بقلم : د.خالد الحروب ... 10.09.2012
لا يواجه الإسلاميون في حقبة انخراطهم في السلطة سواء في مصر أو غيرها المعضلات الكبرى التي تعاني منها مجتمعاتهم في صعد الاقتصاد والبطالة والفساد والسياسة وغير ذلك، بل تُضاف إلى ورطتهم الكبرى حقيقة أن انخراطهم في السلطة ومواجهتهم للأسئلة الصعبة يأتي على خلفية تصحر فكري كارثي بشأن علاقة الإسلام مع السياسة في العصر الحديث.
الحركية الإسلامية المعاصرة ومنذ تأسست حركة "الإخوان المسلمين" في الربع الأول من القرن العشرين، وحتى الآن اهتمت بالتنظيم على حساب التنظير، وكرست جهودها وأوقاتها ومواردها في إقامة منظمات وحركات كبيرة، لكن من دون أن تقيم بنيات فكرية سياسية واجتماعية ودستورية متماسكة ومعاصرة تواجه المشكلات الكبرى التي تطرحها مسألة دمج الدين في السياسة. انتهت الحركة الإسلامية "العالمية" إلى وضع مشوه، وإنْ كان ظاهرياً يلخصه وجود جسم كبير ومنتصر، لكن بعقل سياسي وفكري متواضع.
ما يواجهه الإسلاميون في مصر وتونس وليبيا وغزة وفي كل مكان وصلوا فيه إلى السلطة هو التصحر الفكري حيث لا إجابات على الأسئلة الصعبة، وفي الوقت نفسه تنعدم الجرأة الفكرية والشجاعة السياسية عند كثيرين منهم، وخاصة مفكريهم لمواجهة الجمهور العريض من منتسبيهم بهول الاكتشاف وخطورته وهو عدم توافر "عدة فكرية" حقيقية وإجابات عصرية وناجعة لما كان قد تاق ابن رشد في الوصول إليه من "فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال". التجربة الإنسانية الطويلة وعبر قرون متتالية من الحروب الدينية والأهلية قدمت أقرب الصيغ لتلك الإجابات ودارت حول إحالة الشريعة للشأن الفردي والخاص، وتفويض الحكمة لإدارة الدولة والشأن العام.
سيقول كثيرون إن تلك كانت إجابة أوروبا على معضلات تحالف الدين مع الإقطاع وما انتجاه من حروب دينية، ولا يجب أن تنسحب تلك الإجابة على تجارب الشعوب والحضارات الأخرى وعلاقة الدين بالسياسة. ربما تكون ثمة وجاهة نظرية في هذه المقولة، لكنها من ناحية عملية غير مقنعة، لأنه حتى هذه اللحظة لم يقدم لنا منظرو ربط الدين مع السياسة، أي نموذج عملي فعال على الأرض يحقق ما قدمه نموذج فصلهما عن بعضهما البعض.
إحدى المشكلات الكبرى التي تواجه الفكر الإسلامي الراهن هو مسألة الدولة الحديثة وتعريفها وتعريف المواطنة الدستورية، وهذه كلها بنيات جديدة تحدد الولاء والعلاقة بين الفرد والدولة على أسس غير دينية. بمعنى آخر فإن الفرد الموجود في الدولة الحديثة، هو الفرد المواطن التابع لهذه الدولة دستورياً وقانونياً، وبسبب تبعيته تلك، فإنه يتمتع بحقوق كاملة ومتساوية مع بقية الأفراد بغض النظر عن لونهم أو عرقهم أو دينهم. هذا بإبتسار شديد هو جوهر ومعنى الدولة المدنية. في الدولة المدنية الحديثة هناك أفراد لهم أديان مختلفة، وربما ليس لهم أديان أيضاً، وينحدرون من أعراق وإثنيات مختلفة، لكنهم متساوون تماماً أمام الدستور والقانون. هذا التطور في شكل الاجتماع السياسي للبشر حديث وعمره لا يزيد على قرنين أو ثلاثة. قبل ذلك كان العالم، ومن ضمنه عوالم العرب والمسلمين، محكومة بدول دينية أو قبلية، أي أن علاقة الفرد بالإمارة أو الإمبرطورية أو الدولة القائمة محكوم بالولاء الديني أو القبلي. الفرد المُختلف عن دين أو عرق الإمبرطورية، أو السلطة القائمة، لن يتمتع بحقوق متساوية، وعليه أن يتعايش مع حقيقة أنه فرد ناقص الحقوق وسط مجتمع أغلبيته تدين بدين آخر، أو تنتمي لعرق آخر. إن لم يعجبه العيش وفق هذه المعادلة، لن يكون أمامه سوى الرحيل والبحث عن مكان تكون فيه الغالبية مشابهة له دينياً أو عرقياً. هذا كله في الحالات المثالية التي لم يتطور فيها انتقاص الحقوق والنظرة الدونية لـ "الآخر" المختلف دينياً، أو عرقياً إلى إقصاء جسدي أو تطهير عرقي أو ديني أو قتل جماعي.
في الدولة الحديثة التي فاز الإسلاميون بالسلطة في عدد منها يتم تعريف الفرد وفق ما تفترضه معطيات هذه الدولة. فالفرد المصري مثلاً ينتمي للدولة المصرية بكونه مصرياً أولاً وأخيراً، وبغض النظر عن عرقه وإثنيته ودينه، أو حتى عدم وجود دين له. كونه مصرياً وفرداً في الدولة، فإن هذا يوفر له حماية دستورية وقانونية تامة ومطلقة وكافيه ومتساوية مع كل الأفراد المصريين الآخرين. كل الاختلافات بين المصريين، كما في كل مجتمع في العالم، تكون تحت الدستور. خلافاتهم السياسية والدينية والاجتماعية وصراعهم على السلطة وغير ذلك يجب أن تتم على قاعدة المساواة، وتحت مظلة الدستور. تلك الخلافات والصراعات، في الدولة المدنية، تنظمها الديموقراطية التي جوهرها المحافظة على إبقاء الصراع والتنافس الداخلي في إطار الوسائل السلمية. نتيجة الديموقراطية هي وصول أغلبية ما الى السلطة لفترة زمنية محددة وإدارة الدولة. هذه الأغلبية تسيطر على السياسات الحكومية ومن حقها أن تفرض رأيها وبرنامجها على تلك السياسات (الحكومية مرة أخرى)، وتثبت للمجتمع بأن برنامجها السياسي والاجتماعي هو الأفضل. لكن ليس من حق تلك الأغلبية أن تعود إلى الأصل المؤسس للدولة الحديثة، أي الفكرة الدستورية والقانونية والمواطنية، وتعيد تشكيله وفق منظور غير مدني، وبحيث تخل بالجوهر الأساسي فيه، وهو المساواة المطلقة بين الأفراد في الرقعة الجغرافية المعينة.
ليس من حق الأغلبية حتى لو كانت تشكل 99 في المئة من السكان أن تصوغ دستوراً ينص على أن إثنية أو عرق أو دين تلك الأغلبية يشكل دين الدولة ودين المجتمع الرسمي، لأن ذلك ينفي قانونياً ودستورياً مواطنة الـ 1 في المئة الباقيين. وإذا أرادت أن تقوم الأغلبية بصوغ دستور ينص على أفضلية مطلقة لها، فإن عليها أن تقرر في ذلك الدستور أن من هم ليسوا من تلك الإثنية أو العرق أو الدين لا يعتبروا مواطنين كاملي المواطنة. أو أن تطلب منهم الهجرة.
أساس الدولة المدنية الدستورية يقوم على المساواة التامة في المواطَنة، وإنْ اختل هذا الأساس، فنحن لا نتحدث عن دولة مدنية أو دستورية. من هنا فإن النتيجة الأولية لبعض السجالات الحالية التي تخوضها الجمعية التأسيسية لوضع الدستور المصري مقلقة إلى حد بعيد، خاصة بشأن ما استطاع الإسلاميون، "الإخوان" والسلفيون والأزهر، من فرضه حول المواد الأولى التي تنص على أولوية وسيطرة الدين والشريعة بشكل لا يمكن إلا أن يقود إلى دولة دينية. ومشكلة الإسلاميين في مسألة صوغ النصوص الدستورية تكمن في قناعتهم بأنهم يمثلون الأغلبية الانتخابية، وهي حقيقة صحيحة من ناحية لكن مرة أخرى الأغلبية الانتخابية لا تؤهل أحداً كي يصوغ دستوراً، وفق هوى الأغلبية. هل معنى ذلك أن يخضع الدستور لهوى الأقلية، وما هو معيار الصياغة القانونية والدستورية إذن؟ الجواب على ذلك هو أن كل نص من نصوص الدستور يجب أن يُصاغ وفق معيار أساسي هو التالي: هل يحقق هذا النص المساواة التامة بين المصريين، ولا ينتقص من حق أي فرد مصري؟ إذا كانت الإجابة بنعم على هذا السؤال، فإن النص مدني وقانوني حقيقي. أما إن كانت الإجابة بلا، فإن النص غير مدني وغير قانوني. على سبيل المثال، ولأن من مهمة الدستور توفير الحماية القانونية لكل الأفراد المصريين لأنهم مصريون وحسب، فإنه يجب أن يكفل حقوق غير المسلمين، وغير المؤمنين أصلاً، حتى لو كانت نسبتهم واحد في المليون. لو كان هناك ملحد مصري واحد في كل مصر مثلاً، فإن على الدستور أن يحميه لأنه مصري، وهنا تكون الدولة مدنية. إما إنْ كان هناك نص في الدستور يجرد هذا المصري من حقه في الاعتقاد ويعاقبه على ذلك أو حتى يصنفه كمواطن من الدرجة الثانية بسبب اعتقاده فهنا تكون الدولة دينية حتى لو زعم قادتها غير ذلك.