بقلم : د.خالد الحروب ... 20.12.2011
كان سهلاً على برهان غليون، المثقف العميق والأكاديمي الراسخ، أن يركل جانباً كل قضايا العرب ومجتمعاتهم وينحاز إلى أنانية بحثية تبدع في شأن من شؤون الفلسفة أو الاجتماع النظري وتبقى محلقة في أبراجها العاجية. هناك ألوف من الأكاديميين العرب في الجامعات الغربية فضلوا أن يغرقوا في علومهم المتخصصة والضيقة بأنانية الباحث المفهومة، ولم يعبأوا بالشأن العام. لكن غليون كان من أولئك الذين بقوا مشتتين بين الرغبة الجامحة في التخصص في علومهم، والغرق في ما يحدث في بلدانهم والانخراط فيه بحس المسؤولية والالتزام. ما كتبه عن "اغتيال العقل" و"بيان من أجل الديمقراطية" و"الاختيار الديمقراطي في سوريا"، و"أدوار المثقفين" جزء من اهتمام أوسع بقضايا استحوذت جهده وتفكيره.
لكن كاتب "اغتيال العقل" يتعرض اليوم لـ"اغتيال سياسي" فج وبشع من قبل كثيرين قرروا اغتيال عقولهم وأفهامهم، والحد الأدنى من الإنصاف والموضوعية قبل دلق أحكامهم بالتخوين والتكفير والعمالة. إسلاميون وقوميون وماركسيون وغيرهم هجموا على برهان غليون في أعقاب مقتبسات قصيرة مترجمة بطريقة سخيفة وغير دقيقة من مقابلة في غاية الأهمية أجرتها معه "وول ستريت جورنال" الأميركية في منزله في باريس. في المقابلة المذكورة تحدث "غليون" وبالعمق المشهود له فيه عن قضايا شائكة في الشأن السوري:الطائفية والمواطنة، الدولة والنظام والأجهزة الأمنية العلمانية والشريعة، خيارات السوريين والتدخل الخارجي، سوريا الجديدة ما بعد سقوط النظام وعلاقاتها الخارجية، وسوى ذلك كثير. في جانب العلاقات الخارجية أجاب عن سؤالين حول العلاقة مع إيران و"حزب الله"، وهي الإجابة التي أثارت عليه أعشاش دبابير حلفاء نظام الأسد والمدافعين عن جرائمه ضد شعبه. معظم التعليقات والاتهامات التي وجهت إلى برهان غليون بسبب تلك الإجابة اقترفت ثلاث خطايا في آن معاً: الأولى لها علاقة بفهم وتناقل ما قاله غليون فعلاً (نقلاً عن الترجمة غير الدقيقة للنص الإنجليزي)، مع تحريف لما قيل وتضخيمه، والثانية لها علاقة بالمنطق و"العقل" حيث يفترض النقاد أن على المجلس الوطني والثورة السورية وسوريا ما بعد الأسد أن يفصحوا عن ودهم لإيران و"حزب الله" والامتنان لهما بعد موقفهما من الثورة، والثالثة في اعتبار ما قال غليون (سواء بدقة أو محرف) وكأنه القول الفصل في تشكيل سوريا ما بعد "البعث"، فهنا غليون يعبر عن رأيه وتطلعاته وبالتأكيد لا يريد ولا يستطيع حتى إن أراد أن يفرض ذلك الرأي، وتلك التطلعات على كل السوريين، وإلا لتحول إلى ديكتاتور آخر. كما أنه من السذاجة الافتراض أن سوريا الجديدة سوف تخضع لرأي شخص واحد مهما كان، بل إن في ذلك إهانة للشعب السوري وثورته والمستقبل الذي يريد.
ما قاله "غليون" بدقة وتم تحريفه وتضخيمه في تلك المقابلة عن العلاقة مع إيران هو التالي: "العلاقة الحالية مع إيران غير طبيعية، وهي غير مسبوقة في تاريخ السياسة الخارجية السورية. سوريا الجديدة ستكون جزءاً لا يتجزأ من الجامعة العربية، وسوف تعمل على تحسين دور الجامعة العربية ودور الدول العربية إقليمياً، وبخاصة أنهم (أي جامعة الدول العربية والدول العربية) اتخذوا قرارا تاريخياً وغير مسبوق لدعم الشعب السوري. سوريا في قلب المشرق العربي، ولا يمكن أن تعيش خارج إطار علاقاتها مع الجزيرة العربية، ودول الخليج، ومصر والدول العربية الأخرى. نحتاج إلى دعم اقتصادي واستثماري من أشقائنا العرب في المستقبل. ومستقبلنا مرتبط بحق بالعالم العربي والخليج على وجه التحديد. وفي المستقبل سوف نحتاج إلى مساعدة حقيقية وجدية مالية واقتصادية لإعادة بناء سوريا. علاقاتنا مع إيران سوف يُعاد النظر فيها مثل بقية الدول في المنطقة، كي تكون قائمة على تبادل المصالح الاقتصادية والدبلوماسية، وفي إطار تحسين الاستقرار في المنطقة. ولن تكون علاقة خاصة لن تكون هناك علاقة خاصة مع إيران. وهذه هي القضية الأساسية، أي التحالف العسكري. إنهاء العلاقة الخاصة معناه إنهاء التحالف العسكري الاستراتيجي، لكننا لا نمانع في استمرار العلاقات الاقتصادية".
ما المشكلة في كل ذلك؟ لماذا يريد نقاد غليون أن تبقى سوريا حديقة خلفية لإيران ونفوذها وسياساتها؟ ولماذا يرفضون أن تلعب سوريا الجديدة دوراً مستقلاً في قلب المنطقة العربية وتعيد حشد طاقة عربية جديدة ليكون لها دور إقليمي. الكل يتباكى على غياب دور إقليمي عربي في ظل تقاسم المنطقة بين نفوذ تركي وآخر إيراني. أليس من المنطق تأييد توجه غليون وبأمل أن يكون التوجه الجماعي بعد الثورات العربية، أي بناء كتلة عربية مستقلة وفاعلة في الإقليم؟ إضافة إلى ذلك ما المشكلة في إنهاء العلاقة الخاصة مع إيران وأن تعود إلى شكل طبيعي متوازن؟
في الإجابة عن السؤال الخاص بـ"حزب الله" قال غليون ما يلي: "علاقتنا مع لبنان سوى تكون علاقة تعاون واعتراف متبادل وتبادلات قائمة على المصالح، وبحيث نعمل مع لبنان على تحسين الاستقرار في المنطقة. وكما ستتغير علاقتنا مع إيران فإن علاقتنا مع حزب الله ستتغير. حزب الله بعد سقوط النظام السوري لن يبقى كما هو، ولبنان يجب أن لا يُستخدم ساحة لتصفية الحسابات السياسية كما كان يحصل أيام الأسد. أما حماس فقد انتقلت الى سياسة جديدة وهي تعمل الآن مع منظمة التحرير الفلسطينية لتوحيد الفلسطينيين، ولن تكون حماس المدعومة من قبل النظام السوري. علاقتنا مع حماس سوف تكون من خلال علاقتنا مع منظمة التحرير من ناحية سياسية ومن خلال علاقتنا مع المجتمع المدني الفلسطيني.".
مرة أخرى، أين "الطامة الكبرى" التي استدعت ذلك النواح المقاومي الكبير على التصريحات أعلاه؟ أين المشكلة عندما يرسم غليون صورة لسوريا ما بعد نظام الأسد وهي ترسم علاقاتها مع "حزب الله"، الذي وقف ضد ثورتها، ويقول سوف تكون علاقتنا مع الدولة اللبنانية، قائمة على احترام سيادتها. وأن سوريا الجديدة سوف تكون مع الفلسطينيين موحدين وليس مع طرف منهم ضد الطرف الآخر؟ أصحاب مقامات المناحة المقاومية يريدون دولاً "ساحات" تعج فيها الفوضى وسمتها الدمار الشامل. الشيء الوحيد المُشتعل فيها هو ضجيج الشعارات التي تهدد إسرائيل والإمبريالية بالويل والثبور. في واقع الأمر يقول إن من قتلهم نظام المقاومة والممانعة من شعبه، من الشعب السوري الثائر، تجاوزوا حتى الآن من قتلتهم إسرائيل في حرب تشرين كلها. عند كثيرين هذا كله وغيره لا يهم، ما يهم هو الشعار الطنان!