبير والاحتجاج السلمي وجرها في النهاية إلى دائرة الخوف والهلع وإسقاطها في فخ 'الفزّاعات' من 'فوضى أمنية' و'قاعدة' أو 'فراغ سياسي' إلى 'الانهيار اقتصادي' و'حرق الصابة' وغيرها ووصل الحد إلى الزج بالبعض في فتنة 'العروشية' كما في قفصة وسبيطلة أو 'العرقية' كما في تطاوين باللعب على الأصول البربرية.
ومن بقي فقد تم التركيز لديهم على 'فزّاعة' 'تأجيل الانتخابات' وتغذية الانتماء الحزبي إلى حد عال حيث أصبح الاصطفاف السياسي والدعاية والاستقطاب هو الطاغي على حساب استحقاقات الثورة الحقيقية وعلى نفس الوتيرة والسلبية كانت حركة المجتمع المدني حيث سجل عدد الجمعيات ارتفاعا مهولا ولكن في اتجاه استيعاب الزخم الثوري في إطار التقنين والإلهاء عن المهام الثورية.
وكان لا بد لتحقيق ذلك من خلق جو من الفوضى والضبابية بطريقة التضليل الإعلامي مقرونا بإطار من الرعب عن طريق القمع الممنهج الذي طال الإعلام في عديد الحالات لإرباكه وإخضاعه حتى هو للابتزاز برغم موالاته الكبيرة للحركة المضادة للثورة .
ولم تكن إثارة القضايا العقيديّة الحساسة مثل 'اللائكية' وقضية 'نادية الفاني' في فلمها المعروف 'لا ربي ولا سيدي' وقضية رفض 'السنّة الشريفة' بإمضاء الأستاذ محمد الطالبي كقضايا هامشية الاّ للإلهاء والتهميش لتمرير مشروع إجهاض الثورة.
وفي توجّه 'توظيفي' بامتياز تم 'نفخ الروح' فيما يسمى بالنخبة التي كانت محنّطة لسنوات طويلة و'زرعها' مثل الفقاع في كل المنابر الحوارية الإعلامية وهي الفاقدة لكل مشروعية أخلاقية وعلمية وثورية حتى تبرز على أنها القيادة الفكرية للثورة وتعمل عبر أفكارها المتكلسة على تعميق 'التصحّر الفكري' الذي كرسه بن علي على مدى عشرات السنين. أما صفحات الشبكات الاجتماعية 'الفايسبوك' التي كانت تقود قاطرة الثورة باقتدار فقد سقط أبرزها في لعبة 'ترك الفرصة' للحكومة أو التكرار والاجترار وانزلق البعض منها في الغايات الربحية بتوظيف الصفحات بمقابل مالي أو بيعها لأعداء الثورة وخاصة الأحزاب المفرّخة عن التجمع أو دخولها في اللعبة السياسية لفائدة أحد الأطراف الحزبية أو انخراط مشرفيها في الدعاية الشخصية والبروز الإعلامي أو السياسي.
ولم يسلم دعاة الثورة من التوظيف فكان اللعب على ترسيخ 'الزعامتية' لدى كثير من الثوار والظهور الإعلامي والمجد والشهرة لدى البعض الآخر وبشكل اعم الانتهازية في 'أنصع' مظاهرها، فتحوّل العديد من الثوار إلى 'راكبين' على الثورة بعدما انتقلت العدوى إليهم من الخارج حيث هنالك تجار الثورة ابرز من صناعها الذين استشهدوا وبيعت دماؤهم ولم ينصفهم التاريخ وغدر بهم الزمن وحتى إقامة العدالة على جزاريهم لم تتم..
ما يثير الأسى حقا أن الشعب التونسي لم يدرك قيمة ما شرع في انجازه، منذ صرخة البوعزيزي المدوية في كل أرجاء المعمورة يوم 17 ديسمبر 2010، وتوجها بكنس الدكتاتور يوم 14 جانفي 2011، فخضع في النهاية للترويض والتغييب عن حقيقة ملحمته، وغاب عن قراره أن الثورة لا تحدث إلا مرة بعد عشرات القرون، وان في ميزان الثورة سنة من التغيير تساوي عشرات السنين من التغيير في المسار العادي للتاريخ، وأنه فرط أو يكاد في فرصة تاريخية لاستكمال الثورة والقصاص العادل للشهداء وكل المتضررين وتحقيق أهداف الثورة في استئصال الدكتاتورية ومحاسبة الفساد والقضاء على التبعية والارتهان للخارج وبناء الدولة الديمقراطية التي ستمكن من تكريس التوزيع العادل للثروة والمشاركة الفعالة في السلطة للجميع والمساهمة العالية للنهوض بالوطن لكل الشعب دون استثناء.
فهل ستنكشف اللعبة ويعي الشعب فداحة ما فرط فيه قبل فوات الأوان؟

حقوقي وقانوني تونسي*