بقلم : د.خالد الحروب ... 02.07.2012
السؤال الكبير الذي يتأمله الكل بعد فوز مرشح "الإخوان المسلمين" بالرئاسة المصرية هو إلى أين تتجه مصر؟ على مدار أكثر من ثمانية عقود راكم "الإخوان" والإسلاميون في المنطقة شعبية كبيرة مستفيدين من فشل الأنظمة والحكومات وبرامجها السياسية والاقتصادية المختلفة. الشعار الشعبوي الذي رفعوه "الإسلام هو الحل" كان فضفاضاً ولا يطرح أية تفاصيل، لكنه كان نافذاً في الشرائح الشعبية ولا يمكن منافسته.
الآن جاء الوقت لاختبار ذلك الشعار الذي اتكأ على مقاربة أيديولوجية وإسناد شعبي إعتاش على فشل الآخرين. أحد التساؤلات التي تُثار كثيراً هذه الأيام يحوم حول ما إن كانت التجربة الإخوانية في مصر ستتجه نحو الصيغة الإيرانية أم تلك التركية. قبل مقاربة هذا التساؤل ومحاولة الإجابة عليه من المهم التوقف قليلًا عند اللحظة التاريخية التي تمثل انتقال الإسلاميين من المعارضة إلى الحكم، والتي تشكل نقطة فاصلة ليس فقط مسيرة الإسلام السياسي في المنطقة، بل وربما في تشكيل موازين القوى الفكرية والسياسية في المرحلة القادمة برمتها. هذه اللحظة هي الاختبار الحقيقي لصمود الأيديولوجيا والشعار أمام الواقع والسياسة، وهي لحظة حساسة جداً في تاريخ الحركات والعقائد والأفراد.
أحد هؤلاء الذين واجهوا هذه اللحظة في التاريخ الإسلامي كان عبد الملك بن مروان أحد أشهر خلفاء الأمويين والذي كان معروفاً بتدينه وتقواه والتزامه العبادة والصلاة قبل تسلمه الحكم حتى وُصف بأنه حمامة المسجد. لكن عندما جاء خبر وفاة أبيه وانتقال الحكم إليه كان المصحف في حجره فأطبقه وقال قولته المشهورة "هذا آخر العهد بك". في سنوات حكمه تحول عبد الملك من حمامة مسجد إلى نمر سياسي، وأصبح كائناً آخر. قد يُقال الكثير في تحليل وفهم تحول عبد الملك من طهورية النص إلى واقعية السياق، لكن المهم هنا هو أن هذا التحول هو النمط العام، وليس الاستثناء لانتقال البشر من مربع الأيديولوجيا المثالية إلى أرضية الواقع بكل تعقيداته ومساوماته. وليس جديداً القول بأن هذا النمط العام يخترق الثقافات والحضارات والأيديولوجيات أياً كانت. هناك بطبيعة الحال درجات متفاوته في التحول، بعضها جزئي وبعضها الآخر كلي ومدهش. وفي ذات الوقت لا يعني ذلك أن البشر يتحولون إلى "وحوش سياسية" عندما ينتقلون إلى مربع السياسة الواقعية. المعنى المهم هنا والجوهري هو الانتقال من طور "اليوتوبيا" الخلاصية البحتة إلى طور الواقعية العقلانية والبراجماتية. في اصطدام الأيديولوجيا بالواقع عقب تسلمها زمام الأمور والحكم هناك في المجمل العام اتجاهان يمكن رصدهما تاريخياً: الأول هو خضوع الأيديولوجيا التدريجي للواقع وإعادة إنتاجها لذاتها بحيث تتواءم مع الواقع، بما يزيد من عقلنتها وبراجميتها، والثاني عناد الأيديولوجيا ومناطحتها للواقع بغية تغييره جذرياً وإعادة قولبة الحياة وفق ما تراه. النمط الأول هو الأكثر تسيداً في تاريخ البشر لأنه الأقرب إلى نبض الحياة، والنمط الثاني قاد إلى أكثر الكوارث الإنسانية والإبادات الجماعية حين تصر الأيديولوجيا على إعادة إنتاج الحياة والبشر وفق ما ترى. النازية هي أفضل وأبشع مثال دال على كيفية تحول الأيديولوجيا التي تريد تغيير العالم إلى أداة إبادة متوحشة. شيوعية ستالين اقتربت من النازية في محاولتها صهر شعوب جمهوريات الاتحاد السوفييتي وقولبتهم اجتماعياً واقتصادياً وثقافياً، وهي السياسة التي أسست للانهيار الذي صار حتمياً في مستقبل التجربة السوفييتية. صورت رواية "مزرعة الحيوان" لجورج أورويل وبصورة مبهرة كيفية تحول الأيديولوجيا الشيوعية على يد ستالين وبكل طروحاتها المثالية إلى توحش حقيقي عندما لم تتصالح مع الواقع وحاولت إعادة تشكيله في القوالب الجاهزة للأيديولوجيا. قريباً من ذلك كانت تجربة "ماو سي تونج" في الصين، والتي كادت تقود إلى نفس النهاية الكارثية للاتحاد السوفييتي. بيد أن الإنقاذ الكبير تم بسبب عقلانية وبراجماتية "الحزب الشيوعي الصيني" الذي لم تتبق من شيوعيته سوى التسمية والوصف. على ذلك، إما أن تتواءم الأيديولوجيا مع الواقع وتتواضع له وتحاول تحسينه تدريجياً، وإما أن تتحول إلى كارثة عليه وعلى نفسها، فتنهار هي وتعمل في ذات الوقت على تدمير الواقع الذي أرادت خدمته.
أخذاً بالاعتبار أهمية الانعطافات الأيديولوجية إلى مسارات السياسة، فإن وصول الإخوان إلى الحكم بعد ثورة يناير يشكل منعطفاً تاريخياً بكل ما في الكلمة من معنى. وسوف يكون لتجربتهم السياسية ونتائجها وما تؤول إليه الأثر الأكبر على كل قوى الإسلام السياسي في المنطقة. والسؤال الكبير، فكرياً وسياسياً هو في ما إن كان وصول مرسي لكرسي الحكم في مصر سوف يشكل بداية العقلنة لأيديولوجيا التيار الإسلامي، وبالتالي اندراجه في مسارات براجماتية وواقعية وتحالفيه (على النمط التركي)، أم الوقوع في إغراء تصلب الأيديولوجيا ومحاولة فرضها على المجتمع والظن بإمكانية صياغة الواقع وفق الافتراضات الأيديولوجية (على النمط الستاليني، أو الإيراني).
في التقدير الغالب أن تجربة إسلاميي مصر ستكون بعيدة عن التجربة الإيرانية لعدة أسباب موضوعية، وتكون قريبة من التجربة التركية وإنْ ليست نسخة عنها. لا يوجد عند "الإخوان" في مصر، ولا في أي سياق سُني آخر... مرجعيات دينية على النمط الشيعي يمكن أن تتحول إلى سلطات سياسية ودينية تتجاوز التنظيم وتفرض نفسها على المجتمع، وتحيط نفسها بهالة قريبة من القداسة والعصمة. المرجعيات الدينية السُنية ضعيفة، لحسن حظ مجتمعاتها، وهي إما مرجعيات دينية سياسية تابعة لتنظيمات وأحزاب، وهذه لا تمتلك سلطة إلا على أفراد التنظيم ودائرة ضيقة حوله، وإما مرجعيات دينية رسمية تابعة للمؤسسة التقليدية، وهي الأخرى لا تملك سلطة نافذة على المجتمع. "عدم المركزية" الدينية في التقليد السُني يتيح فضاءات أوسع للنقد والانفلات والإبداع، رغم أنه يوفر أيضاً مساحات أخرى للتطرف وبروز أمراء ومجموعات متصارعة على هوامش التيارات الرئيسية. الفارق المهم الثاني بين التجربة الإيرانية والتجربة المصرية من زاوية حكم الإسلاميين هو أن الأولى تمتعت بوجود مورد النفط الذي استطاعت أن تتحكم عبره في المجتمع وتطبق سيطرتها عليه وفق نمط الدولة الريعية. وتُبقي من خلال ذلك على نمط الحكم السلطوي، الذي لا يحتاج إلى الآخرين في الساحة المحلية. في مصر ليس هناك موارد غنية يسيطر عليها نظام حكم ويستطيع عبرها شراء ولاء المجتمع والتحكم فيه، بما يلزم أي حكم منتخب ديموقراطياً الخضوع لمنطق الاقتصاد المفتوح وتنمية الواردات، وإقامة التحالفات مع الأطراف الأخرى.
كما انتهت الأيديولوجيات الماركسية والقومية و"البعثية" عندما وصلت إلى الحكم سواء عبر اختفاء صيغها المتطرفة، أو تعقلنها وإعادة إنتاجها لذاتها، إنْ إرادات البقاء على قيد الحياة السياسية، فإننا سوف نشهد السيرورة ذاتها في المستقبل القريب والمتوسط بشأن الإسلام السياسي. إنْ ذروة الانتصار التي حققها الإسلاميون في مصر في هذه اللحظة التاريخية في المنطقة سوف تكون بداية النهاية للأيديولوجيا الإسلاموية الصلبة كما عرفناها، وسوف نرى اندراجها في سياقات الواقع والبراجماتية طوعاً أو كرهاً.