أحدث الأخبار
السبت 23 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
السيف ليس أصدق إنباء من الكتب!!

بقلم : د.فيصل القاسم ... 25.09.2011

لا بد أن أعتذر أولاً من شاعرنا العظيم أبي تمام صاحب البيت الشهير:"السيف أصدق إنباء من الكتب...في حده الحد بين الجد واللعب". ولا بد أن أقول له أيضاً: "سامحك الله يا أبا تمام". ربما كانت فلسفتك الشعرية القائمة على تفضيل القوة على الإقناع والدبلوماسية مناسبة لعصرك الذي كان يمجّد السيوف، ويحتقر الإعلام. لكنها، بالتأكيد، لم تعد مناسبة، بأي حال من الأحوال، لعصر السموات المفتوحة، لا بل إنها لم تكن حتى مناسبة للقرن العشرين بأكمله، حيث أصبح الإعلام أقوى وأمضى وأكثر نجاعة وبأساً، ليس فقط من السيوف والرماح، بل أيضاً من البوارج وحاملات الطائرات والصواريخ العابرة للقارات.
ويعترف الكاتب الأسترالي الشهير جون بلجر، بأن الإعلام في الغرب، هو أداة ترويع من نوع ما، فكما تستخدم الدول الشمولية العنف لتركيع مجتمعاتها وتطويعها فإن الدول "الديمقراطية" الغربية تستخدم الإعلام لضبط شعوبها، وإخضاعها. بعبارة أخرى، فإن الإعلام الغربي، وسيلة تحكم، وردع رهيبة.
وقد انتبه الأمريكيون إلى خطورة الإعلام قبل حوالي مائة عام. لهذا فضلوه، لإدارة مجتمعاتهم، على وسائل القمع والإكراه التقليدية التي كان معمولاً بها تاريخياً. ولعل صدور الكتاب الشهير الموسوم "بروبوغاندا" لمؤلفه الخطير إيدوارد بيرنيس يُعتبر بداية عصر القوة الناعمة وأفول نجم القوة الخشنة التي كانت تستخدمها الحكومات للسيطرة على الشعوب وإخضاعها وتطويعها وتسييرها في الاتجاه المطلوب. ففي عام ألف وتسعمائة واثنين وعشرين ظهر ذلك الكتاب التاريخي بكل المقاييس ليضع فيه مؤلفه أسس ومبادئ التحكم بالشعوب من قبل ما أسماه بـ"القوة الخفية" التي تدير كل شيء من وراء الستار، لا بل إنها تحدد للناس أذواقهم حتى في المأكل والمشرب واللباس، ناهيك عن تشكيل آرائهم وعقلياتهم وتجنيدها في خدمة النظام الحاكم. بعبارة أخرى، لا يغرنكم كثيراً مصطلح "الرأي العام" في بلد مثل الولايات المتحدة، فالرأي العام المزعوم ليس، في واقع الأمر، رأي الشعوب، بل رأي القوى الخفية التي تدير الشعوب وتوجهها في الاتجاه المطلوب سياسياً وثقافياً واجتماعياً وسلوكياً واقتصادياً. ويسخر الكاتب في مقدمة كتابه من أولئك الذين يتباهون بأنهم يعيشون في "بلد حر" مثل أميركا والعالم الغربي عموماً، وبأن بإمكانهم أن يفعلوا ما يشاؤون دون أن يدروا بأنهم لم يختاروا حتى لون لباسهم بمحض إرادتهم، بل بناء على الدعاية التي تمطرهم بها وسائل الإعلام ليل نهار، بحيث يصبح المتلقي مجرد إنسان مسيّر إلى أبعد الحدود في أبسط اختياراته اليومية. فبمقدور وسائل الإعلام أن تصنع من الناس ما يصنع المخرج من الممثلين، فكما أن المخرج يمكن أن يبرمج الممثل للقيام بدور معين ويتقنه على أكمل وجه، بإمكان وسائل الإعلام أن تبرمج الناس وتجعل منهم مجرد منفذين لاستراتيجيات وتوجهات معينة لا تفيد سوى الذين ابتكروها لأهدافهم وأغراضهم الخاصة. والغريب أن الأشخاص المسيّرين يعتقدون خطأً أنهم أحرار في آرائهم التي يدافعون عنها باستماتة على أكثر من صعيد دون أن يعلموا أنهم يدافعون عن آراء غيرهم. ولا ننسى أن الإعلام قادر أن يجعل الإنسان يتحسس رأسه إذا ما سمع شخصاً يسأله مرتين: "هل رأسك في مكانه"؟ فما بالك إذا كان الإعلام يرّسخ ليل نهار مفاهيم وأفكاراً معينة في أذهان وعقول المتلقين على مدار الساعة. وفي هذا السياق نتذكر أيضاً كتاب "المتلاعبون بالعقول" لصاحبه هيربيرت شيللر الذي يؤكد على ما جاء في كتاب "بروبوغاندا" سابقاً.
ولا ننسى أيضاً أن جوزيف غوبلز وزير إعلام هتلر الشهير الذي ارتبط اسمه بالكذب الإعلامي الممنهج كان معجباً إلى أبعد الحدود بكتاب إيدوارد بيرنس، لا بل كان يضعه في واجهة مكتبه هو وسيده هتلر، بالإضافة طبعاً إلى كتاب شهير آخر يقدم وصفات رائعة لتوجيه الشعوب كما يوجه الراعي القطعان، وهو كتاب "سيكولوجية الجماهير" للمفكر الفرنسي الشهير غوستاف لوبون. ويجمع خبراء الإعلام أن إيدوارد بيرنس الأميركي هو الأب الروحي لوزير إعلام هتلر جوزيف غوبلز. لكن من الواضح أن سطوع نجم غوبلز وارتباطه بهتلر جعله أكثر شهرة من مخترع لعبة السيطرة الإعلامية الأصلي بيرنيس.
باختصار شديد، من الخطأ الفادح الاعتماد على القوة الغاشمة في تسيير المجتمعات وفرض أجندات معينة على الشعوب، فالقوة الناعمة أقوى بكثير الآن وأكثر نجاعة حتى في زمن الحروب. فلا ننسى أن القوى الكبرى لا تبدأ بشن حرب على بلد معين إلا بعد أن تكون قد أنهكته إعلامياً، بحيث يكون استخدام القوة الخشنة مجرد تكملة ليس إلا. بعبارة أخرى، فإن الطليعة الحقيقية هو الإعلام الذي يروّض النفوس، ويمهد الساحة أمام الزحف العسكري، ويصد الضربات المعاكسة، وليس آلات البطش والتدمير. وبالتالي بدلاً من الاعتماد على القوة الوحشية، من الأفضل اللجوء إلى التوجيه والتسيير الإعلامي الناعم عن بعد على الصعيدين الداخلي والخارجي.
أما الدول التي تستخف بدور الإعلام وخطورته، فلا بد أن تعي أن أي بلد في العالم يتعرض لهجمة إعلامية عالمية يجب أن يعرف أن الموضوع ليس مجرد سحابة عابرة، بل إن القادم أخطر وأعظم بكثير، وبأنه سيكون على كف عفريت عاجلاً أو آجلاً، خاصة أن القصف الإعلامي ما هو إلا تمهيد للقصف الناري لاحقاً. شهدنا ذلك في العراق الذي تمت شيطنته إعلامياً لسنوات قبل الإطاحة بنظامه. وشهدنا ذلك في ليبيا التي ظل الإعلام يقصفها تمهيداً لإسقاط نظامها. وقد تم إسقاط نظام القذافي غير مأسوف عليه طبعاً. وإذا كان النظام السوري يعتقد أن الهجمة الإعلامية العالمية عليه مجرد سحابة صيف فهو مخطئ تماماً. والأيام بيننا.
وبالتالي لا بد لفهم اللعبة الإعلامية والتصدي لها الاعتماد على الخبراء وعلماء النفس الإعلاميين، وليس على طبيبة بواسير منافقة، أو موظف بلدية سخيف، أو مغترب على باب الله، يفهم بالإعلام كما أفهم أنا بالانشطار النووي ما بعد الحداثي كما نشاهد على بعض التلفزيونات العربية البائسة هذه الأيام التي تتعامل مع الإعلام بعقلية بلشفية خشبية بائدة كمن يطلق النار على قدميه.