بقلم : د.خالد الحروب ... 28.12.2011
قرار "حماس" الاستراتيجي بتبني المقاومة السلمية والشعبية في المرحلة الحالية ينبغي أن يُرحب به، وهو يشير إلى تطور في الوعي والنضج السياسي في الحركة، وتقديمها للأولوية الوطنية على الأولوية الحزبية. وقد مهد هذا القرار، على الفور، مساحة توافقية أوسع مع "فتح" ومنظمة التحرير الفلسطينية وفرت أرضية أكثر صلابة للمصالحة الفلسطينية. وتصريحات قادة "حماس" بأن المناخ الإقليمي والدولي تغير بشكل دراماتيكي بما يفرض على الجميع تغيراً في النظرة للاستراتيجيات والتكتيكات تعكس أيضاً إدراكاً مطلوباً للاشتراطات التي تفترضها المتغيرات السياسية، عوضاً عن التنكب لها وإهمالها. وإضافة إلى ذلك فإن واحداً من الدروس التاريخية التي قدمتها الثورات العربية، وخاصة التونسية والمصرية، تجسد في "الفعالية المدهشة للمقاومة السلمية". فقد اتسمت الثورتان بتبني منهج الاحتجاجات السلمية واسعة النطاق والمدعومة بوسائل الإعلام التلفزيونية والاجتماعية. وقد حققتا ما لم تحققه الثورات المسلحة التي تمت عسكرتها فيما بعد. وإذن فإن ما ينبغي أن يسيطر على العقل السياسي الفلسطيني هو فعالية "الوسيلة" و"الهدف".
لقد تزايدت القناعة الفلسطينية في السنوات الأخيرة بالمقاومة الشعبية وبفاعليتها، وبرز إجماع مؤثر حولها في الأوساط السياسية والحزبية الفلسطينية، على خلاف النظرة الاستهتارية لها خلال عقود ماضية. ويمكن أن تتبنى الأطراف الفلسطينية المختلفة المقاومة الشعبية بالطريقة التي تريد، ولكن تلك الاستفادات الفرعية تعظم من الاستفادة الوطنية العامة. وتمتاز المقاومة الشعبية ببعدها التأييدي المعولم باتساع نطاق التأييد لها والمنخرطين فيها، وتشمل النخب والمنظمات غير الحكومية وبرلمانيين وسياسيين حاليين وسابقين. وطبيعتها اللاعنفية تساعد على جذب المزيد من المؤيدين نظراً لأن أكلافها غير باهظة، وبسبب معقولية أساليبها وصعوبة مواجهة منطقها.
وتعريف ومفهوم المقاومة الشعبية يتسع ليشمل جوانب نضال سلمي عديدة، متداخلة، وذات جغرافيات وتجمعات وأدوات مختلفة، تتضمن المظاهرات والاحتجاجات الداخلية ضد المستوطنات والجدار وكل أشكال الاحتلال، والمقاطعة الشاملة، ومقاطعة إسرائيل خارجيّاً، والتعاون مع شبكات عالمية واسعة من المتضامنين للتأليب على مقاطعتها دولياً بما في ذلك المقاطعة الأكاديمية والاقتصادية، وملاحقتها قضائيّاً، وكشف عنصريتها عن طريق الإعلام ووسائله المعولمة الحديثة، وتحويلها إلى دولة منبوذة في العالم قائمة على "الأبارتايد"، وكل ذلك بهدف خلق رأي عام عالمي لا يتحمل غض النظر عن جرائم إسرائيل واحتلالها ويدفعها إلى الخضوع للقانون الدولي كما حدث في تجربة جنوب أفريقيا.
وتستند الدعوة إلى تبني استراتيجية المقاومة الشعبية في فلسطين إلى ركنين أساسيين هما: الإمكانية والفعالية، وكلاهما يتم تطبيقه وتفعيله بإسناد إعلامي مهني وشعبي أيضاً. وتبني وتطبيق هذه الاستراتيجية يقع في نطاق القدرة والإمكانية الفلسطينية، وهي استراتيجية ذات فعالية كبيرة وبإمكانها تحقيق أهداف كبيرة على الأرض. وعلى رغم اختلاف الظروف والبيئات فلنا أن نتأمل فعالية الثورات العربية السلمية ونجاحها في جذب تعاطف عالمي واسع وفي إطاحتها بأنظمة استبدادية شرسة. ويمكن المجادلة هنا بأن هناك قبولاً فلسطينيّاً متزايداً ومتسارعاً لاستراتيجية المقاومة الشعبية، وأن ثمة ظروفاً محيطة مشجعة ويمكن تلخيص ذلك بما يلي:
تكمن أهمية ومركزية المقاومة الشعبية فلسطينيّاً في قدرتها على إعادة الجماهير إلى ساحة النضال اليومي. وهي الجماهير التي انسحبت من الشارع ومن المشاركة الفعالة بسبب فوضى السلاح والمظاهر السلبية التي رافقت الانتفاضة الثانية سنة 2000، وأقصيت عنه لصالح التنظيمات والفصائل المسلحة فقط. وعندما يسيطر الرصاص على الشارع المُقاوم فإن المقاومة تتحول إلى صراع مسلح بين مجموعات المقاومين والقوة العسكرية الباطشة المعنية. وما لم تكن ظروف النجاح والظفر مهيأة فإن أحد النواتج التقليدية لهذا الشكل من المقاومة هو خوف الناس العاديين من المشاركة ودفعهم إلى السلبية. وفي المقابل يمكن القول إن المقاومة الشعبية غير العنفية قادرة على إعادة الروح لدور تلك الجماهير في العمل العام والضاغط، واستدعاء الناس إلى ساحة الفعل النضالي الإيجابي. وما يحصل ضد الجدار وفي بعلين ونعلين وأماكن أخرى في فلسطين دليل راهن على ذلك.
وتتمتع المقاومة غير العنيفة بموقف أخلاقي يعلو فوق الاحتلال الإسرائيلي والغطرسة الصهيونية. ولا يعني هذا مطلقاً أن المقاومة المسلحة غير أخلاقية أو أنها تضعف من عدالة القضية. بل المقصود هنا هو أن المقاومة الشعبية غير العنفية تعمل على جلاء تلك العدالة في أنصع صورها بسبب حرمانها العدو من أي محاولة لاستغلال وتوظيف أو تشويه المقاومة بشكل عام. ولعل ردود الفعل الإسرائيلية المتشنجة والعنيفة على مظاهر المقاومة الشعبية والمعولمة، تحت مزاعم نزع الشرعية عن إسرائيل تدلل على التأثير البالغ لهذه المقاومة.
ثم إن تبني المقاومة السلمية الشعبية كاستراتيجية فلسطينية شاملة استلزم شروطاً ليست بالسهلة، ولكنها الآن أصبحت قيد الاستطاعة. وأول هذه الشروط وأهمها يتمثل في تحقيق توافق وطني شامل على شكل وجوهر هذه المقاومة كي تحقق أهدافها. وإن لم يتحقق هذا التوافق الوطني الشامل وأصرت بعض التنظيمات على التمسك بالمقاومة المسلحة فإننا نعود لتكرار سيناريو تبني عدة استراتيجيات في وقت واحد بما يعني تآكل منجزاتها مهما كانت صغيرة نتيجة التصادم الحتمي بين تلك الاستراتيجيات. ومن البديهي أيضاً أن المقاومة الشعبية والمعولمة تستلزم الإعلان وبكل وضوح ممكن عن التخلي عن المقاومة المسلحة (من دون أن يعني ذلك تلميحاً أو تصريحاً بشأن أي إدانة للكفاح المسلح وتاريخه في النضال الفلسطيني، أو لفكرة المقاومة المسلحة للاحتلال الأجنبي كأسلوب شرعي وقانوني وفعال عندما تتيح الظروف ممارستها).
ويندرج أيضاً في الاشتراطات الأساسية لتبني هذه المقاومة بث الوعي الحزبي والشعبي إزاء معنى وأهمية ومغزى وتأثير المقاومة غير العنفية، وبناء حاضنة شعبية داعمة ومؤيدة له. ولا يجوز استسهال هذا الأمر لأن "ثقافة المقاومة" المترسخة في الوجدان الفلسطيني والعربي تكاد تنحصر في "المقاومة المسلحة" فقط. والانتقال بهذه الثقافة إلى مسار آخر يحتاج إلى جهود كبيرة وحملات تعبئة. وإضافة إلى ما سبق فإن خطاب المقاومة الشعبية ينبغي أن يستند إلى أركان قوية، ومكونات متماسكة وهجومية، تعكس فيما تعكسه غلبة المكون الإنساني والحقوقي والتركيز عليه، والتمسك بمفاهيم العدالة التي يقوم عليها الحق الفلسطيني المدعوم بالقانون الدولي والضمير العالمي، وإعادة التأكيد على التفريق الواضح والحاسم بين الصهيونية واليهودية، وأن الصراع هو مع الأولى وليس الثانية، وكذلك الابتعاد عن التورط في معارك خاسرة ولا علاقة للفلسطينيين بها وتحديداً مسألة الهولوكوست واللاسامية، بل على العكس من ذلك على الخطاب الجديد أن يعلن تضامناً لا لبس فيه مع ضحايا تلك الجريمة الكبرى، ويعمل على تحييد استثمارها الانتهازي المتواصل من قبل إسرائيل والصهيونية.