بقلم : د.عبد الستار قاسم ... 18.03.2012
تحتل مسألة تهويد القدس مكانا متميزا في وسائل الإعلام العربية والإسلامية، وتحظى بالكثير من التصريحات الصادرة عن مسؤولين وقادة دول على اعتبار أن المدينة مقدسة، ومستقبلها يشغل بال الغيارى على المقدسات الإسلامية والمسيحية. وقد عقد مؤخرا مؤتمر في الدوحة بهذا الشان، وآخر في بيروت، وصدرت عنهما بيانات تؤكد على عروبة القدس، وعلى ضرورة حماية الأماكن المقدسة، والدفاع عن المعالم التاريخية والحضارية التي تتميز بها المدينة.
في الوقت الذي كانت تنطلق فيه الخطابات الرنانة دفاعا عن القدس في مواجهة التهويد، كانت الجرافات الإسرائلية تفتح طرقا جديدة في المدينة المقدسة، وتمهد الأرض من أجل بناء المزيد من الوحدات السكنية. الزمجرة العربية كانت تدوي في القاعات والصالات الفارهة، وضجيج الجرافات الإسرائيلية كان يتصاحب مع الغبار وهدير الشاحنات التي تنقل مواد البناء. وهذا مظهر يتكرر على مدى السنين، ولا نكاد نرى لسنته تغييرا.
مخططات إسرائيل
كثيرا ما نسمع من قادة عرب ووسائل إعلام عربية عن مؤامرة صهيونية من أجل تهويد القدس، ومن ثم هجوا متنوعا في الحدة والشدة والكثافة للصهيونية وإسرائيل وأعوانهما دون أن نعرف بالضبط أسرار هذه المؤامرة. من المعروف أن المؤامرة تتم في الخفاء والكواليس، وخلف الستائر وتحت الطاولة، لكن لم يلاحظ أحد أن إسرائيل تقوم بتهويد القدس سرا، بل يشاهد الجميع أعمال إسرائيل العلنية والتي لا تحتاج إلى الكثير من الدراسة والتمحيص. إسرائيل تصادر الأرض وتهدم البيوت، وتخطط وتتخذ القرارات وتنفذ على مرأى من العالم، وما تقوم به منشور منذ سنوات طويلة في الكتب والمجلات والجرائد والبرامج القُطْرية والحزبية.
بدأت عملية التخطيط لمدينة القدس عام 1918 عندما استدعى الضابط البريطاني اللنبي المهندس وليم ماكلين لوضع خطة لتنظيم مدينة القدس، وعام 1919 عندما طلبت الحركة الصهيونية من أحد مخططي المدن واسمه باتريك غيديز وضع خطة لترتيب مختلف المرافق والشوارع في المدينة. وتوالت الخطط لتصل إلى البعد المفاهيمي عام 1949، أي البعد الذي يضع الأبعاد الدينية والتاريخية والسياحية بالحسبان والتي تشكل أساس الحركة العمرانية للمدينة. ثم توالت خطط بعد إعلان إسرائيل المدينة موحدة عقب حرب حزيران/1967، وما زالت الجهود التخطيطية والتنفيذية الإسرائيلية مستمرة.
المهم أن خطط إسرائيل منشورة ويمكن الاطلاع عليها بطرق مختلفة، لكن يبدو أن الطرف العربي لا يحب القراءة، ويفضل تحرير القدس بقفزات هوائية وخطابات متكررة العناوين والمحتوى. خطط إسرائيل واضحة بشأن البلدة القديمة وبشأن محيطها، وهي تضع تفصيلات للأماكن السكنية، وللشوارع والأماكن السياحية والمؤسسات العامة والأسواق والمتنزهات ومواقف السيارات والفنادق والمدارس والساحات، الخ. وهي واضحة أيضا فيما يخص الأماكن السكنية للعرب، وللمحيط المباشر للبلدة القديمة بما فيها المقبرة الإسلامية وسلوان. أي أنها لا تترك شيئا لوسائل الإعلام لكي يشكل خبرا لم يتم الإفصاح عنه مسبقا.
استفزاز العرب إعلاميا
على الرغم من أن الخطط الإسرائيلية منشورة ومفصلة، إلا أن علامات الاستفزاز لا تظهر على القيادات الفلسطينية والعربية إلا عندما تتحدث وسائل الإعلام الإسرائيلية والغربية عن تنفيذ مشاريع جديدة في المدينة المقدسة. فمثلا، من الواضح أن إسرائيل قد وضعت خططا منذ زمن بعيد لهدم بيوت بلدة سلوان، لكن حركة الفلسطينيين والعرب لم تظهر إلا عند التنفيذ الفعلي للجرافات الإسرائيلية. وكذلك الأمر أيضا لجبل أبو غنيم الذي كان يظهر في المخططات على أنه حي استيطاني يهودي، لكن حب القادة له لم يظهر إلا بعدما بدأت إسرائيل بتمهيده للبناء الاستيطاني.
يظهر تأثير هذا البعد الإعلامي عندما ينظر المتتبع إلى وحدات سكنية يتم بناؤها في العديد من المستوطنات المنتشرة في الضفة الغربية بهدوء ودون ضجيج. هذه الوحدات لا تثير القادة العرب والفلسطينيين ولا الإعلام العربي والفلسطيني، ولا تحظى بأي اكتراث على أي مستوى محلي أو عربي على الرغم من أنها واضحة للعيان ويراها المارة ترتفع يوما بعد يوم. يقودنا هذا إلى التساؤل: ماذا كان يمكن أن يستفز القادة لو أن إسرائيل مضت بتنفيذ كل مخططاتها دون أن تتحدث عن ذلك في الإعلام؟ تقديري أن الهدوء سيكون سيد الموقف، ولن يشعر بالمأساة إلا الذي يرى نفسه على مغرفة جرافة إسرائيلية تلقي به في مكان بعيد عن بيته المتهدم.
وإن لم يكن هناك خطأ في التقدير، فإن قادة العرب والفلسطينيين لا يتحركون دفاعا عن القدس إلا بدافع الإحراج وليس بدافع العمل الجاد على إنقاذ المدينة. وإلا، لماذا لا نسمع صراخا إلا بعدما تبدأ إسرائيل بعملية تنفيذ مغطاة إعلاميا؟
المخططات العربية
تركز النشاط العربي بخصوص مدينة القدس شرق منذ عام 1948 بالأمور التالية:
أ- قامت بلدية القدس إبان الوجود الأردني بتطوير مخططي عمران للقدس شرق عامي 1962 و 1965، حددت فيهما الأماكن السكنية والصناعية وغير ذلك، لكن المدينة سقطت بيد إسرائيل عام 1967.
ب- منذ عام 1967 والعرب يجرون إلى الأمم المتحدة لتقديم شكاوى ضد إجراءات إسرائيل في القدس شرق. وقد صدرت قرارات غير ملزمة كثيرة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن تدعو إسرائيل إلى عدم تغيير معالم المدينة المقدسة والتوقف عن الإجراءات التي تقوم بها بهذا الخصوص. إسرائيل استمرت في تنفيذ خططها على مرآى من العالم، والعرب ما زالوا يصرون على الذهاب إلى الأمم المتحدة. وقد عبر رئيس السلطة الفلسطينية مؤخرا عن نيته الذهاب إلى المؤسسة الدولية من أجل وقف تهويد القدس.
ت- حاول العرب تنفيذ مشاريع إسكان في القدس شرق بعد عام 1967 مثل مشروع نسيبة، لكن ذلك لم يستمر غالبا بسبب إجراءات إسرائيل ومحاصرتها للإسكان العربي.
ث- تركزت الجهود العربية إلى حد كبير على عبارات الشجب والاستنكار لما تقوم به إسرائيل من إجراءات تهويدية، وعلى رصد أموال لدعم أهل القدس من مختلف النواحي. وقد وصلت بالفعل بعض الأموال، والتي استثمر بعضها بشكل صحيح.
الأمن العربي والأمن الإسرائيلي
جنبا إلى جنب إجراءاتها التهويدية، عملت إسرائيل على وضع الإنسان العربي في حالة غير آمنة على مختلف المستويات الاقتصادية والعمرانية والجسمانية. لقد فرضت على الناس ضرائب لا تتناسب مستوياتها مع مستويات الدخل العربي، وضيقت عليهم اقتصاديا من أجل أن يلتحقوا بسوق العمل الإسرائيلي وذلك لرفع مستوى اعتمادهم في لقمة الخبز على إسرائيل، وربط مستقبل أولادهم الاقتصادي بإسرائيل. وعملت على منعهم من ترميم بيوتهم، ووضعت قواعد صارمة لعملية العمران سواء كان بإضافة غرف إلى مساكن قائمة، او بناء مساكن جديدة. ولم تتوان عن هدم بيوتهم سواء كانت مرخصة منذ العهد الأردني، أو بدون ترخيص من بلدية القدس التي تنفذ سياسة الاحتلال. ولاحقت الناس أيضا لأسباب سياسية وأمنية، فاعتقلت كثيرين إداريا وأمنيا، وشددت من إجراءات التفتيش وبث اجواء الرعب والإرهاب.
إسرائيل معنية باستمرار على إبقاء العربي في حالة غير آمنة من أجل أن يرحل، وقد رحل كثيرون إلى خارج القدس وخارج فلسطين. آلاف من الناس لم يتحملوا الضغط المستمر، وفضلوا الرحيل إلى مناطق داخل الضفة الغربية، بينما تمكن آلاف آخرون من الحصول على تأشيرات هجرة إلى دول غربية.
وفي المقابل، تعمل إسرائيل باستمرار على توفير الأمن لليهودي وذلك لتشجيعه على السكن في القدس بالشقين شرق وغرب، وللبقاء فيها دون تفكير بالرحيل. ولهذا عملت باستمرار على توفير أشغال وأعمال لكل من هم في سن العمل، ووفرت لهم المساكن في المستوطنات التي تقيمها بشروط سهلة جدا، وأحاطتهم بمختلف أنواع الحراسات والأجهزة الأمنية البشرية والإلكترونية.
هذه المسألة هي مربط الفرس في التمادي الإسرائيلي والفشل العربي. لقد فهمت إسرائيل معادلة الأمن فقوضته للعرب وحرصت عليه لليهود، بينما ظن العرب أن أهل القدس يمكن أن يرتاحوا في ظل الاحتلال دون مقاومة، فامتنعوا تماما عن القيام عن كل ما من شأنه وضع اليهودي في حالة من التوتر والشك تمنعه من السكن في القدس. ظن العرب أن الحل لمشاكل أهل القدس مالي، ولم يدركوا أن المال يمكن استنزافه بسهولة ليصب في الخزانة الإسرائيلية عبر إجراءات مالية وضريبية إسرائيلية. لقد ساعدت الأموال العربية أهل القدس بعض الشيء، لكنها ساعدت أيضا الخزانة الإسرائيلية.
الالتزام الوطني
كان من المهم تعزيز الروح الوطنية لدى أهل القدس وذلك برفع مستويات الانتماء والولاء، ورفع درجة الوعي بما يجب أن يقوم به الفرد والجماعات من أجل مقاومة اقتصادية ورفض لمحاولات التطبيع وتصد لإجراءات التهويد بمختلف الوسائل. هذا لا يعني أن أهل القدس ليسوا وطنيين، لكن المعنى أن برامج التعزيز الوطني يجب أن تبقى حاضرة باستمرار من قبل منظمة التحرير والفصائل الفلسطينية، وذلك من أجل رفع مستوى الشعور بالأمن لدى العربي، وخفض مستواه لدى اليهودي. أي من الضروري اتخاذ سياسات عربية مضادة تماما للسياسات الأمنية الإسرائيلية.
من المؤسف أن التركيز على الأموال قد أثار بعض النفوس فتعلمت الفساد المالي وأساءت لأهل القدس ولقضية القدس، ومن المؤسف أيضا أن بعض القيادات التي من المفروض أن تدافع عن القدس تعترف بإسرائيل وتطبع العلاقات معها، وتشكل مثلا سيئا للناس من الناحية الوطنية. لقد تدهورت الأوضاع الوطنية إلى درجة دفعت العديد من الناس إلى الندم على ما قدموه من تضحيات، وإلى العزوف عن السلوكيات التي تصب في البوتقة الوطنية.
القدس لا تحفظها الأموال، وإنما يحفظها الناس. فإذا كان الناس مؤهلين وطنيا ونفسيا وعقائديا، فإن الأموال ستمكنهم وتعزز مواقفهم، وإن لم يكونوا فإن كل أموال الأرض لن تنفع. تغيب القضايا بغياب الإنسان، وتحيا بحياته. ولم يعد خفيا على أغلب الفلسطينيين أن هدف الأعداء ومن والاهم من العرب والفلسطينيين قد تركز على قهر الإنسان الفلسطيني، وتحويله إلى مجرد كائن مستهلك غير مكترث بمعنى الوجود الإنساني.
لهاث خلف السرابّ
بهذه الروح المتهاوية، وعجز العرب والفلسطينيين عن مواجهة إسرائيل بالطريقة التي تفهمها سيستمر تهويد القدس وبدون أدنى اكتراث بمؤتمرات العرب وتصريحاتهم، ولن يجد رئيس السلطة الفلسطينية أمامه إلا الجري إلى الأمم المتحدة ومناشدة العرب زيارة القدس بتصريح إسرائيلي والصلاة فيها تحت حراب إسرائيل. وعليه أن يبحث لهم عن فتوى فيما إذا كانت الركعة في الأقصى بإذن العدو وتحت حرابه تساوي خمسمائة ركعة.