أحدث الأخبار
الجمعة 22 تشرين ثاني/نوفمبر 2024
ما أحوجنا إلى الفوضى الخلاقة!!

بقلم : د.فيصل القاسم ... 08.04.2012

لعل أكثر الأطروحات تداولاً في خطاب أعداء الثورات هو أن ما آلت إليه الأمور بعد الربيع العربي أسوأ بكثير مما كانت عليه الأوضاع أيام حكم الطواغيت. وكأنهم بذلك يترحمون على أيام الطغيان، ويحذرون الشعوب التي لم تثر بعد بأن تبقي على قرودها كي لا يأتيها ما هو أقرد منها. متى يعلم الذين يحاولون النيل من الثورات والتخويف من آثارها أن كل ما يحدث في العالم العربي من مشاكل وإرهاصات وتعقيدات بعد سقوط بعض الأنظمة الطاغوتية هو شيء طبيعي، لا بل صحي جداً؟
مشكلة البعض أنه كان يعتقد أن الثورات والتحولات التاريخية تحدث بكبسة زر. طبعاً الأمور ليست بهذه السهولة والبساطة، فقد شهدت البلدان الثائرة ما يشبه البراكين والزلازل. ومن المعروف أن الزلازل لا يمكن أن تنتهي نهاية نظيفة. فلا بد أن يكون هناك تبعات كثيرة لها حتى تستقر الأرض ثانية وتتغير الأمور والأحوال. ولا ننسي أيضاً أن أي عملية جراحية يجريها الإنسان يحتاج بعدها إلى فترة شفاء كي تتحسن صحته. لماذا غابت مثل هذه البديهيات عن أذهان الذين انساقوا وراء كذبة "الفوضى الخلاقة" التي روجها بعض أنصار الطواغيت على قلتهم؟
قد يجادل البعض بأن ليبيا مثلاً دفعت ثمناً بشرياً ومادياً باهظاً لإسقاط نظام القذافي، وأنها الآن بعد سقوطه تعاني كثيراً على الصعيد الأمني والسياسي والاجتماعي والاقتصادي والعسكري. وهذا صحيح. لكن المسؤول الأول عن ذلك ليس الثورة بل النظام الساقط نفسه عندما آثر مواجهة الشعب بالحديد والنار بدل النزول عند تطلعاته. مع ذلك، فليبيا لا تعيش حالة فردية، فكل الدول التي مرت بتجربة ليبيا لا بد أنها مرت بما تمر به ليبيا قبل أن تحقق غاياتها المنشودة من وراء الثورة. ماذا تتوقع من شعب كان محبوساً لأكثر من أربعين عاماً ولم يكن مسموحاً له إلا الأكل والشرب والتناسل؟ لم يسمح نظام القذافي لليبيين بأي حراك أياً كان نوعه على مدى فترة حكمه، فتحولت البلاد إلى ما يشبه المقبرة من حيث الحركة والنشاط. أما الآن وقد تحرر الشعب الليبي من قبضة الطاغية، فقد أصبح أمامه متسع للحركة، فبدأ يتحرك ولو بشكل عشوائي أحياناً. وحتى العشوائية في التحرك بالنسبة للشعوب الخارجة لتوها من تحت ربقة الطغيان هو أمر صحي. ولا ننسى أن الإنسان الذي يخرج من القفص بعد حبس لعشرات السنين لا بد أن يتصرف أحياناً بطريقة جنونية تعبيراً عن تخلصه من الأسر. وهذا أمر مفهوم. ولا شك أنه لن يطول الوقت حتى تبدأ الشعوب المتحررة تضبط حراكها وحركتها بما يتناسب مع مصالحها والأوضاع الجديدة. بعبارة أخرى فإن ما يسميه البعض بالفوضى الحاصلة في ليبيا الآن هي مجرد مرحلة مؤقتة مهما طالت. من الطبيعي أن يتنازع الناس فيما بينهم بعد الثورة بعد أن كانوا ممنوعين من التناقش حتى في أبسط الأمور وأسخفها. ولا ضير حتى في أن يتصارعوا في البداية، لكنهم بالتأكيد سيستقرون لاحقاً، ناهيك عن أنه من حق السلطات الجديدة أن تضبط الذين يحاولون استغلال الأوضاع الجديدة لتحقيق غايات شخصية بحجة أن البلاد أصبحت حرة. مثل هذه النوعية من البشر كانت موجودة على الدوام بعد كل الثورات، وهي ليست حكراً على ليبيا أو غيرها.
هل هناك أجمل من أن ترى الليبيين يتدافعون فيما بينهم سياسياً واجتماعياً وثقافياً واقتصادياً بعد أن كانت بلادهم في عهد الطاغية الهالك تغط في سبات عميق؟ لا شك أن دعاة الانفصال والتفكك لا مكان لهم في ليبيا الجديدة، ومن حق الدولة أن تحاربهم، خاصة أنهم امتداد للنظام البائد، ولا يمكن أن يمتوا للوضع الجديد بصلة، سيما وأن الثورات توحد ولا تفرق. أما ما عدا ذلك من اضطرابات وصراعات ومماحكات فهي ظاهرة صحية في بلد خارج لتوه من تحت نير الاستبداد والتسلط. ولا ننسى أن الديمقراطية تقوم على التنوع والاختلاف والتدافع. "ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض". صدق الله العظيم. فلماذا إذن التخوف من الحراك والتململ الدائر الآن في ليبيا أو مصر؟
والأمر الآخر: لماذا يتناسى المحذرون من خطر الثورات الدمامل والأمراض والعاهات التي خلفتها وراءها أنظمة الطغيان في ليبيا ومصر وغيرهما؟ ألا تترك الأنظمة الشمولية وراءها عادة مئات القنابل الموقوتة التي لا بد أن تنفجر بعد سقوطها؟ إن معظم المشاكل التي تحدث الآن في البلاد المتحررة من الديكتاتورية ليست بسبب التحرر والثورات، بل من نتاج ومخلفات الأنظمة الساقطة التي فعلت الأفاعيل السياسية والاجتماعية والاقتصادية ببلدانها كي تتمكن من السيطرة عليها وإخضاعها. لقد حاول القذافي مثلاً على الدوام ضرب القبائل ببعضها البعض كي يكون الحكم بينها. والآن وبعد أن سقط الطاغية من الطبيعي أن تظهر بعض ما صنعت يداه من شر على الساحة الليبية. وكذلك الأمر في مصر التي كان نظامها السابق يتفنن في دق الأسافين بين مكوناتها كي يتمكن من التحكم بها عن طريق القلاقل والمشاكل على مبدأ:فرق تسد. لكن مع ذلك، فإن نزعة الانطلاق إلى عالم جديد في مصر أقوى بكثير من الألغام التي تركها وراءه نظام مبارك.
هل هناك أجمل من ذلك الحراك العظيم الذي تعيشه مصر بعد الثورة؟ وهل كان المشككون بالثورات يتوقعون أن تتحول مصر إلى حديقة غناء بمجرد سقوط الطاغية؟ بالطبع لا، فلا بد من المرور بمرحلة مد وجزر عظيمة حتى تتطور الأمور إلى الأفضل. لماذا ننسى أن الغرب مر بحروب كلفته مئات الملايين من الأرواح حتى وصل إلى ما هو عليه من نهضة وتقدم وسؤدد وديمقراطية؟ لماذا نريد نحن أن ننتقل من الطغيان إلى الديمقراطية بين ليلة وضحاها؟ الأمور لا تسير بهذا اليسر والسهولة يا سادة. فللثورة ثمنها وتكاليفها. لكن لو قسنا الثمن الذي دفعته الشعوب مقابل الاستقرار الزائف بالثمن الذي ستدفعه بعد الثورات لوجدنا أن الأخير أقل بكثير. وكم أصاب الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون كبد الحقيقة عندما قال يوماً "إن الثمن الذي تدفعه مقابل إبقاء الأمور على حالها أعلى بكثير من الثمن الذي تدفعه ثمناً للتغيير". أليس الاستقرار الدائم شعاراً يصلح فقط لأبواب المقابر؟ أليس حرياً بنا أن نقول إذن: "ما أحوجنا إلى الفوضى الخلاقة؟"!!