بقلم : د.فيصل القاسم ... 08.01.2012
لا أعتقد أبداً أن الشعوب العربية الثائرة أو التي ستثور أو القابلة بوضعها على مضض تطلب المستحيل من الطواغيت الجاثمين على صدورها منذ عشرات السنين، لا أبداً. فمطالبها بسيطة للغاية وقابلة للتحقيق بسهولة، إنها كما قال السفير البريطاني في إحدى الدول العربية، تثور من أجل الحصول على أبسط حقوقها لا أكثر ولا أقل ولا تتعدى تلك الحقوق التي نالتها كل شعوب العالم تقريباً حتى في مجاهل إفريقيا حرية التعبير والعيش بأمان بعيداً عن التدخلات الأمنية في أبسط أمور حياتها. لا يوجد تكميم للأفواه وتوحش أمني كما هو الحال في بعض الدول العربية التي تتكاثر فيها الأجهزة كالخلايا السرطانية في جسد الأوطان المنهكة بالقهر والقمع والتعدي على كرامات الناس. هل يعقل مثلاً أن تتدخل أجهزة أمن الطيران في بناء مطعم؟ لا شك أن الأمر يبدو نكتة سمجة، لكنها ليست نكتة أبداً، ففي بعض الدول يمكن لجهاز أمن الطيران أن يتدخل في تأديب تلميذ صغير في مدرسة ابتدائية، كما يمكن لجهاز أمن الجيوش أن يتدخل في معاقبة شخص أضاع جواز سفره أو فقد بطاقته الشخصية كما سنرى لاحقاً.
بعبارة أخرى، فإن مطالب الشعوب التي ثارت أو التي ستثور ليست مطالبا من العيار الثقيل. لا أبداً. إنها مطالب تبدو سخيفة بالنسبة للشعوب الحرة، وبالتالي يمكن تأمينها بقرار بسيط من طرف الطواغيت، إلا إذا كان أولئك الطواغيت مجرد واجهة لأنظمة تقودها وتسيرها وتتحكم بكل مفاصلها أجهزة الأمن، وهذا أمر مشكوك فيه، فالطاغية في البلدان العربية هو من يحرك الأجهزة ويزودها بالتعليمات والتوجيهات، ومن ثم يحميها بقوانين لا يمكن اختراقها أبداً. ففي بعض الدول العربية لا يمكنك بأي حال من الأحوال رفع دعوى قضائية على أي شخص يعمل لدى الأجهزة الأمنية حتى لو قتل أهلك واغتصب أقرباءك. لماذا؟ لأنه محمي من قبل رأس الدولة، وبالتالي لا يمكنك مقاضاته إلا بعد أن تحصل على إذن من ذلك الرأس. "وعيش يا كديش حتى يطلع الحشيش". ومما يؤكد ذلك، أن ضابطاً عربياً كبيراً قال ذات يوم إن باستطاعته وضع كل الشعب في السجون بسهولة كبرى، لكنه لا يستطيع أن يُخرج شخصاً واحداً من السجن من دون إذن الحاكم. فمتى يعلم حكامنا أنه من الأسلم والأنجع لهم ولأنظمتهم وأجهزتهم أن تتوقف عن ملاحقة الشعوب والتنغيص عليها لأن الكيل قد طفح ونتيجته وخيمة جداً على الأوطان خراباً ودماراً وتدخلاً خارجياً. لكن لا حياة لمن تنادي. فالأمور السهلة في مفهوم أولئك الطغاة المتخلفين والسافلين صعب للغاية، وبالتالي كان لابد من إسقاطهم وحتى سحلهم وخوزقتهم كما حصل لبعضهم بعد إحدى الثورات المجيدة. لهذا إذا كان هناك من يريد أن يتعظ مما حصل للذين بالغوا في استخدام كلاب صيدهم لإذلال الشعوب وخنق حريتها وملاحقتها في أبسط أمورها، فلابد لهم أولاً أن يلجموا تلك الكلاب. و"كلاب الصيد" هو طبعاً الوصف الذي أطلقه الشاعر العراقي الراحل عبدالوهاب البياتي على بعض أجهزة الأمن العربية التي لا هم لها سوى الانقضاض على كل من يومئ لها أسيادها بصيده وإيداعه الأقبية المظلمة أو الزنازين ومراكز التعذيب لعشرات السنين دون أي شفقة أو رحمة لأتفه وأسخف الأسباب.
لا أدري كيف تحملت الشعوب هذا الضيم والظلم غير المسبوقين تاريخياً على أيدي أجهزة تفننت، ومازالت تتفنن في تركيع الناس وإهانتهم وتخويفهم وإذلالهم ومحاربتهم بلقمة عيشهم ووظائفهم وأبسط الخدمات الاجتماعية. صحيح أن النظام الشيوعي الحقير الذي كان سائداً في الاتحاد السوفيتي الساقط والبائد كان يعمل بمبدأ "الكل يتجسس على الكل" لبث الرعب في نفوس الجميع وجعلهم خائفين وقلقين من بعضهم البعض كي يتمكن النظام الحاكم من بسط سيطرته على البلاد ودوس العباد. لكن ذلك النظام البغيض انتهى بسقوط الاتحاد السوفيتي ومنظومته العفنة، بينما ظل سائداً بطرق أقرف وأحقر في العديد من الدول العربية التي استمرت في إذلال الشعوب وإبقائها تحت البساطير. وقد أخبرني أحدهم ذات يوم أن ضابطاً أمنياً كبيراً في إحدى الدول العربية قال أمام مجموعة من الحاضرين في جلسة خاصة بالحرف الواحد:"إن الشعب في بلدنا ليس سيئاً دائماً، وبالتالي علينا أن نرفع حذاءنا من على رأسه قليلاً بين الحين والآخر". تصوروا: هذه هي العقلية الحاكمة في بعض البلدان العربية. فهي لا ترى في الشعوب سوى قطيع من الحيوانات التي يجب إبقاء البسطار فوق رؤوسها على الدوام كي لا تلعب بذيلها، وتطالب بالحرية أو أبسط الحقوق الإنسانية.
لقد تغولت الأجهزة الأمنية في بعض البلدان على مدى عقود في بطشها وتسلطها، بحيث لم تترك شيئاً إلا وجعلته بحاجة لموافقتها حتى في أسخف وأبسط الأمور. تصوروا مثلاً أن شخصاً معاقاً اشترى بغلاً وأراد أن يستخدمه لجر خزان صغير لبيع الديزل اضطر للانتظار أشهراً كي يبدأ عمله لأن طلبه كان تحت الدراسة الأمنية. تصوروا أنك بحاجة للانتظار والخوف والمعاناة والتوسل وتقبيل الأحذية ودفع الرشاوى الكبيرة لأشهر كي تحصل على موافقة لبيع أبسط الحاجات، بينما تستطيع في البلدان التي تحترم نفسها أن تؤسس شركة، وتبدأ العمل فيها خلال ساعات أو أيام في أسوأ الأحوال. وقد تبين لاحقاً بعد الثورات المباركة أن هناك ألوف المهن التي تحتاج لموافقة أمنية في بعض البلدان، مما عطل وعرقل الاقتصاد لسنوات وسنوات، وكأن مهمة الأجهزة الرئيسية هو تخريب البلاد وإبقاؤها متخلفة ومرعوبة. والهدف من هذه السياسة الإجرامية التنكيلية هو جعل الأجهزة المرجع الأخير في البلاد، بحيث لا تتحرك ذبابة من دون موافقتها أو مباركتها، وذلك كي يظل الجميع يخشونها ويحسبون لها ألف حساب لأنهم مضطرون للحصول على رضاها في أتـفه وأسخف القضايا.