أحدث الأخبار
السبت 23 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
"التنسيق" الفلسطيني الأخطر مع إسرائيل!!

بقلم :  نقولا ناصر* ... 23.06.2012

*("عملية السلام" حولت الاقتصاد الفلسطيني من أداة للمقاومة إلى أداة في يد الاحتلال ترسخ التبعية له وتجعل "الاستقلال" السياسي الفلسطيني مستحيلا)
إن الأضواء المسلطة على "التنسيق الأمني" بين سلطة الحكم الذاتي الفلسطينية وبين دولة الاحتلال الإسرائيلي تبقي أنوارها بعيدة عن كشف التنسيق الاقتصادي الأوسع والأعمق والأخطر الذي يبقي الحياة الفلسطينية معلقة على العصب الاقتصادي الذي يبقيها تابعة تبعية عضوية لا فكاك منها للاحتلال ودولته، وهي تبعية تجعل التنسيق الأمني تحصيل حاصل لضمان استمرار التبعية الاقتصادية التي لا يمكن تحقيق "الاستقلال" الفلسطيني المأمول دون التخلص منها أولا.
منذ بداية الغزوة الصهيونية لفلسطين كانت المقاطعة الاقتصادية للمستعمرات اليهودية ومستوطنيها إحدى أدوات المقاومة الأولى التي استخدمها عرب فلسطين لصد تلك الغزوة، حيث كانت هذه المقاطعة أداة مقاومة رئيسية في ثورة عام 1936 ثم في الانتفاضة الفلسطينية الأولى أواخر ثمانينيات القرن العشرين الماضي وكذلك في انتفاضة الأقصى الثانية في مستهل القرن الحادي والعشرين.
غير أن "عملية السلام" التي أطلقت في العاصمة الاسبانية عام 1991 واتفاقيات أوسلو التي انبثقت عنها بعد عامين قد أنتجت "سلطة وطنية فلسطينية" يعتمد بقاؤها على تحويل الاقتصاد الفلسطيني من أداة للمقاومة إلى أداة في يد الاحتلال تطيل أمده وترسخ التبعية له وتجعل "الاستقلال" السياسي الفلسطيني مستحيلا.
إن التزام حكومة السلطة برام الله بالاتفاقيات الموقعة مع دولة الاحتلال، ومنها على سبيل المثال اتفاقية معابر قطاع غزة عام 2005، لا يزال يتخذ ذريعة "فلسطينية" لعدم فك الحصار العربي عن القطاع، وفك هذا الحصار ممكن، وهو إن تحقق يمكنه أن يحرر القطاع من استمرار ارتهان حياته الاقتصادية للاحتلال ودولته.
فالملحق السادس للاتفاق الانتقالي الاسرائيلي الفلسطيني على الضفة الغربية وقطاع غزة الموقع في واشنطن عام 1995 ينص في مادته الخامسة على "التعاون الاقتصادي"، و"التعاون الصناعي"، و"التعاون الزراعي"، و"تسهيل التعاون" بين "المؤسسات الاقتصادية وقطاعات الأعمال" و"إقامة المشاريع المشتركة"، و"التعاون بين المشاريع الصغيرة ومتوسطة الحجم"، و"تسهيل التجارة بين السوقين"، و"جذب" الأعمال الدولية وبخاصة "الشركات متعددة الجنسيات". وكان قد تم في السنة السابقة توقيع بروتوكول باريس الاقتصادي الذي قال وزير الاقتصاد السابق حسن أبو لبدة إن لدى السلطة برام الله "ألف سبب" لإلغائه، معتبرا أن كون "فلسطين تحتل المرتبة 135 في العالم على مقياس أداء الأعمال .. مؤشر خطير على التحديات التي تواجه المستثمرين في بلدنا" (القدس العربي في 4/5/2012).
والمفارقة أنه بينما وصلت "مفاوضات السلام" إلى طريق مسدود سياسيا وأصبحت كل الاتصالات والمفاوضات تجري حول كيفية استئنافها، فإن التجارة بين "السلطة اللسطينية" وبين دولة الاحتلال تستمر في النمو بحيث بلغت قيمة التبادل التجاري العام الماضي حوالي (4.3) مليار دولار أميركي معظمها سلع إسرائيلية تتدفق على مناطق السلطة عبر آلاف الوكلاء والشركاء والموزعين الفلسطينيين أو مباشرة دون وساطتهم.
و"إسرائيل" اليوم هي الشريك التجاري الأول للسلطة الفلسطينية بينما تمثل مناطق السلطة ثاني أكبر سوق للبضائع الإسرائيلية بعد الولايات المتحدة.
في كلمته أمام المنتدى الاقتصادي العالمي الذي انعقد في اسطنبول في الخامس من الشهر الجاري قال الرئيس محمود عباس إن الاحتلال "يحول دون تكامل الدورة الاقتصادية في بلادنا"، لكنه كرر التأكيد على "الوفاء بالالتزامات كافة المترتبة علينا في الاتفاقيات المبرمة ... وقدمنا كل ما هو مطلوب منا في هذا الخصوص"، متجاهلا أن "الوفاء بالالتزامات" هو على وجه التحديد الذي يقطع "الدورة الاقتصادية" الفلسطينية، لا بل إنه أكد أن "منطقتنا بحاجة إلى مد جسور التعاون والسلام والحوار"، ويشمل ذلك "جيراننا الاسرائيليين".
لكن استمرار هذه "الجسور" مفتوحة هو المسؤول عن التبعية الاقتصادية الفلسطينية الراهنة للاحتلال ودولته وهو الذي يمثل العقبة الاقتصادية الرئيسية التي تجعل "الاستقلال" السياسي الفلسطيني مستحيلا دون الاستقلال الاقتصادي، والعكس صحيح أيضا.
إنه فخ اتفاقيات أوسلو الذي أوقعت قيادة منظمة التحرير شعبها فيه.
وفي اليوم نفسه، كان محافظ سلطة النقد الفلسطينية د. جهاد الوزير يحذر، في مقابلة مع اليومية العبرية "كالكاليست" من أن "الأزمة المالية" التي تعيشها الحكومة برام الله "قد تسوء أكثر" إذا لم تف الدول العربية بتعهداتها بتوفير "شبكة أمان" مالية لها بحيث سيكون من الصعب عليها دفع رواتب موظفيها اعتبارا من تموز / يوليو المقبل، وأعلن بأن البنوك العاملة في فلسطين "تلقت تعليمات" بعدم منح المزيد من القروض للحكومة لأنها "وصلت الخط الأحمر"، وذلك بعد أسبوع فقط من دعوته عرب "إسرائيل" في مؤتمر المال والأعمال العربي الذي انعقد في الناصرة في الثلاثين من الشهر الماضي إلى الاستثمار في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967.
وتذكر دعوة الوزير بمؤتمرات تشجيع الاستثمار التي ترعاها السلطة و"يسهلها" الاحتلال، مما يذكر بدوره برسالة الماجستير التي خلص فيها عيسى سميرات العام الماضي إلى أن استثمارات القطاع الخاص الفلسطيني في دولة الاحتلال بلغت ما لا يقل عن (2.5) مليار دولار عام 2011 مقابل (1.5) مليار دولار في الضفة الغربية، وأن حوالي (16) ألف صاحب أعمال من الضفة الغربية يحصلون على "تصاريح" للعمل في دولة الاحتلال وفي مستعمراتها الاستيطانية لتأسيس شركات ومصانع فيها يدفعون ضرائب عنها لخزينتها.
وفي مقابلة لسميرات مع "هآرتس" العبرية قال إن وزارة الاقتصاد في رام الله فسرت له ذلك بقولها إن "بروتوكول باريس" لا يحظر على الفلسطينيين الاستثمار لا في "إسرائيل" ولا حتى في مستعمراتها الاستيطانية، مما يذكر أيضا بقول رئيس وزراء دولة الاحتلال بنيامين نتنياهو على موقعه الالكتروني (netanyahu.org) إن ذاك البروتوكول قد أبرم "من أجل منع إقامة حدود اقتصادية" بين الجانبين.
ولا يزال ما لا يقل عن (35) ألف عامل فلسطيني يعملون في المستعمرات الاستيطانية بالضفة الغربية، يدفع كل منهم حوالي ست دولارات يوميا رسم تصريح للعمل فيها، أي انهم في مجموعهم يدفعون (210) آلاف دولار يوميا لخزينة الاحتلال، حسب خالد منصور منسق مقاطعة سلع الاحتلال في دراسة له.
إن استثمار القطاع الخاص في المستعمرات الاستيطانية ومناطقها الصناعية واستمرار العمالة الفلسطينية فيها هما دليل فشل حملة المقاطعة التي قادتها حكومة السلطة برام الله ومفارقة اقتصادية تتناقض مع مطالبة السلطة بوقف الاستيطان كشرط لاستئناف المفاوضات السياسية مع دولة الاحتلال.
لكن السؤال يظل معلقا عن السبب الذي ما يزال يحول دون السلطة الفلسطينية وحكومتها برام الله ومنع الاستثمار الفلسطيني في دولة الاحتلال ومستوطناتها، فسحب (2.5) مليار دولار من الاستثمار فيهما واستثمار هذا المبلغ في الضفة كفيل بفتح أسواق عمل وطنية تغنى العمالة الفلسطينية عن ذل العمل لدى الاحتلال ومستوطنيه.
واستمرار الوضع الاقتصادي الراهن تجسيد عملي ل"السلام الاقتصادي" الذي دعا نتنياهو إليه، حاثا على "الاستثمار اليهودي في الاقتصاد الفلسطيني"، بالرغم من رفض منظمة التحرير المعلن له، وهو وضع يسوغ التقرير الذي قدمته حكومة نتنياهو للدول المانحة في بروكسل في آذار / مارس الماضي لاثبات أن الاقتصاد الفلسطيني "لا يسمح بإقامة دولة مستقلة" فلسطينية.
في التقرير الذي قدمه ممثل اللجنة الرباعية الدولية، توني بلير، للجنة في بروكسل في الحادي والعشرين من آذار / مارس الماضي قال إن "التعاون الاقتصادي الفلسطيني الاسرائيلي مستمر في القطاعين العام والخاص". وهذا سر مكشوف يبدو أن الطرفين يتعمدان عدم تسليط الأضواء عليه.
ويبدو أن هذا "التعاون" قد اتسع ليشمل التعاون مع رأس المال اليهودي العالمي. فقد أبرم موريس ليفي المدير التنفيذي لشركة "بوبليسيز"، وهي إحدى أكبر شركات الإعلان في العالم، صفقة اشترى بموجبها مؤخرا (20%) من شركة "زووم" الفلسطينية، لتتكون منهما شركة "بوبليسيز زووم" الجديدة التي تضم قائمة عملائها بنك فلسطين. وليفي، الذي اشترى حصة أكبر في شركة إسرائيلية أيضا، حاصل على "جائزة القيادة الدولية" من رابطة مكافحة التشهير اليهودية الأميركية، إحدى أذرع اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة، وقد علق على الصفقتين بأنهما تمثلان "مساهمة" منه في التنمية الاقتصادية "التي لا يمكن أن يحل أي سلام دائم من دونها" (صحيفة "الجيماينر" اليهودية الأميركية في 19/6/2012).
إن استمرار الالتزام الفلسطيني بهذا النهج الاقتصادي قضى عمليا على المقاطعة العربية لدولة الاحتلال التي تخلت مصر عنها أولا وتبعها الأردن ثم انسحبت منها البحرين بعد أن أسقطتها بقية الدول العربية بهذا القدر أو ذاك لتكون العربية السعودية آخر من أنهى حظر السلع والخدمات الإسرائيلية كي تتأهل للانضمام إلى منظمة التجارة العالمية، لتظل سورية يتيمة في التزامها بالمقاطعة ... في الأقل حتى الآن!
إن حجم هذا "التنسيق الاقتصادي"، وبخاصة الاستثمار الفلسطيني في المستعمرات الاستيطانية، يتجاوز كثيرا إطار أي ضرورات تبيحها المحظورات الوطنية الفلسطينية.