بقلم : د.فيصل القاسم ... 02.10.2011
كتبت قبل حوالي عامين مقالاً أثنيت فيه كثيراً على مسلسل «ضيعة ضايعة» باعتباره أول مسلسل سوري يكسر قوقعة الدراما السورية ويحررها من ربقة الحارات المغلقة، واللهجة الواحدة، والزي الواحد، والثقافة الطاغية. لا بل إنني ناشدت العاملين في الحقل الدرامي الانطلاق بالدراما السورية العظيمة إلى أفق أرحب، وعدم حصرها في بقعة واحدة، وها هو الكاتب الرائع الدكتور ممدوح حمادة والمخرج البديع الليث حجو وقد راحا فعلاً يوسعان بيكار الدراما مرة أخرى بنقلها هذه المرة من قرية «أم الطنافس» في الساحل السوري الخلاب إلى قرية «الخربة» في ربوع جبل العرب الأشم. إنّها الديمقراطية الدرامية بأحلى صورها. إنّها اللامركزية الدرامية المنشودة التي لطالما طالبنا بها. فكما أنّ الديمقراطية السياسية تعمل دائماً على التنوع وعدم حصر السلطات في المركز، بحيث يتمّ تمثيل كلّ الشرائح والمناطق وإشراكها في العملية السياسية، فإنّ الديمقراطية الدرامية يجب أيضاً أن تخرج من شرنقة المركز، فليس هناك مدينة واحدة في هذا العالم تمثّل بلداً بأكمله مهما كانت كبيرة وعريقة، فمصر ليست القاهرة، ولا واشنطن هي أمريكا، ولندن على عظمتها ليست بريطانيا. كم أكبر في الدراما المصرية أنها لم تبق حبيسة القاهرة؛ بل ذهبت مثلاً إلى أعماق الصعيد لتعيد إنتاج ثقافته درامياً ولتنتج هناك أروع المسلسلات. وكذلك فعل البريطانيون الذين تمتلئ شاشاتهم بطيف مدهش من المسلسلات، فهناك المسلسل الشهير «كورونيشن ستريت» الذي يصوّر الحياة في شمال إنكلترا، وهناك مسلسل «إيست أندرز» الذي يصوّر الحياة في شرق العاصمة، حيث لهجة «الكوكني» الإنجليزية الفاقعة في عاميّتها. لكن لا بأس، ها هي الدراما السورية بدأت تدخل عصرها الديمقراطي.
فبعد أن استمتعنا أيما استمتاع بمناظر الساحل السوري البديع، وبلهجة قراه النادرة وحكايات أهلها الطيبين، ها نحن الآن نشاهد مناظر ريف محافظة "السويداء" بحجارته الفريدة وأرضه الحمراء وسهولة الغناء، ولا شك في أنّ الكثير من السوريين، فما بالك بالعرب، تعرفوا من خلال مسلسل «الخربة» الجديد إلى منطقة لا تبعد عن دمشق أكثر من ساعة بالسيارة، لكنّها عالم آخر بلهجتها وطبيعيّتها وعاداتها وتقاليدها وثقافتها. وكما تمكن ممدوح حمادة من الدخول في أعماق اللهجة الساحلية في مسلسل «ضيعة ضايعة»، فقد برع أيضاً في إعادة الحياة إلى مفردات وعبارات جبلية في السويداء كنت أعتقد أنها اندثرت. يا الله كم شعرت بسعادة غامرة وأنا أستمع إلى الفنانين الكبيرين دريد لحام ورشيد عساف وهما يغرّدان بكلمات قروية من صميم ريف السويداء، مثل «إسّا» (يعني الآن)، و"القلفوني" وهي قطعة من الصابون يستخدمها الرجال كي يثبتوا فيها شواربهم المفتولة كي تأخذ شكلاً معقوفاً. وكم جميل أن نسمع الممثلة الرائعة شكران مرتجى وهي تنادي الدجاجات: "يعيا تيعا" لتناول القمح، وأيضاً وهي تعاير زوجها "جوهر" الذي أدى دوره ببراعة كبرى الفنان الجميل محمد خير الجراح المهووس بلقاء المسؤولين والتقاط صور معهم. وكم ممتع أن نسمع ضحى الدبس وهي تنادي ابنها "يا قبـاري"، وترهب زوجها باسم ياخور الذي أبدع في دوره المليء بإشارات التعجب والاستفهام. آه كم استمتعت بالدور الذي لعبه الممثل القدير محمد حداقي، وهو دور "راعي العجال"، أي راعي البقر، خاصة أنني عملت في تلك المهنة في طفولتي راعياً للأبقار. وكم جعلني أحن إلى بقرتنا الشقراء "عروس" التي كانت تعتاش عائلتنا على حليبها الطيب.
شكراً ممدوح حمادة لأنك استعدت تلك المفردات من غياهب النسيان ببراعة أحسدك عليها. آه كم جعلتني أحنّ أيضاً إلى أيام «تنصيب الفخاخ» لصيد العصافير الزرعي والمطاويق في كلّ مرة أسمع فيها في مسلسلك كلمة «القعقور»؛ أي الحجارة المبنيّة بعضها فوق بعض على شكل عمود حجري صغير. آه كم بنينا قعاقير لتمييز الأراضي التي كنّا «ننصب فيها الفخاخ». آه كم استمتعنا بشرب الشاي المغلي على الحطب من ذلك الإبريق الأسود الذي حوله لهيب «الخصيّب» إلى لون الحجارة البازلتية السوداء التي تحيط بنا في «الثعلي» و "الطيري"، وغيرهما من كلّ حدب وصوب. آه لقد ذكرتني بذلك «البنوج» الجميل الذي كنّا نلجأ إليه هرباً من «مزوخ الشتا» و"عدّان السقعا" على حدود قرية "الداره".
ولا شك في أن الأستاذ دريد لحام استفاد كثيراً من الفترة التي أمضاها في منطقة صلخد مدرساً، قبل أن يتحول إلى الفن، لهذا جاءت العبارات السويدانية على لسانه في قمّة الروعة، لكن بنكهة لبنانية أحياناً. والشكر موصول أيضاً للفنانين الكبيرين جمال العلي وأحمد الأحمد اللذين أتقنا لهجة صعبة للغاية. أما إخوتنا وأصدقاؤنا؛ رشيد عساف، وممدوح الأطرش ومشهور خيزران، ومهند قطيش، وضحى الدبس، وأدهم مرشد، ورافي وهبي، وشادي الصفدي، وعياد عيد، وإيمان بلان، وربا الحلبي، وحنان شقير، ومنذر أبو راس، ومروة الأطرش، وغيرهم فهم من «عظام رقبة» السويداء، فلا عجب إذن أن تنساب العبارات الجبلية على ألسنتهم كما تنساب المياه الرقراقة من «رُقق العيد» بالقرب من بيدر جدي أسد و"صحرة" عمي خليل و"شقفة" عمي صقر و"كرم بيّي بالخريّبي".
آه كم حننت إلى تلك الأيام الخوالي وأنا أشاهد مسلسل «الخربة» وشخصياته المنتقاة بعناية فائقة من صميم الواقع. يا الله كم هو جميل منظر مضافاتنا العامرة بحجارتها السوداء وقلوب أهلها البيضاء، كما قال يوماً أخونا وصديقنا الأديب المخضرم حسن م يوسف. وأدعو الله أن تبقى بيضاء وألا تتأثر باللون البازلتي الذي بدأ يكسو بعضها.
إن قيمة تلك المسلسلات لا تكمن فقط في إمتاعنا وتعريفنا بثقافات محلية جميلة؛ بل أيضاً هي بمثابة توثيق تاريخي وخاصة للهجات المحكية التي ربما قد تندثر ولا تجد من يوثقها أكاديمياً وبحثياً.
صحيح أن لريف السويداء سحره الخاص من الناحية المشهدية، إلا أن الحلقات التي شاهدتها لم تخرج كثيراً من البيئة البازلتية التي اشتهرت بها المحافظة. كان بودي لو طلع المخرج إلى ظهر الجبل في السويداء، تلك المنطقة الخلابة، خاصة في موسم قطاف شتى أنواع الفاكهة التي تشتهر بها المحافظة. ربما في الجزء الثاني.
أخيراً تحية إلى الكاست الجميل الذي لا شك جاهد كثيراً كي يتقن لهجة أهل الجبل التي يشق فيها حرف «القاف» الصخر لقوته ووضوحه. "والله يعطيكن العافية يا غانمين! ونكافيكم بالفراح"!!