بقلم : د.فيصل القاسم ... 06.05.2012
من أكثر الشعارات التي رفعها المتظاهرون في الثورة المصرية: "الشعب يريد إسقاط النظام". ولا شك أن ذلك الشعار انتشر في أوساط المتظاهرين كانتشار النار في الهشيم ليصبح الشعار الأبرز للثورة المصرية. ولا شك أن الشخص الذي صاغه سيدخل التاريخ من أوسع أبوابه. كيف لا وقد أصبح شعاره العنوان الأشهر للربيع العربي. ولم يتوقف الشعار في مصر، بل امتد فوراً إلى بقية البلدان الثائرة، فرفعه الثوار الليبيون، واليمنيون، والسوريون والبحرينيون. صحيح أن المتظاهرين الأردنيين لم يطالبوا بإسقاط النظام، إلا أنهم استوحوا شعاراتهم الأقل حدة من الشعار المصري، فأعادوا صياغته ليتناسب مع سقف مطالبهم، فكان شعار المحتجين الأردنيين: "الشعب يريد إصلاح النظام".
لكن مع كل الاحترام للشخص الذي نحت تلك العبارة الرنانة ولكل الشعوب التي تبنتها من بعده، لا بد من الإشارة إلى أن الشعار، على شهرته العارمة، كان شعاراً خاطئاً. صحيح أن في اللغة الانجليزية مصطلحاً تحقيرياً يستخدمونه لذم الحكومات الديكتاتورية والشمولية وهو مصطلح "regime"، أي نظام، إلا أنه، حسب التعريف المعجمي، لم يعد يعني "النظام" كمجموعة أحكام وقوانين تنظم العلاقة بين الحكومات والمجتمعات، بل أصبح يعني، حسب المعنى القاموسي الجديد تلك الحكومات المارقة والتسلطية التي تحولت من أنظمة إلى منظومات أو بالأحرى عصابات تحكم بقوة البطش والإجرام والتسلط والتخبط والعشوائية والانتقائية والمافيوزية. بعبارة أخرى، فلم يعد لها أي علاقة بالنظام لا من بعيد ولا من قريب بعد أن غدت مجرد مافيات منفلتة من عقالها. وبناء على ذلك، من الخطأ رفع شعارات تطالب بإسقاط النظام في الجمهوريات العربية، لأن النظام غير موجود أصلا كي تسقطه وتبني محله نظاماً جديداً.
لا شك أن الأنظمة التي تدعي أنها جمهورية مثلاً كانت تمتلك أجهزة أمن جهنمية من حيث القوة والتغلغل والتسلط والتجبر والتحكم، لكن الدولة بمؤسساتها المدنية والخدمية كانت أبعد ما تكون عن النظام، بحيث تحولت الدولة إلى ما يشبه العزبة أو المزرعة الخاصة التي تتحكم بها طغمة صغيرة العدد بواجهات حزبية لا محل لها من الإعراب أو الفعل عملياً لأنها مجرد عتلات أو أحذية يلبسها قائد الطغمة الحاكمة للغوص في المياه القذرة عندما يريد أن يعبر من مكان إلى آخر، ثم يخلعها ويركنها جانباً حتى يحتاجها مرة أخرى. وقد رأينا كيف تم شطب أحزاب كنا نعتقد أنها أصيلة ومتجذرة في بعض البلدان، فإذ بالطاغية يلغيها ويلغي دورها في الحياة السياسية دون حتى أن يستشيرها أو على الأقل أن تنظم تلك الأحزاب مؤتمرات عاجلة للإعلان عن مخططاتها الجديدة في ظل التحولات التي أحدثتها الثورات الشعبية لحفظ ماء وجوهها. لم نر أياً من ذلك، مما يؤكد أنه حتى الأحزاب الحاكمة التي كنا نظن أنها جزء من الأنظمة لم تكن في واقع الأمر سوى تابع ذليل للعصابة المنظمة التي سماها المتظاهرون خطأ "نظاماً".
وحتى البرلمانات التي كانوا يسمونها "مجالس شعب" كانت بدورها مجرد دورات مياه يقضي فيها الطاغية ورجاله المقربون حاجاتهم كما علق أحد نشطاء الثورة المصرية.
وحدث ولا حرج عن الاقتصاد الذي من المفترض أنه الرافعة التي يقوم عليها أي نظام سياسي لم يكن اقتصاداً أبداً، بل كان عبارة عن ملك خاص للطغمة الحاكمة التي، لأول مرة ربما في التاريخ الحديث، تمكنت من وضع السلطة السياسية والاقتصادية تحت جناحيها، بحيث غدا الاقتصاد اقتصاداً عائلياً مافيوياً أكثر منه وطنياً. لا عجب أن علق الشاعر العراقي الشهير أحمد مطر على استئثار العصابات الحاكمة بالثروة قائلاً إن الطواغيت الذين يدعون أن لديهم نظاماً:"يرونَ الدولةَ مثلَ الشِّاةِ المذبوحةِ..و اللحمُ مَشاعْ..كلبٌ يلتهمُ الأحشاءَ..و كلبٌ يلتهمُ الأوراكَ..وكلبٌ يلتهمُ الأضلاعْ".
ولا يختلف الوضع حتى بالنسبة لبعض الجيوش العربية التي أثبتت الأحداث الأخيرة أنها ليست جيوشاً نظامية وطنية بأي حال من الأحوال، وبالتالي، فهي ليست عماد نظام حقيقي، بل سلاح في يد العائلة أو الطغمة الفلانية، تستخدمه العصابات الحاكمة كما تستخدم المافيات القتلة واللصوص وقطاع الطرق والبلطجية المأجورين لتحقيق غاياتها ومطامحها.
ولعل أكبر دليل على أنه لا وجود لأنظمة في بلدان الربيع العربي أن "العصابات المنظمة" قد "تلاشت فجأة في بعض البلدان من أول هزة دون أن تترك وراءها مقومات الدولة. ووجدت الشعوب المغلوبة على أمرها نفسها تحت واقع مرير دون دولة ولا مؤسسات".
الأنظمة الديمقراطية المنتخبة هي وحدها التي يمكن وصفها بالأنظمة الحقيقية لأنها دول مؤسسات ومنظمات ومجتمعات مدنية متماسكة، وتتخذ من القوانين والأحكام عماداً لحكوماتها. أما أنظمتنا المزعومة فهي لا تملك من النظام سوى اسمه. لا عجب أن من بين الشعارات التي رفعها الثوار الليبيون شعار: "الشعب يريد بناء النظام"، على اعتبار أن النظام السابق لم يكن نظاماً بأي حال من الأحوال، مثله في ذلك مثل الكثير من أقرانه الجمهوريين، كما جادل المفكر المغربي عبدالإله بلقزيز. ولا عجب أيضاً أن سمعنا الرئيس التونسي الجديد الدكتور منصف المرزوقي يدعو بمناسبة الذكرى الأولى للثورة التونسية إلى "بناء النظام". وليس هناك أبلغ من الاتهامات التي كانت توجهها الحكومات العربية لبعضها البعض عندما كانت تختلف فيما بينها كما يجادل داود الشريان في إحدى مقالاته، فعندما تكون العلاقات طيبة بين حكومة وأخرى كانت وسائل الإعلام في دولة ما تصف الدولة الأخرى بالدولة الشقيقة، وعندما كانت تسيء العلاقات، كانت تصفها بـ"النظام الحاكم"، وهو الوصف الصحيح لها، على اعتبار أن كلمة نظام تعني، في هذه الحالة، عكسها، أي اللانظام أو بالأحرى الطغمة الحاكمة.
بعد كل ذلك، أليس حرياً بالمتظاهرين أن يرفعوا شعاراً يقول: "الشعب يريد إسقاط العصابة المنظمة"؟