أحدث الأخبار
الاثنين 25 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
الطلبة العرب في الغرب: بين «الاستشراق» و«الاستغراب» !

بقلم : خالد الحروب ... 4.10.07

في مؤتمر أكاديمي عُقد مؤخراً في جامعة نايميخن الهولندية حول "صعود السلفية في العالم" قُدمت أوراق كثيرة، ستنشر لاحقا في كتاب، غالبيتها من قبل باحثين أوروبيين شبان في العشرينيات من عمرهم. ينتمي هؤلاء الباحثون الى جيل جديد من "المستعربين" الذين يتقنون اللغة العربية، وتستند أبحاثهم الى مصادر أولية ونتائج زيارات قاموا بها للمنطقة وأقاموا لفترات متفاوتة في هذا البلد أو ذاك. في هذا المؤتمر ربما لم تبق قضية لها علاقة بالسلفية الا ونوقشت بعمق ومعرفة مثيرين. هؤلاء الباحثون من فرنسا، والنرويج، وهولندا، وبريطانيا وغيرها يعرفون كل "أبوات التيار السلفي" عن قرب، وكل ما يفكرون به: أبو مصعب الزرقاوي، أبو بصير الطرطوسي، أبو فلان البغدادي، وأبو علان السوري، وهكذا. يعرفون تاريخ السلفية من عهد ابن تيمية الى محمد بن عبد الوهاب وصولاً الى ربيع المدخلي. بل ومن الممكن القول إن قلة من الباحثين العرب هم على اطلاع معمق بتفاصيل الصورة السلفية كما عرضها أولئك الباحثون. في كل مؤتمر عن أية موضوعات عربية يمكن الانتباه لنفس الظاهرة: كثافة في صعود جيل شاب جديد من الباحثين الأوروبيين والغربيين في القضايا العربية.
في زمن الحدود الثقافية والعلمية المفتوحة ليس هناك ما يمنع أحداً من دراسة أي شيء في أي مكان. كما أن ذات الزمن يوفر فرصاً هائلة لتعميق المعرفة بالذات والآخر، ولا يمكن توجيه اللوم لمن يستفيد من تلك الفرص بأقصى ما يمكن، لكن اللوم يوجه لمن يضيعها ولا يستثمرها. وهنا بالضبط لب الفكرة في هذه السطور: لماذا لا نجد جيلاً من الشبان العرب البحاثة يدرسون قضايا العالم ويستفيدون منها ويفيدون مجتمعاتهم بالخبرة التي هم في مقدمة من يمكنهم التبحر فيها واستكشافها؟ انه نفس السؤال الذي يطرحه الراحل ادوارد سعيد مطالباً بانشاء مراكز للدراسات الغربية في الجامعات العربية، كجزء من الحل. وهو الموضوع الذي كان حسن حنفي قد اقترحه بتأسيس علم "الاستغراب" كجزء من الحل أيضاً.
غالبية طلبة الدراسات الانسانية العليا العرب في الغرب يذهبون الى هناك ليدرسوا بلادهم وقضايا مجتمعهم، التي كان بامكانهم دراستها وهم في بلدانهم، ومن دون كل الأعباء المادية والسفر والأكلاف الأخرى. وهناك بالفعل اشكالية حادة ازاء هذه المسألة يقابلها اهتمام قليل بمناقشتها والتأمل فيها. عشرات الآلاف منهم في أوروبا والولايات المتحدة تلتحق بجامعات كبيرة وعريقة وتتمتع بخبرات واسعة وموارد وأرشيفات ثمينة توفر للدارسين فيها فرصة ذهبية للاطلاع على ما لا يمكن الاطلاع عليه في بلدانهم. لكن الاستفادة من تلك الموارد والمناخ العام تكون في المجمل ضئيلة لأن غالبية أولئك الطلبة تفضل دراسة موضوعات تتعلق ببلدانهم ومجتمعاتهم الأصلية. وليس في ذلك مشكلة كبيرة لو كانت هناك نسبة معقولة ممن يدرسون موضوعات أوروبية وأمريكية وعالمية أخرى، آسيوية وأفريقية، تعمق من المعرفة العربية بالتجارب والأفكار والسياسة والاقتصاد والتحولات التي شهدتها تلك المناطق وتواريخها.
علينا أن نقر بأن معرفتنا العلمية والأكاديمية والبحثية بـ"الآخر" ما تزال غير عميقة على أقل تقدير، ان لم نقل هشة، وبالكاد تتجاوز التغطيات الاعلامية السريعة وما تخلقه من صور وانطباعات بخطوة أو خطوتين. المعرفة والخبرة العلمية هي التي توفر البنية التحتية لأي تصور أو فكر جديد، كما توفر ايضا الأساس لأي توجه سياسي أو اقتصادي معين. لكن هذه البنية التحتية الرصينة والممتدة والعميقة غائبة بشكل كبير. والمرشحون الأوائل والأهم لاقامتها هم طلبة الدراسات العليا والباحثون في مجالات الدراسات الانسانية.
وعلينا أن نشير كذلك الى أن طلبة الدراسات العليا العرب يستسهلون دراسة موضوعات خاصة ببلدانهم ومجتمعاتهم لعدة أسباب بعضها عملي وبعضها ثقافي. بعضهم تجذبه الأرشيفات الغربية التي قد يجد فيها عن قضايا مجتمعه وتاريخه وسياسته ما يجده في بلاده. وبعضهم الآخر يستسهل البقاء في فضاء اللغة العربية والاعتماد على أدبيات لا يستطيع الوصول اليها أو التعامل معها طلبة غربيون بنفس السهولة. وهناك نسبة منهم، وهي الأقل مع الأسف، تنشر الدراسات والأبحاث التي تقدمها كأطروحات لشهادات الماجستير أو الدكتوراه باللغات الأجنبية، وهذا انجاز مهم ويستحق التقدير، خاصة ان كان منهج البحث والنتائج والمعرفة المقدمة تقدم ما هو جديد ورؤية مختلفة عما هو سائد في الأدبيات الغربية. الأمر الآخر الايجابي الذي تتوجب الاشارة اليه في دراسة "الذات" في الغرب هو امتلاك العقلية النقدية ومناهج البحث العلمي التي هي خلاصة تجارب طويلة الآن خاصة في الأكاديميات الغربية. لكن تلك الايجابيات المحدودة لا تتناسب مع الجهد والوقت والمال المبذول والفرص المواتية لتعظيم ايجابيات وفوائد أكثر بكثير.
أليس من الغريب أن يعود آلاف الطلبة مثلاً من الولايات المتحدة وليس منهم الا أعداد قليلة جداً قد درست موضوعات خاصة بأمريكا: هل هناك أطروحات دكتوراه عربية في الولايات المتحدة درست التاريخ الأمريكي، الحرب الأهلية هناك، كيف بدأت وكيف انتهت، النظام الفيدرالي بين الولايات، طبيعة التوافقات الثقافية والدينية والاجتماعية المكونة للشعب الأمريكي، علاقة المهاجرين من غير أصول أنجلو سكسونية، العنصرية، الاقتصاد والسياسات النقدية، العلاقات بين المال والاقتصاد والاعلام والصناعة العسكرية، الأدب الأمريكي... الخ؟ هل هناك متخصصون عرب في الحزب الجمهوري أو الحزب الديمقراطي يقابلون المتخصصين الأمريكيين في معظم ان لم يكن كل الأحزاب السياسية والدينية العربية؟ وأليس من الغريب أن يعود الطلبة الأمريكيون الذين يدرسون في البلدان العربية وقد درسوا نظائر تلك الموضوعات في البلدان العربية التي درسوا فيها؟
هل هناك طلبة عرب درسوا ما يحدث في فرنسا وألمانيا وبريطانيا وأوروبا بشكل عام، وعادوا الى بلدانهم بخبرات جديدة حول كيفية الاستفادة من تلك التجارب؟ في أي المنحنيات سارت كل تجربة من تلك التجارب، وكيف اتسقت علاقات الأطراف المتنافسة والتصارعية، وما علاقة الداخل بالخارج، وعلاقة الفكر بالسياسة، وعلاقة الاقتصاد بذلك كله؟ كيف تطورت فكرة الاتحاد الأوروبي مثلاً، وأين هي الآن، وما هو مستقبلها؟ هل هناك باحث عربي قدم مؤخراً أطروحة، على سبيل المثال، حول توسع الاتحاد الأوروبي وانضمام دول جديدة اليه خلال العشر سنوات الأخيرة، وما هي منعكسات ذلك؟ أو حول توسعة حلف الناتو؟ أو حول السياسات النقدية الأوروبية وعلاقة اليورو بالدولار ومستقبل تلك العلاقة وما تعنيه بالنسبة للعالم؟ بل هناك بحوث لها علاقة مباشرة بالعرب وعلاقتهم بالغرب مثل وضع فكرة التعددية الثقافية في الغرب من ناحية فلسفية وفكرية والى أين تسير وما أثر الجدل حولها على الجاليات العربية؟ أو وضع الدين في المجتمع وكيفية التعامل معه؟ الجدل الدائر في العديد من الدول الأوروبية على مستوى التشريعات بشأن التعامل مع المهاجرين والاثنيات والتجنيس؟ وغير ذلك من موضوعات يضيق المجال عن تعدادها.